الجو أكثر الأشياء التي نتحدث عنها في مجتمعاتنا، وبخاصة عندما يشتد القيظ أو يسود البرد القارس، أو عندما ينهمر المطر مدرارا أو يعم الجفاف طويلا. وإذا ما اجتاحت البلاد عاصفة هوجاء نظل نتساءل: «من أين يجيء هذا الجو الرديء؟»
وغالبًا ما يبدو كأنما ليس للعاصفة مكان معين تقبل منه، فقد تكون السماء صحوا في يوم من أيام الشتاء الباردة، وليس في الجو ما يعكره، وإذا بالسحب الداكنة تتجمع فجأة في جو السماء، ثم يتساقط الثلج بيط، ويغطى أوراق الشجر والأغصان، ويتراكم على الشجر والشوارع وأسقف المنازل والطرقات ونحوها، وتشتد سرعة الرياح راسمة خطوطا بيضاء في الحقول، ويسمع صفير الأسلاك والريح تعصف في المساء، ويتراكم الثلج على المنازل والحواجز.
وتقرأ في اليوم التالي أن كثيرين غيرنا هبت عليهم تلك العاصفة، وأننا كنا على خط سيرها الممتد على طول البلاد، وأن المواصلات قد تعطلت في الشمال الشرقي بسبب تراكم الثلوج، أما في الغرب فإن الثلج لا يزال يتساقط مع هبوب رياح هوجاء وهبوط درجة الحرارة إلى ما دون الصفر؛ ونعرف - ونحن نهز رؤوسنا أسفا - أن آلاف الماشية قد ماتت لأن أصحابها لم يبالوا بالتحذير الجوي الذي أذيع خامًا بالعاصفة، فلم يتسع أمامهم الوقت لحمايتها في الحظائر، كما أن كثيرين من راكبي السيارات دهمتهم العاصفة في الطرق فتعطلوا عن السيرة وكادت سياراتهم تطمرها الثلوج المتراكمة.
وقد يحدث في إحدى ليالى الصيف أن تسكن الرياح ولا يبقى أثر للنسيم، ويتراكم الهواء الساخن داخل الغرف ويحتبس فيها، فيتعذر علينا النوم من شدة الحر، وتتقلب في الفراش ولا أمل لنا في تحسن الجو معظم الليل، وإذا بهدير الرعد يدوي بين السحب على غرة فيبدد سكون الليل ولا نكاد تنظر خلال نوافذنا المفتوحة حتى تبصر بالبرق يومض بين السحب، ثم لا تلبث السماء أن تجود ببعض نقط المطر النامية. ويهب نسيم منعش ترقص له ستائر نوافذنا طربا ونتساءل: «أليس من الجائز أن تكون تلك الليلة الهادئة قد تمخضت عن عاصفة هوجاء؟»
ويعود الهواء البارد فيهب من جديد، وتضيء السماء كلها ببرق خاطف، فنوقن أنه لا مناص من إقفال النوافذ، وما إن ننهض من فراشنا حتى بدوي هدير الرعد حين تنهمر رخات المطر بغزارة، فتجفل قليلا، وبعد برهة تسمع صوت انقر حبات البرد المتساقط على النوافذ المغلقة. ونختبئ في الفراش وهمس قائلين: «ما هذا الذي أطلقه الليل من عقاله؟»
ومرة أخرى نسمع في الصباح أنها لم تكن مجرد عاصفة واحدة، وإنما هي جبهة عواصف طويلة عمت البلاد وشملتها، وأصابت بعض أرجائها بالدمار والخراب.
فقد أتلف البرد أغلب أشجار الفاكهة ومعظم المحصولات في الحقول، كما تعرضت بعض الأماكن الإعصار جبار هدم المنازل وترك أهلها بلا مأوى يلجئون إليه، وحملت الرياح العاتية الماشية والخيل إلى أماكن نائية بعد أن أطاحت بكثير من الحظائر.
وبطبيعة الحال لم نكن نعرف شيئا عن هذا الذي حدث ونحن نيام نلتمس الدف، في فراشنا، لكن خبير الطقس كان يعلم كل ذلك، فقد بادر بإذاعة " التحذيرات اللازمة، وفي الحال اتخذت الإجراءات في المطار، وأصدر مراقبوه الأوامر بر بط الطائرات الجاثمة على أرضه؛ وغيرت طائرة محلقة في سائه خط سيرها لتتفادى تلك العاصفة ولا تدخل خط هبوبها فلا تستطيع الخروج منه ولكن كيف استطاع خبير الطقس أن يتنبأ بحلول العاصفة ... إن السر لم يكن قطعا لأنه نظر إلى السماء فلم يعجبه منظر ضياء القمر أو لم يرقه تلألؤ النجوم، فقد كان على بينة من أمر العاصفة قبل الغروب مدة طويلة.
ولم يكن السر أيضا الألم في مفاصله ألم به، أو صداع في رأسه أصابه، فقد كان ثابت القدمين سليم الجسم مكتمل الصحة، ولم يكن السر على أية حال لحدوث علامة من العلامات التي ننقلها عن الأقدمين أو خرافة من الخرافات التي يتوارثها البشر جيلا بعد جيل، وإنما استند ذلك الخبير في تكهنه هذا والتنبؤ بالعاصفة إلى أسس قوية وسليمة من علم الرصد الجوي فهو قبل كل شيء تنبه إلى تغير الجو بما شاهده من اختلاف في رصد درجة الحرارة والرياح ودرجة الرطوبة، وعلى ذلك لم تفاجئه العاصفة، بل كانت أمرا عاديًا عنده، وأعتبر تلك التغيرات التي شاهدها في عناصر الجو بمثابة الإنذار بما سيجيء، من تقلبات.
