كيف يُعرف الوقت؟
كانت أول ساعة صنعها الإنسان على شكل فرع شمسي من نوع ما، وكانت تطلعه على الوقت بالدقة التي كان يحتاج إليها: أي مكان الشمس في النهار، والفترة المتبقية لحلول الليل. وبإمكان هذا القرص الشمسي أن يتنبأ بقدرة تفوق قدرة العين البشرية، عن مكان وجود الساعة "الحقيقية"، وهي الشمس.
وليس من المستغرب إن لجأ الناس إلى الشمس والى تحديد مواقعها من أجل أعطاء شكل ما لأحداث حياتهم؛ فالحياة بكاملها مدينة بأستمراريتها إلى تأثيرات حرارة الشمس، طالمة أنها نمت وتطورت بتواتر مع شرق وغروب الشمس.
وعلى هذا، فإن الحاجة الأولى للوقت هي البقاء على اتصال مع محيط الإنسان المادي، ودوراته الطبيعية الموزعة بين الضوء والظلام، والحر والبرد، والمد العالي والمد الواطي والنمو والتردي: أي بمعنى آخر، فإن الإنسان بحاجة دائماً إلى توافت دوراته الطبيعية، وهي الجوع والعطش، والجنس، مع البيئة. ولهذه الاستعمالات للوقت، على الإنسان أن يطلع دائماً على مكان الشمس.
إلا أن الإنسان يحتاج في بعض الأحيان لأن يتواقت لا مع العالم الحسي فحسب، بل مع بقية الناس وهذا يشمل ركوب القطارات، والعمل في المكاتب، وتناول الغذاء مع الآخرين، إلى آخره، ..
ومن أجل هذا الغرض، وهو تنسيق نشاطات البشر مع بعضهم، يجب على الإنسان أن يعطي للوقت أسماء يفهمها العالم كله. ومن هنا، يبرز الاختلاف بين التعامل مع العالمين الطبيعي والبشري، ففيها تطلعنا الأرض والشمس على الوقت، نحتاج نحن بدورنا إلى الاتفاق مع سائر البشر على تحديد الوقت، إذا ما أردنا للوقت أن يعني شيئاً بالنسبة لنا.
وبالنسبة للعالم المتطور تقنياً برمته، فإن الأمين المتفق عليه على الوقت، هو المكتب الدولي لتحديد الساعة (BIH)، ومركزه باريس. ويظل هذا المكتب على اتصال دائم مع سائر المختبرات وأبراج المراقبة الفلكية في 70 بلداً مختلفاً، والتي تساهم في تحديد "الوقت الصحيح" بشكل رسمي.
وتشير الساعات المعتمدة لدى المكتب، بالإضافة إلى مقرات المنظمات الوطنية مثل مكتب المقاييس الوطني الأميركي، الأعجاب بمدى دقتها. إذ تبلغ دقة "الوقت الكوني المنسق" (ومختصره VTC)، وهو القياس العالمي بالنسبة للوقت، حدود واحد من بليون بالثانية تقريباً.
وتعود دقة الساعات المعتمدة لدى المكتب المذكور، إضافة إلى سائر الأعضاء، إلى خصائص عنصر السيزيوم (وهو عنصر فلزي فضي اللون)، وتكون ساعة السيزيوم عبارة عن آلة تصدر صوتاً محدد النغم والتواتر. وتعمل وتيرة الإشارة الكهرومغناطيسية على تحديد فترة ذبذبة الفوتونات التي تشكل منها بالثانية الواحدة.
