تختلف ظروف الشتاء اختلافاً بيناً في النواحي المختلفة في الشمال الأقصى، ولكن ليل الشتاء الطويل يتخذ له صورة واحدة أني نتخير محل إقامتك في الأصقاع الشمالية للدائرة القطبية.
ولنفرض أنك مصادفة كنت تقضي أيام الشتاء في جزيرة «بفن، الواقعة شمال القطاع الكندي الداخل في حدود المنطقة المتجمدة الشمالية، إذن لرأيت عند ما يخل البرد القارس في أواخر أكتوبر وأوائل نوفمبر أن الخلجان والأنهار قد تجمد سطح مائها، وأن الثلج قد بدأ يظهر فوق ماء البحر الكبير، وا من يوم يمر إلا ويقصر طول النهار وتنحدر الشمس في سرعة للمغيب خلف التلال الواقعة جنوباً، ونهب رياح عاتية مزمجرة من الشمال.
أما الصيد في قوارب مكشوفة فيصبح أمراً محفوفة بالمكاره والخطر، ولذا ترفع القوارب الكبيرة المغطاة بجلد الحيوان والمسماة، أومياكس) من البحر لتستقر على اليابسة لأن موسم رحلتها القصير قد انقضي ليبدأ من جديد بعد مرور عام. ويرقب الاسكيمو بصدور ضائقة بلوغ سمك الجليد حداً يفسح أمامهم المجال الجولان كما يشاءون فوق صفحة البحر المتجمدة.
ويتكون الثلج على سطح البحر في بطء، وينتشر في جميع الاتجاهات كأنه غطاء هائل أحكم وضعه فوق صفحة البحر المضطربة، ومع كل رفعة وخفضة للمد يزداد سمك الجليد الساحلي ويمتد ذلك تدريجاً بعيداً في البحر الذي يتجمد ماؤه في بطء. وعندما يأتي المساء تبدأ الأنوار الشمالية تعرض فتنتها التي تصبح أشد تلألؤاً وأكثر حدوثاً، إن تلك الحزم الضوئية الخفية، من صفاتها أن تخفق وتتنقل، يتوقد ضوؤها ثم يعود فيخبو، وتتلون باللون الأصفر الباهت والقرنفلي الخفيف والبنفسجي الفاتح. أما النجوم فتتألق بضوء قوي ساطع خلال سماء داج ظلامها.
وحتى حلول هذا الوقت القارس برده، لم يكن قد سقط إلا قدر يسير من الثلج فوق الجليد الذي يغطي بفن الشمالية، وتلاك نعمة للصائد تسعفه أن يحدد - في يسر - مكان ثقوب تنفس عجول البحر، والتي يبلغ قطرها نحو قدم، وغالباً تغطي حوافيها بطبقة من الثلج المشف كالزجاج، تتكون من المياه التي تدفعها تلك الحيوانات إلى أعلى وهي صاعدة إلى السطح.
ومهما يصبح البرد زمهريراً فإن عجول البحر تحافظ على أن تظل هذه الثقوب مفتوحة طول فصل الشتاء.
وتبلغ حركة المد أقصاها مرتين كل شهر. ويسبب الضغط الناتج عنها حركة انتقال في الغطاء الجليدي للبحر وتظهر فيه شقوق طويلة قد يبلغ طولها أميالا - صانعة طرقاً في الغطاء الجليدي، ولكن سرعان ما يتجمد سطحها بعد أن تكون عجول البحر قد عرفت هذه الوسيلة الجديدة للوصول إلى الهواء الطلق، وأحيانا تهجر عجول البحر ثقوب التنفس القديمة في الجليد السميك لتقوم بإنشاء صف كامل من ثقوب جديدة في الجليد الحديث.
ويعتبر هذا أصلح الأوقات ليبدى الصيادون فيه نشاطاً عنيفاً، فمخازن الأطعمة خاوية ولابد أن تملأ لحما ودهنا بكني لإطعام الرجل وعائلته وكلابه أيام الشتاء الطويلة.
إن أياماً كثيرة ستنقضي بعد اختفاء الشمس، أياما ملأى بالزوابع والأعاصير التي يستحيل معها الصيد، ومن ثم فليس هناك وقت يمكن أن يضيع هباء، ولا بد من قتل أكبر عدد مستطاع من عجول البحر.
وإذا أهل شهر نوفمبر، فإن موسم القنص بالفخاخ يبدأ، ويجب أن يكرس الإنسان كل ساعات صحوه في تتبع خطوط فخاخه.
