كثر الحديث في هذا العصر عن السفن الصاروخية التي تطلق لتجوب أركان الفضاء متنقلة من كوكب إلى آخر، وبديهي أن رحلات هذه السفن تتيح لنا فرصة دراسة جو الأرض بطريقة مباشرة، ولنفترض اننا أقلعنا على متن سفينة من هذه السفن مبتدئين من كليفلاند بأوهيون.
تبدأ الرحلة في يوم من أيام يوليو الحارة، وقد ربت درجة الحرارة في كل أرجاء المدينة على ۳۲ درجة مئوية، باستثناء ساحل بحيرة أيري، حيث يعتدل الجو نوعًا بتأثير مياه البحيرة الباردة ولا ترتفع درجة الحرارة فوق ۳۰ درجة.
الناس في حالة ملل وسأم من وطأة الحر، وكأنما لا سبيل لهم إلى مكان بارد؛ فهناك حول منحني البحيرة في توليدو على بعد 160 كيلومتر يسود الجو الحار تماما كما هو الحال في كليفلاند، وقس على ذلك جميع الاتجاهات. ولكن ما هو الحال في أعالي الجو؟
عندما تشرع سفينتنا في الصعود تتجه صوب الجنوب الغربي لترقب المناطق الوسطى للبلاد. وأول ما يلفت أنظارنا في أثناء الصعود انخفاض درجة حرارة الجو على التدريج، فهي تهبط بمعدل درجة واحدة لكل 160 مترًا.
وعندما نصل إلى علو 3 كيلومترات فقط تكون درجة الحرارة قد هبطت إلى 11 درجة. وهكذا نتبين أن الجو البارد لم يكن بعيدًا عنا بحال من الأحوال، وأنه قريب منا جدا إذا ما اتجهنا إلى السماء. وتلك لحظة تمر فيها خلال سحب متفرقة، فيمكن أن تشاهد المدينة والبحيرة خلال الثغرات التي بينها، وتكاد لا نتصور كيف يقاسي الناس هناك من شدة الحرة.
وتستمر سفينتنا في الصعود حتى تصل إلى علو ۸ كيلومترات، أو ما يقارب ارتفاع أعلى قمم جبال الأرض، وتهمس في أنفسنا: ليس بالعجيب أن يغطى جبل بلانك وجبل أفرست بالجليد طوال العام، ذلك لأن درجة حرارة الجو من حول السفينة لا تتعدى ۲۰ درجة تحت الصفر، كما أنها آخذة في الهبوط بانتظام. وتعلو تلك الطبقة من الغلاف الهوائي فوق مناطق تكون السحب وإثارة العواصف على الأرض بأسرها. ولكن لا تزال بعض الدوامات البيضاء تنتشر
فوق رؤوسنا عبر السماء على هيئة نسيج العنكبوت، إلا أننا سرعان ما سنمر بها ونعلو فوقها وتمر في مخيلاتنا ذكريات أولئك الذين تسلقوا قمم الجبال العالية حاملين معهم على ظهورهم أجهزة التسجيل من أجل أعمال الكشف والتنقيب، ومن بينها تسجيل درجات الحرارة على تلك الارتفاعات الشاهقة. وتذهلنا شجاعة أولئك الرجال، ونقدر مدى الأخطار والأهوال التي تعرضوا لها، ونذكر الأرواح التي زهقت في ميدان البطولة والصبر الذي لا حل له. أما طريقتنا نحن في الكشف فهي طريقة أسهل ولا شك. إننا في لحظات قصيرة نستطيع التحليق فوق تلك الأبعاد التي لم يبلغها أولئك الرجال إلا بشق الأنفس بعد أيام متوالية أو أسابيع كاملة.
وتلك لحظة نكون فيها قد بلغنا علواً دونه ارتفاع أعلى جبال الأرض قاطبة.
وتدل الأرصاد التي تسجلها أجهزتنا على هبوب رياح عاصفة هوجاء من حولنا نظرا لدخولنا منطقة تيار الهواء العلوي الدافق الذي يعرف علميا باسم «التيار النفاث» أو «الجيت ستريم»، والذي تصل فيه سرعة الرياح حدود ۳۰۰ من الكيلومترات في الساعة. أما على الأرض فإننا اعتدنا أن نطلق على الرياح التي تهب بسرعة ۱۲۰ كيلومترا في الساعة أو أكتر اسم النكباء «هاريكين» لعظم ما تحدث من دمار، وبديهي لو أن الرياح العليا الدافقة هذه هبت على سطح
الأرض برهة وجيزة لما تركت عليه من شيء ولغيرت معالمه ونستمر في الصعود، وتنصل إلى علو ۱۳ كيلومترا، وعندها نجد أن الرياح قد هدأت فجأة، وأن درجة الحرارة قد بلغت 55 درجة تحت الصفر. ونتساءل: «إلى أي مدى سيستمر هبوط درجة الحرارة على هذا النحو ، ونراقب أجهزتنا بدقة وعناية. ويتملكنا العجب عندما نجد أن درجة الحرارة تظل ثابتة بعد ذلك.
