أقد أضحت المنطقة المتجمدة الجنوبية أخيراً مسرحا لحركة غير عادية من حياة نابضة وألوان جديدة.
فلقد تعاونت كثرة من شعوب العالم في مشروع ضخم يستهدف الاستزادة من العلم بهذه الأصقاع خاصة، وبالعالم كله بصفة عامة، ولقد أطلق على الفترة من أول يوليو 1957 حتى نهاية ديسمبر 1958 اسم والسنة الجغرافية العلمية الدولية، لأنه الموعد الذي وافق تنفيذ البرنامج العلمي الضخم الذي ارتبطت به الهيئة.
ولقد تكاتفت إحدى عشرة أمة، فضلا عن الولايات المتحدة، في إقامة تسع وثلاثين قاعدة في المنطقة المتجمدة الجنوبية.
وفي هذه القواعد يقوم العلماء في عنابة بندوين كل الظواهر المتعلقة بالطقس والمناخ والسموات وقوة الجاذبية والكهرباء والزلازل، والمغناطيسية، *والمحيطات، وقشرة الأرض الصلبة. ومن هذه القواعد خرجت قوافل من العلماء وانتشرت في المنطقة بغية جمع معلومات إضافية، وتعتبر عملية والجمد عميق الجذور، من أوسع المشروعات العلمية في تاريخ العالم التي تعهد العلماء بتنفيذها.
أما الأم التي اشتركت في هذه المخاطرة فهي بريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي، والنرويج، واستراليا، ونيوزيلند، والأرجنتين. وشيلي، وجنوب أفريقيا، والبلجيك، واليابان، والولايات المتحدة الأمريكية.
وبدأ إسهام أمريكا في هذا المشروع بتقديم سبع سفن تحمل ۱۸۰۰ رجل تقودها كاسحة الجليد جليشير (الثلاجة ي. س. س. أما البعثة، وقد أطلق عليها اسم "تاسك فورس 43"، (قوة الواجب 43) فكانت تحت إمرة مساعد أمير البحر "جورج دوفيك "مع أمير البحر بيرد كمدير عام للعملية كلها، وكان هدف البعثة إقامة قاعدتين على حافة المنطقة المتجمدة الجنوبية في جزيرة روس، و آمريكا الصغيرة، على بعد ۸۰۰ ميل من القطب الجنوبي. وفي هاتين القاعدتين توافرت الراحة ليقضي بهما ۱۹۰ متطوعا فصل الشتاء بعد أن ينموا إنشاء رأس جسر ساحلي.
وفي ديسمبر ۱۹55 قامت جليشير وحمولتها ثمانية آلاف طن وقدرتها عملاقة تبلغ ۲۱ ألف حصان بشق الطريق في جليد سمكه ۱5 قدما واستطاعت أن تمعن عنوة في بحر روس خلال كثبان الجليد متحركة بسرعة ۱۷ عقدة، ولا فشلت في تفتيت الجليد بمهاجمته لمقدمتها، عمدت إلى ارتقاء أطواف الجليد فسحقتها تحت تأثير وزها الثقيل.
وأمكن بهذه الطريقة تعبيد وإخلاء ممر طوله 400 ميل يصل إلى شواهق الجبال المغطاة بالثلوج والتي تطل على ساحل بحر روس.
واندفعت أسراب من عمال الإنشاءات عن طريق الساحل إلى «ماك موردو ساوند، ور أمريكا الصغيرة،
وشق سكون المنطقة المتجمدة الجنوبية صوت طرقات المطارق ونواح منشار الخشب وزمجرة وعربات الجيب والجرارات.
وقفزت إلى الوجود. وكأن الثلج قد انشق عنها، أكواخ مشتركة تصلح المعيشة في القطب ترفرف عليها أعلام مختلفة، ولقد أعدت لتكون مستقراً الشهور قادمة للعلماء الأمريكيين وعمال البحر.
وكان إنشاء هذه القواعد سباقا مع الزمن مع عوامل الطبيعة القاسية، لأن العلماء يجب أن يستعملوا أجهزهم عند بدء السنة الجغرافية العلمية الدولية، وكان من اللازم إعداد مطار في قاعدة ماك مورد وللانتفاع بالنقل
الهوائي عندما يبدأ صيف المنطقة المتجمدة الجنوبية في أكتوبر. وانقسم العمال إلى قسمين يعمل كل منهما بالتناوب مدة ۱۲ ساعة تحت فيض من الأنوار الكاشفة وفي درجة حرارة 69 تحت الصفر.
وتكفلت الجرارات بنقل المؤن حملا بعد حمل من ناحية البحر عبر أميال من طرق مغطاة بالثلج المتجمد الذي تمت*د فيه عروق من الشقوق الغادرة.
وفي يوم 16 من أكتوبر 1954 تم العمل وبدأت عملية وديب فريزه. نشاطها على مقياس واسع، وقامت بعثة «تاسك فورس 43، بنقل المؤن والرجال الذين تدفقوا على القاعدتين القائمتين في بحر روس.