ولكن بما أنه معيار الثانية هوما نريد أن نحدده ونعرفه به، فإننا نقول إن الثانية هي كتم ما من ذبذبة الفوتونات. والسؤال هنا هو: كيف نعير الذبذبات ضمن إطار زمني من دون أن نستشير الساعة التي نود ضبطها؟
والجواب هو أن ذرات السيزيوم تؤدي نوعاً من القفزات الكهرومغناطيسية وذلك عندما تكف الالكترونات ضمن تلك الذرات عن الدوران في اتجاه معين لكي تدور في الاتجاه المعاكس ـ وكل ذلك ضمن تواتر معين، فإذا ما اتفقنا على أن حساب الثانية سيتم وقت التواتر اللازم لتغيير أتجاه دوران ذرات السيزيوم، فإننا سنتفق عند هذا الحد على أن ذلك التواتر ـ وبالتالي الثانية معه يقاس وفق خصائص دوران السيزيوم الثابتة حتماً.
هذا وقد وافق كل الأعضاء المشاركين في المكتب الدولي للساعة على أن 9.192.631.770 نبض فوتوني ـ وهو تواتر دوران السيزيوم ـ هو معيار جيد لتحديد الثانية. هذه هي الثانية إذن. ومن باب العلم فقط، يمكن القول إن الثانية هي 31.536.000/1 من الوقت الذي يستلزم الأرض لكي تقوم بدورتها حول الشمس إلا أن دقة ذرات السيزيوم تظل هي المعيار الأفضل.
وما أننا نتمكنا من تحديد معيار الثانية، فإن الخطوة التالية تكون بجمعها بواسطة عدادات مبرمجة لكي تتوافق مع الفترات الزمنية المتعارف عليها من النهار، وفي الظهر، ومنتصف الليل، والساعة الرابعة صباحاً.
ولكن، كيف تُعلم الناس بالوقت من دون أن يمر الوقت وأنت تعلمهم به؟
والجواب هو أن الدول أيضاً تحتفظ لديها بساعات السيزيوم العيارية، التي تضبطها بحسب إحدى الساعات الموجودة لدى المكتب الدولي في باريس، والتي تنقل بالطائرة، ويشرف عليها فريق تقنيين مهمتهم ضبطها بشكل صحيح. وعلى هذا فإن أية منطقة جغرافية في العالم بإمكانها أن تحصل على الوقت الصحيح، وبإمكانها أن تعطي الوقت المضبوط لسكانها عن طريق الراديو.
وعلى هؤلاء السكان أن يأخذوا في عين الاعتبار الزمن الذي تستلزمه الإشارة الوقتية للوصول إليهم عبر هذه الوسيلة. فمثلاً، يقوم المكتب الوطني للمعايير في الولايات المتحدة بالبث عن طريق محطة "WWV" في فورت کولیتز، بكولورادو. وتتابع موجات الرادير الكهرومغناطيسية إلى الانتقال بسرعة 184 ألف ميل بالثانية (هي سرعة الضوء)، أي أنها تحتاج إلى 0.12 ثانية للوصول إلى نيويورك.
أما السؤال هنا فهو: من يحتاج لكل تلك الدقة، والتي تصل لحدود واحد من بليون ثانية؟ والجواب هو أن التقنية نفسها التي أوجدت هذه المعدات الدقيقة هي التي تحتاج لتقنها. ففي انظمة الملاحة الجوية والبحرية مثلاً، يتم تحديد موقع الطائرة أو الباخرة بالنسبة إلى أبراج المراقبة التي تقع على بعد آلاف الأميال منها.
فإذا ما تلقت السفينة المبحرة، لنقل، نمط موجات إذاعية مصدره واشنطن في أميركا، وغرینويتش في المملكة المتحدة على التوالي، فإن بإمكان هذه السفينة، الموجودة شمال الأطلسي، أن تحتسب موقعها عن طريق حساب أي من الإشارتين وصلها أولاً، ووفق أية أجزاء من الثانية، علماً بأن موجات الإشارتين تسافر بسرعة الضوء، ومن الضروري هنا أن تكون هذه الحسابات متناهية الدقة، إذ أن أي خط مقدار واحد على مئة ألف من الثانية بإمكانه أن يؤدي إلى خطأ باحتساب، موقع السفينة بحوالي الميلین.
