ما هو محيطنا الهوائي الذي لا نراه؟
لا تظل حالة الجو على وتيرة واحدة خارج نطاق المناطق الاستوائية، فهي في تغير مستمر، وكثيرا ما تلمس (في المناطق المعتدلة والباردة) تقلبات ظاهرة في الجو خلال اليوم الواحد، فمن رياح عاصفة أو هطول مطر مستمر أو ثلج، إلى سماء زرقاء مشمسة تحجب بعض ركانها السحب العابرة، ونحن قد ألفنا مثل هذه التقلبات.
ولكن ما حقيقة هذا الجو الذي يؤثر فينا وفي حياتنا كل هذا التأثير وما كنهه؛ حقا إننا لا نراه بأعيننا، ولا حتى نستطيع أن نلمسه أو تمسكه بأيدينا، ولكننا واثقون من وجوده برغم أنه لا لون له ولا طعم، فها نحن أولاء نلمس آثاره عندما يهز أوراق الشجر، أو تترنح الأغصان وتتمايل تحت وطأته. وإذن فهنالك تمثيلية كبرى تجرى فصولها تباعا من حولنا، إلا أنها تمثل على مسرح لا تدركه الأبصار، ويقوم بالأدوار فيها ممثلون لا نراهم في أغلب الأحوال.
ولعلنا نلمس أول ما تلمس أن هذا الغلاف الهوائي إنما يجعلنا بمثابة السمك " الذي يعيش في قاع محيط عميق جدا يمتد عمقه إلى أقصى حد ممكن. ولكن ليس لهذا المحيط حوض معين، فهو يفيض على الدوام حول الأرض كلها وعند رأسيًا إلى أعماق الفضاء خلال مسافات دونها أضعاف أضعاف عمق المحيط الهادي وهناك في قيعان محيطات الأرض، حيث يسود الظلام الدامس، تمد الطبيعة بعض أحياء تلك الأرجاء مصابيح في أجسامها تنير لها السبيل من حولها، أما نحن فإننا نعيش في قاع محيطنا الهوائي بحيث نرى الشمس عندما تشرق يبدد نورها ظلمات
الليل، وعندما تغرب نرى القمر والنجوم وقد نفذت أشعتها خلال الهواء الذي من حول الأرض، أي أن محيطنا الهوائي لطيف شفاف يسمح بمرور الضوء من خلاله والمعروف أن قوام هذا المحيط خليط من عدة غازات غير مرئية؛ أعمها شيوغا غاز الأزوت (أو النيتروجين) الذي تربو نسبته على أكثر من ثلاثة أرباع الغازات المكونة للغلاف الجوي بأسره، ثم غاز الأوكسجين وهو لا يصل مقداره إلى الربع تماما. أما بقية الغازات فلا تزيد في جملتها على جزء واحد من مائة جزء.
من الهواء، ويغلب عليها غاز الآرجون وبطبيعة الحال نحن جميعا على بينة من أن الغازات لا تزن كثيرا أي إنها قليلة الكثافة جدًا (على حد التعبير العلمي)؛ فنحن نقول في الأمثال: "أخف من الهواء"، ولكن ليس معنى ذلك أن الهواء عديم الوزن، وإنما بنيت أجسامنا بحيث تتحمل ضغط كتل الهواء المتراكمة من فوقنا والتي تمتد رأسيًا خلال مئات الأميال تماما كما تتحمل الأسماك في أعماق المحيط ضغط المياه المتراكمة من فوقها خلال أميال عديدة.
والآن ما قيمة الضغط الذي تتحمله أجسامنا؟
إنه بطبيعة الحال لا يقارب الضغط الذي تتحمله أجسام الأسماك التي تعيش في أعماق المحيط، فأي حجم من الهواء على سطح الأرض يعادل وزنه ۸۰۰ / ۱ من وزن حجم مماثل من الماء، وهي كمية برغم أنها تبدو ضئيلة، إلا أن تجميع أوزان طبقات الهواء المتراكمة بعضها فوق بعض إلى قمة الجو يعطينا قدرا لا بأس به من الوزن، يضغط على أجسامنا بقوة تعادل نحو كيلوجرام على السنتيمتر المربع.
ومن أهم صفات الغازات المميزة أنها لا تحافظ على شكل معين أو حجم بالذات، بل تنتشر لتملأ الفراغ الذي تعرض له. وأنت إذا ما صببت بعضا من الماء في إناء أو (إبريق) استقر الماء في قاع الإناء فقط، ولكنك لا تستطيع أن تجرى التجربة نفسها باستخدام الهواء مثلا، بمعنى أنك لا تستطيع أن تملأ جزءا خامًا من الإناء بالهواء وتترك الجزء الباقي خلوا منه، وتسري هذه القاعدة على الغازات كافة؛ وذلك كما قدمنا لأنها تنتشر لتملأ الفراغ الذي يعرض لها، أي إنها تتمدد. ولكن لماذا لا ينتشر جو الأرض أو يتمدد حتى يصل إلى القمر مثلا؟ أو حتى إلى النجوم؟ ثم لماذا لا يملأ الفراغ الكوني بأسره؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول إن ذلك غير ممكن. فكل ما في الوجود يخضع القوانين الطبيعة، وقد يحدث أن يقع جسم تحت طائل قانونين يمحو أحدهما عمل الآخر، فقانون الغازات مثلا يسمح لها بالتمدد، ولكنها كأي جسم آخر تخضع أيضا لقانون الجاذبية، لأن الأرض تمسك غلافها الهوائي بفعل جاذبيتها تماما كما تقبض على أجسامنا وتجذبها إليها، وهذا هو السر في بقاء الغلاف الهوائي متماسكا حول الأرض خلال ثلاثة بلايين السنة التي مضت منذ نشأتها.