وتحرك قطار من قاعدة وأمريكا الصغيرة، يسحبه جرار ليتعمق في المتاهات المجهولة في أرض ماري بيرد، وذلك لإقامة قاعدة هناك يمكن سكناها على مدار العام.
أما الطائرات بعيدة المدى التي كانت قد جلبت أصلا من نيوزيلند، فقد قامت بجولات متعددة داخل المنطقة، وكشفت ثلث أصقاع القارة التي لم تكن قد مسحت حينذاك، ولذا لم ترسم لها خرائط.
وبعد ذلك بفترة وجيزة أصبح أمير البحر المساعد دوفيك أول رجل وطئت قدماه جليد القطب الجنوبي خلال 46 سنة مضت.
ذلك لأنه استقل طائرة نقل بحرية ذات محرك مزدوج ومزودة بزحافات للانزلاق على الجليد، وكانت تحمل علامة ر 4 د كما تحمل باللغة الفرنسية اسمها «كي سرا سرا، أي: ما قدر يكون، وهبطت به الطائرة في جو درجة حرارته ۰۸ تحت الصفر. وكانت تسير في ركابها حتى القطب طائرة عملاقة من طائرات السلاح الجوي س - ۱۲4 من طراز «جلوب ماستر، ولم تهبط الطائرة المرافقة بل حومت ودارت عدة مرات وهي تذيع المساعدات الملاحية.
وترتفع الهضبة في مكان الهبوط ۱۰۳۰۰ قدم فوق سطح البحر، وكان أول ما عمله مساعد أمير البحر دوفيك أن أحدث في الجليد حفرة بوساطة بلطة ألبية غرس فيها على الولايات المتحدة ذا النجوم والأشرطة. وثبت في البوص الهندي المتخذ حاملاً للعلم مذكرة تثبت حضوره.
ثم أصدر توجيهاته الخاصة بوضع أجهزة عواكس الرادار، والمهمات الأخرى، التي تيسر العثور على هذه البقعة في الأيام القا*دمه.
وبعد أن أتم هذا العمل قفل راجعا إلى طائرته التي كان محركها لا يزال دائرة، ولكن عندما أراد الطيار الإقلاع بها بعد أن عاونها بإشعال أربع زجاجات من الوقود المساعد رفضت الطائرة أن تتحرك.
ذلك لأن الزحافات كان قد ثبتها الحمد إلى سطح القطب الجنوبي المتجمد فلم تستطع فكاكاً، ولتخليصها بالقوة اضطر الطيار إلى إشعال الإحدى عشرة زجاجة الوقود المساعد الباقية، وبسرعة أقل من السرعة المعتادة اللازمة للإقلاع ارتفعت مترنحة متعثرة إلى الهواء المخلخل على ارتفاع 10 آلاف قدم.
وتمتاز الولايات المتحدة عن باقي الشعوب المشتركة في غزو المنطقة المتجمدة الجنوبية برصيدها الضخم من الرجال والمال والعتاد.
وكانت الزيارة الريادية لدوفيك بمثابة وضع الحجر الأساسي لمجموعة من أكواخ برتقالية اللون أو نحاسية أقيمت عند خط عرض ۹۰ جنوباً (القطب الجنوبي) وهي النقطة التي تتجمع فيها كل خطوط الطول والي يبزغ منها كل اتجاه يشير نحو الشمال والتي تعتبر - رياضياً - قاع العالم.
إنه في هذا المكان حط «بول سييل، العالم الجغرافي المستكشف رحاله ومكث مدة 14 شهراً في هذا المكان الذي يعتبر أكثر بقاع الدنيا وحشة وانعزالا.
وجاء سيبل لأول مرة إلى المنطقة المتجمدة الجنوبية كمستكشف بحري ضمن بعثة أمير البحر بيرد سنة 1930-1928 ثم عاد إليها فيما بعد كعضو في أربع جماعات.
إن هذا الجزء بالقطب الجنوبي أدار نشاط البحوث لجماعة من علما ء أمريكا مكونة من أربعة لعلم الأرصاد الجوية، وواحد لعلم الثلاجات وآخر العلم الزلازل وكثرة من الإخصائيين لعلم طبقات الجو العليا.
هؤلاء تعمقوا في الكشف عن الطبقات الأرضية التي ترزح تحت أثقال الجليد الذي يغطي سطح المنطقة المتجمدة الجنوبية وتنفذوا إلى طبقات جوها العلوي القارس البرد في محاولتهم الكشف عن أسرار ظلت دفينة لملايين السنين في الثلوج الأزلية والأجواء العاصفة للقارة البيضاء.
واستمر سنوات وسنوات كثيرة حتى نعرف ماذا جمع العلماء من معلومات شافية في أثناء مزاولتهم عملية وديب فريز، عند القطب الجنوبي.
وحتى عندما يتمون تقاريرهم، فإنا لموقنون أن تلك الأرض بقممها الشوامخ وأخاديدها الثلجية العميقة ستظل عنيدة جامحة لا تروض ولا تقهر.