إن ظاهرة ثبوت الحرارة على تلك الأبعاد هي من الظواهر البديعة التي كشف عنها علم الرصد الجوي الحديث أو علم الأجواء وحتى بداية هذا القرن كان العلماء يعتقدون أن درجة الحرارة تتناقص باستمرار إلى نهاية الجو من أعلى، وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما بينت البالونات المعدة بأجهزة رصد الجو عكس ذلك لما أطلقت إلى طبقات الجو العليا فوق أوربا بين عامي ۱۸۹۹ و۱۹۰۲، فقد سجلت تلك الأجهزة ثبوت درجة الحرارة على علو نحو ۱۲ او ۱۳ كيلومترا، مع بقائها ثابتة مدى عدة كيلومترات بعد ذلك.
ويعرف كثير من الطيارين تلك الطبقة واعتادوا عليها، ونحن نطلق عليها اسم (الستراتوسفير)، إلا أن الطبقة التي تهم معظم الناس هي الطبقة الدنيا المعروفة باسم (التروبو سفير)، وذلك لأن أغلب فصول الطقس وتقلباته المثيرة إنما تمثل في هذه الطبقة الأخيرة وتنطلق مسرعين إلى أعلى، مخترقين طبقة الستراتوسفير وقد اطمأنت نفوسنا الثبوت درجة الحرارة، برغم أن معدل 55 درجة تحت الصفر هو عين الزمهرير.
والحق أنه لم يكن يخطر ببالنا أن مثل ذلك البرد القارس الذي يحاكي برد المناطق المتجمدة في الشتاء يمكن أن يوجد على مسافة لا تزيد على ۱۲ أو ۱۳ كيلو مترا فوق كليفلاند وتحلق على علو ۲۵ كيلو مترا، فنرى السماء المظلمة التي وصفها الأسبقون الذين حلقوا في بالو ناتهم إلى أعالي الجو، وترتعد فرائصنا لمنظرها وهي مليئة بالنجوم التي تبدو واضحة جلية وسط النهار، وتتساقط أشعة الشمس على سفينتنا حرة طليقة، ونرى إكليل الشمس كاللؤلؤ الذي يغلف قرصها الوهاج، وهو منظر لم نكن نراه على سطح الأرض إلا في حالات الكسوف لأن هواء تلك البقاع يبلغ من الخلفة درجة لا تمكنه من تكوين قبة زرقاء وإخفاء معالم النجوم وإكليل الشمس، وهو المعروف علميا باسم (الكورونا).
ونستمر صاعدين خلال طبقة الستراتوسفير، ومرة أخرى تتعرض للخبرة لا قبل لنا بها؛ فعلى علو نحو 50 كيلومترا ترتفع درجة الحرارة من جديد، وقد وجد العلماء أن درجات حرارة تلك الطبقات قد تربو في بعض الحالات على النهايات العظمى لدرجات الحرارة التي تتعرض لها الطبقات السطحية في أشد أيام الصيف قيا. ولطالما حيرت هذه الظاهرة فريق العلماء المختصين؛ إذ كان المتوقع أن تنخفض درجة حرارة الجو كلما اقتربنا من قمته، حتى حدث ما بلبل أفكارهم في هذا الصدد، ففي عام ۱۹۰۱ عندما ماتت الملكة فكتوريا ملكة إنجلترا، تضمنت الشعائر الجنائزية إطلاق بعض المدافع الضخمة، فكان دويها بسمع على مسافات قريبة وأخرى بعيدة، بينها مسافات لا يسمع فيها شيء، أي مناطق صباء (سكون).
وعندما تساءل الناس عن سبب تكوين المناطق الصها، هذه لم يجدوا لها جوابا مقنعا، ولكن بعد أن درس العلماء التقارير الخاصة بتلك الجنازة استنتجوا فيها بعد أن دوري المدافع الذي كان يسمع على مسافات بعيدة كان نتيجة الانحسار الصوت، أي ارتداد أمواجه وانحنائها خلال طبقة من الهواء الساخن تنتشر في أعالي الجو.
وفي هذا العصر بددت أرصاد الصواريخ كل الشكوك التي كانت تحوم حول هذه الحقيقة، فقد ثبت بصفة قاطعة أن جو الأرض العلوي يدخر كميات من الحرارة بسبب وجود الأوزون الذي هو نوع من غاز الأوكسجين. فعندما تخترق أشعة الشمس فوق البنفسجية أوكسجين تلك المناطق تعمل على تكوين طبقة من غاز الأوزون" وإنه لمن حسن حظ أهل الأرض أن تتكون تلك الطبقة؛ إذ أنها تعمل على حمايتهم، فمن المعروف أن تعرضنا لكميات ضئيلة من الأشعة فوق البنفسجية يفيد أجسامنا، أما التعرض لكميات وفيرة منها فيؤدي حتما إلى الهلاك.
