كيف تُقاس برودة "الصفر المطلق"؟
ليس هناك من حدود لحرارة الشيء إذا ما كان هناك مصدر لا ينضب للطاقة. لكن البرودة ـ كما هو معروف علمياً ـ هي غياب الحرارة؛ وهناك ـ نظرياً ـ حالة من اللاحرارة أو "الصفر المطلق"، وهي أبرد من أي شيء في هذا الكون، وتوازي ـ 273 درجة مئوية أو نحو ـ 459 درجة فهرنهایت. وتفوق هذه الدرجة برودة السهوب السيبيرية، حيث تصل درجة البرودة في فصل الشتاء إلى درجات متدنية تقاس بنحو ـ100 درجة فهرنهایت؛ وكذلك فإنها تفوق أية درجة برودة يمكن التوصل إليها عبر التجارب المخبرية. وقد توصل العلماء إلى معرفتهم عن هذه الحالة من خلال قياس تمدد الغازات وتقلصها وفقاً لتغيرات درجة الحرارة.
ومن المعروف علمياً أن الحرارة هي حركة الذرات أو الجزيئات التي تؤلف جسماً ما. ومن هنا فإن أية مادة، أياً كانت جامداً ام سائلاً، أم غازاً، تتضمن بعض الحرارة، بمعنى أن جزيئاتها تتحرك بشكل أو بآخر، أما ذبذبة، أو دوراناً أو أصطداماً ببعضها البعض. ولذلك، فإننا عندما نقول مثلاً إن هذا الوعاء من الماء أسخن من ذلك، فتعني بذلك إن جزيئاته تتصادم مع بعضها أكثر من الأخر.
وعلى هذا الأساس تتوسع الأجسام وتتمدد بفعل الحرارة، نظراً لأن جزيئاتها تتحرك بشكل أكبر، مدفوعة إلى ذلك عبر التصادم مع جزيئات أخرى. ولهذا قد نری دولاب السيارة مثلاً مسطحاً أكثر وهو بارد من دولاب آخر سافر لمدة ساعة أو أكثر على الطريق.
ويستخدم العلماء الغازات بدرجات مختلفة من الحرارة من أجل دراسة السخونة، ذلك أن نمط مسلك الغازات بوضع حركة الجزيئات، التي تعتبر أداة الحرارة. وعلى هذا الأساس، فإن حصر الغاز بداخل حاوية معينة وتسخينه، يؤدي إلى تصادم جزيئاته ببعضها أكثر فأكثر، مما يزيد من حرارة جدران الحاوية بفعل توسع هذا الغاز. ومن جهة أخرى، فإن تبريد الغاز يخفف من درجة ضغطه.
ومن هنا فإننا إذا احتسبنا هذا الغاز بداخل حاوية مرنة، تغير حجمها بالتناسب مع تغير حجم الغاز الذي تحتويه، مع إبقاء درجة الضغط ثابتة، فإننا نلاحظ أن الغاز يتمدد ويتقلص بنسبة ثابتة مع كل تغير في درجة الحرارة، يرافقه حركة جزيئية متوافقة.
ومن خلال قياس حجم أي غاز عند درجة حرارة تساوي صفر درجة مئوية، ومن ثم عند درجات حرارة أخرى، يمكن القول إن أي غاز يتقلص بمعدل 273/1 من حجمه لكل درجة مئوية تنخفضها درجة الحرارة، ويؤكد العلماء منطقياً أن خفض درجة حرارة ممكنة هي التي لا تتوافق معها أية حركة جزيئية محتملة مما يعطي للغاز أي حجم على الإطلاق، ومن هنا فإننا لو أخذنا عينة من غاز يوازي حجمها ليترين عند درجة حرارة تساوي صفر درجة مئوية.
ولو خفضتا حجمها بمعدل 273/1 ليتراً مقابل كل هبوط في درجة الحرارة يوازي درجة واحدة، فإننا نجد بالنتيجة أنه على الحرارة أن تنخفض بمستوى 273 درجة مئوية حتى يصل حجم الغاز إلى الصفر. وبما أنه من المعلوم أن حجم الغاز يتولد من الحرارة، فإن درجة الحرارة عند مستوى الصفر في الحجم تصبح صفراً أو "صفراً مطلقاً": أي ـ 273.15 درجة مئوية. ويطلق كذلك على هذه الدرجة اسم «صفر كلفين، تيمناً باللورد كلفين الذي وضح فكرة الحرارة المطلقة. ويعرف معیار كلفين، المتعارف عليه في الفيزياء، وعلم الفلك، كل درجات الحرارة على أساس بعدها أو قربها من الصفر المطلق.
إلا أن علماء "الصقيع"، الذين يتخصصون بدراسة درجات الحرارة الخفيضة في المختبرات، يؤكدون على أنه من غير الممكن فعلياً التوسل إلى درجة الصفر المطلق. إذ أن أي عملية تبريد تصبح أقل فعالية كلما اقتربت المادة من الصفر المطلق، نظراً لأن هذه العملية نفسها تستخدم الحركة الجزيئية من أجل إبطاء حركة جزيئية أخرى، إلا أن العلماء توصلوا إلى درجات حرارة توازي 0.0001 درجة أعلى من الصفر المطلق، وذلك من خلال تجاربهم على عينات من المطاط مع استخدامهم للحقول المغناطيسية وللهيليوم السائل. وكذلك فقد أستطاع هؤلاء العلماء التوصل إلى درجات برودة أقل تصل إلى مستوى 0.000001 درجة فوق صفر كلفين، من خلال إجراء تجاربهم على جزيئات فردية أصغر من ذرات المطاط.
ولكن ما الفائدة من هذه الدرجات الحرارية الخفيضة؟ الفائدة الأولى هي في افتعال ثورة في ميدان تقنية الكومبيوتر، فإن أجهزة الكومبيوتر التي يمكنها الاستفادة من العملية التي تعرف باسم "فرط الموصلية"، والتي لا تتم إلا عند درجات برودة أخفض من سبع درجات كلفين، سوف تكون أسرع بعشر مرات من أجهزة اليوم، ولن تستهلك سوى كمية ضئيلة من الكهرباء كما أنها ستكون أصغر حجماً بكثير من كومبيوترات اليوم.
وأيضاً فإن هذه الأجهزة الحديثة سوف تستعمل نوع جديدة من الموصلات الكهربائية تعرف به "رباط جوزفسون"، وهي تعمل من دون مقاومة كهربائية، بعكس على الأجهزة الإلكترونية المعروفة اليوم، وسيكون بإمكانها أن تنتقل من نمط التشغيل إلى نمط الانطفاء بمعدل واحد على ستة تريليون من الثانية، الأمر الذي يشكل تحدياً لكل قوانين الفيزياء الكلاسيكية.
وتكون حالة فرط الموصلية ممكنة عندما تبرد بعض المواد لدرجة من جزيئاتها الكبيرة، مثل الذرات والجزيئات، تتوقف عن الذبذبة والأمر الذي يسمح للالكترونات الصغيرة بالسفر براحة من دون التصادم مع الذرات القريبة. والواقع أن ذبذبة الجزيئات الكبرى هي التي تخلق المقاومة الكهربائية وهي التي تهدر الوقت والطاقة في أي نظام كهربائي.
ومن هنا فإن جهاز كومبيوتر مزود بموسلات جوزفون سوف يضم نحو مليون رباط موصل، وسوف يعمل بكفاءة فقط عندما يكون مغموراً بمغطس هیلیوم سائل بدرجة حرارة تصل إلى ربع درجات كلفين، وذلك لإبقاء المدارات الكهربائية باردة كفاية.