وإنه لمن حسن حظنا حقا أن توفر للأرض القدر الكافي من الجاذبية فاستطاعت أن تحتفظ بغلافها الجوي، وإلا لما أتيحت لنا فرصة الوجود عليها وأصبحت كالقمر الذي فقد جوه وبقي عالما ميتا. والمعروف أن الإنسان يستطيع أن يعيش أياما عديدة بدون طعام، وأياما معدودات بغير شراب، ولكنه لا يستطيع أن يعيش من غير الهواء إلا دقائق قليلة.
ولكن لماذا كان الأمر كذلك؟ إننا، برغم أننا لا نفكر في هذه الحقيقة إلا قليلا، نعتمد اعتمادا كليًا على محيط الهواء الذي من فوقنا، وقد بنيت أجسامنا بحيث تلائم العيش في قاع هذا المحيط الهوائي: فرناتنا تستنشق الأوكسجين اللازم لتنقية الدم أو حرق الفضلات المترسبة فيه أولاً فأولاً، كما أن النباتات التي تتغذى بها نحن وسائر الحيوانات آكلة العشب تعتمد في بناء أجسامها على ثاني أوكسيد الكربون الذي تستخلصه من الجو، وهكذا ترى أنه بينا نستنشق نحن أوكسجين الجو لنعيده في صورة غاز ثاني أوكسيد الكربون مع هواء الزفير، يقوم النبات بالعملية العكسية تمامًا، فهو يمتص غاز ثاني أوكسيد الكربون هذا من الجو ليعيده إليه أوكسيجينا خالا.
وإذا فإنه من حسن طالع الأرض أن كان غلافها الهوائي يقع تحت طائل قانون الجاذبية في الوقت نفسه الذي يخضع فيه القانون الانتشار، فهو يتمدد ولكن بدرجة لا تسمح له بالإفلات من قبضة الأرض والتلاشي في خضم الفضاء الكوفي. وثمة ظاهرة أخرى تلازم انتشار الهواء، فكلما ازداد الارتفاع بازدياد البعد عن سطح الأرض، قلت كثافة الهواء أو أصبح لطيفا، والعكس بالعكس.
وعلة ذلك أن الهواء يستجيب للضغط الواقع عليه، وبطبيعة الحال تضغط كل طبقة منه على ما تحتها من طبقات تمامًا، كما تتناقل الكتب بعضها على البعض عندما نرصها رأسيًا. وتبلغ جملة هذه الضغوط مقدارا كبيرا، فقد وجد بالحساب أن غلاف الأرض الجوي يزن نحو ۵۹۰۰ تريليون طن، مما يفسر لنا ازدياد انكاش طبقات الهواء بازدياد القرب من سطح الأرض، بحيث تشغل فراغا أصغر فأصغر، ويبلغ تراكم الجو في طبقاته الدنيا درجة تجعل نصف وزن الغلاف الجوي بأسره يتركز في ثلاثة الأميال ونصف الميل الأولى، كما تحتوي الأميال الثمانية عشر القريبة من سطح الأرض على 17 في المائة من كتلة هذا الغلاف.
هل المحيطنا الهوائي سطح علوي على غرار سطح محيطات المياه؟
نحن لا نعرف تمامًا، إلا أننا جمعنا بعض المعلومات في هذا الصدد عن طريق الشهب التي تهوي إلى جو الأرض، فكل ما يسبح في الفراغ القريب من الأرض يتثاقل إليها، وها نحن نرى كتل الصخور والمعادن التي نسميها النيازك تستجيب من آن الآخر لجذب الأرض وقبضتها التي لا سبيل إلى مقاومتها، فتهوي في الجو وتحترق من أثر الاحتكاك به، ونبصر ضياءها على أبعاد تتراوح من 60 إلى ۳۹۰ كيلومترا، مما يدل على وجود الهواء على تلك الأبعاد.
ولقد جمعنا أيضا بعض المعلومات برصد الفجر القطبي (الأورورا)، وهو من بدائع ما يشاهد في المناطق القطبية. والمعروف الآن أن «الأورورا بوريا لس» هو من تأثيرات الشمس الكهربية على أعالي الجو. ومن أنواعها أنوار الشمال التي ترصدها تحدث على ارتفاعات تصل إلى ۱۱۰۰ كيلومتر فوق سطح الأرض، مما يدل كذلك على وجود الهواء هناك مهما بلغت رقته، أو قلت كثافته.
وربما ينتشر الهواء على أبعاد أكبر من ذلك، فقد توجد جزئياته متناثرة على ارتفاع آلاف الكيلومترات أو أكثر بكثير بحيث تفصلها بعضها عن بعض مسافات شاسعة وسط الفراغ الكوني.