وتحمينا طبقة الأوزون العليا من كثير من أخطار تلك الأشعة وتمنع عنا شر ورها وغوائلها.
وعندما نقترب من قمة الستراتوسفير نجد أن درجة الحرارة قد أخذت تنخفض مرة أخرى، حتى تنحدر على علو ۸۰ كيلو مترا إلى حدود قيمتها في طبقة الستراتوسفير الدنيا، ونتساءل: هل سيستمر انخفاض درجة الحرارة على هذا النحو بعد ذلك ؟ كلا، إننا قد دخلنا منطقة السماء التي تنعكس منها أمواج اللاسلكي مرتدة إلى سطح الأرض، إنها طبقة الأيونوسفير - أو الطبقة المتباينة المليئة بالعجائب والمفاجآت.
وتعاود درجة الحرارة الارتفاع فيما بين 46 و 80 كيلومترا حتى تصل إلى معدلات كبيرة جدًا، فهل تتاح لنا فرصة تسجيل حرارة قيمتها 1000 درجة برغم جواز ذلك لم يصل العلماء بعد إلى تفسير حقيقي لهذه الظاهرة، وقد يكون سببها امتصاص الأوكسجين لبعض أشعة الشمس القصيرة، إلا أن المسألة لم يتم حلها تماما، وكل الذي نعرفه أن تلك الحرارات العالية لا يستجيب لها جو الأرض السفلى، لقلة كثافة الطبقات العليا بدرجة عظيمة.
والمفهوم ضمنا أن خلخلة الهواء (أو نقص كثافته وضغطه) هي عملية لا تنقطع باستمرار الصعود؛ وتصل كثافة الهواء على ارتفاع ۱۱۰ كيلومترات إلى أقل من جزء واحد من مائة ألف جزء من كثافته عند سطح الأرض، وكلما صعدنا إلى القمة وجدنا كثافات متناهية في الصغر، حتى نصل إلى درجة تقارب درجة الانعدام بسبب تباعد جزئيات الهواء بعضها عن بعض مسافات شاسعة وتستمر صاعدين حتى نصل إلى علو ۸۰۰۰ كيلومتر، وعند ذلك تكون
سفينتنا قد أدركت أقصى علو يمكنها الوصول إليه، فتناقص سرعتها، ثم تميل وتتجه مقدمتها نحو الأرض لتعود قافلين؛ وننظر إلى الأرض لنرى منظرها الرائع الخلاب الذي سوف يستمتع به رجل الفضاء في المستقبل.
وتبدو لنا الأرض واضحة المعالم، بأحزمة جوها المختلف الصفات، ومناطق عواصفها المتباينة الشدة، تتحرك على سطحها. ونرى تلك الأحزمة مضيئة في بعض الأرجاء ومكشوطة في البعض الآخر، وذلك خلال امتدادها شرقا وغربا من حول الأرض. وقوام المنطقة الوسطى هو حزام الركود المعروف علميًا باسم الدولدر مز)، ذلك الحزام الذي طالما قاست من قسوة ركود الرياح فيه السفن الشراعية، التي كانت تعبر المحيطات في العصور الماضية. وحيثما تعكس السحب المنعقدة في السماء أضواء الشمس يبدو لنا هذا الحزام أبيض اللون، كما تظهر على جانبيه أحزمة الرياح التجارية التي تثير بعض السحب المتناثرة فوق القارات أما على المحيطات فإن هذه الأحزمة الهوائية تبدو في صورة قطاعين مظلمين.
وهناك على مسافات نائية من خط الاستواء نلمح بعض المساحات الواسعة البيضاء، ونعرف أنها مناطق قد تولدت فيها العواصف ونظراً لأننا في صيف نصف الكرة الشمالى كما قدمنا، يتجه القطب الشمالي للأرض نحو الشمس، وتستطيع أن نتبين نقص كميات الثلج والجليد في أقصى الشال خلال هذا الموسم، أما أقصى الجنوب، حيث المناطق المتجمدة، فهو يكاد يختبئ عن أنظارنا خلف بروز الأرض عند خط الاستواء، ولولا ذلك لرأينا بوضوح وجود مساحة فسيحة بيضاء (من الثلج في ذلك الاتجاه.
وتزداد مساحة سطح الأرض كلما اقتربنا منها، وتتسع رقعتها، حتى لا نستطيع أن نميزها ككرة. وتقارب الرحلة النهاية، وسرعان ما تخترق نطاق السحب المثارة في طبقات الجو القريبة من سطح الأرض، ثم تعود إلى كليفلاند ونقرأ درجة الحرارة فإذا بها لاتزال فوق ۳۲ درجة مئوية.