والحق يقال : لم يكن في وسع خبير الطقس أن يدرك مدى تحذيرات الطبيعة وندرها، ما لم يتم التعاون بينه وبين غيره من الخبراء ، حتى ولو كرس حياته كلها يحلل أرصاده ويدرسها وحدها دون مضاهاتها بارصاد غيره من الخبراء على مساحة واسعة من سطح الأرض
إن معلوماتنا عن الجو ما هي في الواقع إلا حصيلة الأرصاد التي تأخذها أمم عديدة بالإضافة إلى ما سجلته محطاتها في الماضي، وكذلك أرصاد الذين ارتادوا المناطق المتجمدة في الشمال والجنوب، وجابوا الصحاري في آسيا وأفريقيا، وأرصاد السفن وهي تعبر البحار والمحيطات التي تغطي ثلاثة أرباع سطح الأرض، وبدأت دراساتنا للعواصف والأنواء التي تجتاح البحار أول ما بدأت عن طريق ما جمع أولئك الرجال الذين خاضوا المعارك ضد تلك العواصف في الماضي، فقد كانوا يرصدونها بدقة وعناية من فوق سفنهم الشراعية وهي تجابه نكباء البحار الهاريكين)، ثم يدونون أرصادهم ومشاهداتهم بعد أن يخرجوا منها سالمين.
وعندما جمعنا هذه الأرصاد كلها وعملنا على مقارنتها بعضها ببعض تبين لنا على التدريب أن جو أي بقعة من بقاع الأرض إنما يتصل اتصالا وثيقا بجو العالم أجمع ولا ينفصل عنه، فالغلاف الهوائي تتحرك أجزاؤه على الدوام حاملة معها أنواع الطقس المختلفة من مكان إلى آخر؛ والجو الذي سيسود عندنا غدًا أو بعد غد إنما يزحف إلينا، أو هو في طريقه نحونا، اليوم قادما من مكان قصى. وقلي تباغت العواصف خبراء الطقس، لأنهم يعرفون خطوط سيرها ومواعيد اقترابها وهم لا يقتصرون على أرصادهم في تتبعها وإنما يستعينون بكافة الأرصاد والتقارير التي تصل إليهم، ويصدرون على أساسها نشراتهم وتحذيراتهم الجوية.
ومعنى ذلك كله أن خبير الطقس لا يلجأ إلى الخزعبلات، ولا يركن إلى الأراجيف ليبنى تنبؤاته، فهو لا يربط بينها وبين آلام جسمه، ولا بينها وبين علامات تبديها الدواب أو الماشية، وإنما أثبتت ملايين الأرصاد التي أخذت وسجلت في مختلف محطات الرصد على الأرض أنها هي سبيله القويم، وطريقه العلمي السليم، الذي يوصله إلى الهدف المنشود.
ونحن لا ننكر - برغم هذا - أن هناك أقوالا مأثورة وعلامات توارثتها الأجيال تدل على ما سيجيء من تقلبات الجو. وهي إن خابت في كثير من الحالات تصدق أحيانا. فمثلا نجد في الشعر الهندي القديم حكمة تقول : و عندما تدخل الشمس بيتها تدر السماء غيثها» ومعنى ذلك أنه عندما تحيط بالشمس هالة ضوئية سرعان ما تمطر السماء.
والحق يقال : إنه قد يصادف ظهور الحالة الشمسية بين السحب نزول المطر أحيانا إلا أننا لا نستطيع أن تتخذ من هذه الظاهرة الضوئية قاعدة مطردة نسير عليها في التنبؤ بالمطر.
ولدى أمم الأرض على اختلاف أجناسها الكثير من أمثال هذه الأقوال المأثورة، ومن أبيات الشعر الشائعة في هذا الصدد: ما أسرع ما تهب الرياح الهوجاء عندما تزخرف ريشة الرسام القبة الزرقاء ومعنى البيت أنه عندما تنتشر السحب العالية الشفافة في جو السهام، وتظهر فيها بعض ألوان الطيف ساطعة عند الغروب، يكون ذلك دليلا على اقتراب عاصفة هوجاء، وبرغم أن مثل هذا الوصف قد يصدق أحيانا فإنه ولا شك كثيرا ما يخيب ولا يفلح كقاعدة للتنبؤ بالعواصف وتقلبات الجو ونقطة الضعف الحقيقي في مثل هذه الأقوال المأثورة كلها، أو العلامات التي تناقلها الناس منذ القدم، أنها لا تذكر شيئا عن أسباب تقلب الجو ولا تتعرض لهذه الناحية بتاتا، ولهذا نجدها قليلة الجدوى.
وهي من الوجهة العلمية عديمة : الفائدة لا تكشف لنا شيئا من أساليب الطقس وتقلباته. تلك الأساليب التي عالمها العلم بطرق قوية جعلتها تتكشف لنا شيئا فشيئا مضي الوقت. وليس من شك أنه كلما زاد عدد الراصدين في كل قطر توافرت لدينا التقارير والنشرات الجوية واتسعت بذلك آفاق معرفتنا بأساليبه، وصحت عمليات التنبؤ الجوي التي يقوم بها الخبراء المتخصصون.