أيضاً، هناك شركة الهاتف، والتي تحتاج لمثل تلك الدقة. إذ تقوم هذه الشركة بإجراء عدة مكالمات على خط هاتفي واحد، من أجل توفير الوقت، وذلك عن طريق تفتيت، كل مكالمة من هذه المكالمات إلى نبضات تكون أقصر من الكلمة نفسها (في الواقع فإن هذه النبضات لا تكون أطول من 1000/1 من الثانية).
وبعد عملية التفتيت هذه تقوم الشركة بإرسال هذه النبضات عبر الخط الهاتفي بالتوالي، حيث يتم تجميعها مجدداً على الطرف الثاني من الخط، لكي تصبح على شكل كلام مفهوم.
وهنا يحتاج الجهاز المرسل للنبضات لأن يتواقت مع الجهاز المتلقي لها بدقة تامة، وإلا فإن النتيجة ستكون مريعة، وذلك حين تختلط النبضات ببعضها، ولا يعود الحديث مفهوماً.
وأيضاً من بين الذين يعتمدون على التوقيت الصحيح، هناك محطات الراديو والتلفزيون، وعلماء الفيزياء، ورواد الفضاء وشركات الكهرباء، التي تزود المشتركين لديها بتيار متقطيع بمقدار 60 سايكل بالثانية.
ويعتبر تواتر ذبذبة ذرات السيزيوم من أعلى العمليات التي يشهدها الإنسان، وربما أدق من حركة الأرض نفسها، وهي التي أوحت للإنسان القديم بمبدأ الزمن. فمن المعلوم أن الأرض باتت تبطىء من دوراتها بمعدل ثانية واحدة بالسنة، وذلك بسبب قوة جذب القمر عند المحيطات.
وهناك سنوات يكون فيها هذا الوضع أشد فعلاً من سنوات أخرى. ويحصل العلماء على هذه المعلومات عن طريق متابعة حركة سير النجوم والكواكب ودراسة مواقعها بالمقارنة مع الأرض،
ويذهب علماء الارض (وهم الذين يبحثون في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السابقة)، الذين قاموا بدراسة أحجار المرجان القديمة، والتي تؤطر نفسها بحلقات شبيهة بحلقات الشجر، إلى حد القول إنه منذ حوالي 600 مليون سنة، كان طول النهار على الأرض 21 ساعة فقط. ومن جهة أخرى، فإنه يستلزم ساعة السيزيوم نحو 370 ألف سنة لكي تخسر ثانية واحدة. وبمعنى آخر، فإنه خلال سنة واحدة، يحصل اختلاف عميق بين النظام الشمسي وساعة السيزيوم.
ولقد وافق العلماء على حل وسط بين الشمس والساعات التي نعتمدها للوقت. وبموجب هذا الحل الوسط فإن المكتب الدولي في باريس يقوم سنوياً بتصحيح الوقت وفقاً للشمس وذلك لكي يظل الظهر ظهر قدر الإمكان بالنسبة لساعاتنا. وفي السنوات القليلة الماضية اضاف المكتب "ثانية واحدة" ما بين 31 كانون الأول / ديسمبر وأول كانون ثاني/يناير، لكي تصبح الدقيقة بحدود 61 ثانية، وذلك من أجل اعطاء الشمس الفرصة للحاق بنا.
وربما نحتاج لدقائق "أقصر" مستقبلاً فيما لو أن العالم زاد من سرعته كل بضع سنوات. وبهذا الخصوص يقول الدكتور جيمس. بارنز، لدى المكتب الوطني للمقاييس في بولدر، كولورادو أنه عندما يصبح الفارق الزمني مهماً، نحتاج إلى ضبط ساعاتنا، طالما أنه من الصعب أن نضبط حركة الأرض.
وأخيراً، فإنه لو أحب القارىء أن يحصل على الوقت بدقة تصل إلى واحد بالبليون من الثانية، فما عليه إلا أن يتصل بالمكتب على الرقم 7111 ـ 499 (303)، على أن لا ينسي أن يحتسب الزمن الذي تحتاجه الإشارة للوصول إليه بسرعة الضوء !