وتعتبر مطاردة الثعلب الفضي أهم ما يزاوله القناص من نشاط في المدة من نوفبر إلى مارس، ومعنى هذا قطع أميال عديدة في زحافة تجرها الكلاب فيما يشبه الظلام الحالك في أغلب الأحايين. ثم إن هذا موعد إقامة الأسكيمو لبيته الثلجي (اجلو) الذي اشتهر من أجله.
إن الغرض الوحيد من إقامته أن يتخذه مأو ى يلجأ إليه عندما يقوم بالصيد بعيداً عن بيته.
وإنه لأمر مثير أن يرى الإنسان بيتا ثلجيا في أثناء إقامته. ولا يملك الاسكيمو سوى معلوماته ومهارته لتكون عوناً له، وكذلك سكينه والثلج الذي يحيط به.
إنه ليتخير كثيبا ثلجياً عميقاً قد تكون في أثناء زوبعة واحدة، وكتل الثلج التي تفصل من كثيب ذي طبقات كثيرة تكون سهلة الكسر، وتشق ألواح من الثلج شقاً متقناً، ويبلغ طول الواحد منها ثلاثة أقدام، وارتفاعه قدمين، وسمكه ثماني بوصات. وعندما يفصل لوح واحد من الكثيب تصبح الألواح الأخرى أسهل انفصالا، وسرعان ما يجد الاسكيمو اثني عشر لوحة
ثلجية أو أكثر مكونة لدائرة في الحفرة التي يقف فيها، ونحت منها هذه الألواح.
ويسرع البناء في عمله وتبدأ قبة منخفضة في الارتفاع عن سطح الأرض، وتميل حوائطها بقوة للداخل، ويمنعها من السقوط حشو الثلج في الثنايا التي تقع بين الألواح، وبذلك بلصق الاسكيمو ألواحه بعضها ببعض لتماسك محاكياً ما يفعله البناء تماماً عندما يقيم حائطاً من الأجر ويقوم البناء بعمله وهو داخل المبني، أو يبني نفسه داخل منزله على سبيل المجاز. حتى إذا تم المسكن كان لزاماً عليه أن يحدث في الجدران فتحة يلتمس بها طريقاً للخروج منها ويتوقف حجم المسكن بطبيعة الحال على حسب عدد الصيادين الذين سيتخذونه لهم مستقراً، ويعتبر المسكن كبيرة إذا بلغ قطره 15 قدماً..
وتختبر مهارة الصانع عندما يحكم وضع اللوح الأخير مكانه في قمة المسكن وهو واسطة العقد.
ولكي يتم ذلك يلتمس البناء طريقه زحفاً إلى الخارج لبرهة من الزمن، ويضع لوحة على حافة القبة التي لم تكتمل بعد، ثم يعود أدراجه إلى الداخل، ويمد يده من الفتحة وبسحب اللوح بخفة نحوه، ثم يقشطه ليتناسب مع حجم مكانه الحالى، ثم يدعه ينزلق مكانه، ويملأ الأماكن المتصدعة بالثلج، وهكذا تنهي إقامة المسكن ويكون العمل الذي تم كله قد استغرق أربعين دقيقة..
وفي داخل المسكن يقام مسطح من الثلج عند أحد جوانبه ويكسي بجلود حيوان الكاريبو وبالأثواب المصنوعة منه ليتخذ مكاناً للنوم. ويعد إناء مفلطح به زيت عجول البحر ليكون وقودة وتغمس فيه ذبالة مصنوعة من طحلب الرنة الجاف وتضرم فيها النيران. وكتب على هذا المسكن ألا يكون أبداً دافئاً أو مريحاً، ولكن الصيادين المنهوكي القوى يزدردون فيه وجبة المساء في شراهة الذئاب.
وعند ما يحل الأسبوع الأول من ديسمبر تكون الشمس قد غربت على بفن، الشمالية لآخر مرة، ويظهر في الجنوب وهج خافت من الضوء كل صباح في نحو الساعة العاشرة والنصف، وعند الظهر تبدو الدنيا كأنها عند ساعة الفجر، وما إن تبلغ الساعة الواحدة والنصف، أو الثانية، حتى يكون الوهج قد اختفى، وحتى هذا الضوء الباهت الذي كان يظهر في منتصف النهار يستحيل إلى ظلمة عند ما ينتصف شهر ديسمبر. " .
وإذا تجهمت السماء بدت الدنيا في بلجة من ظلمة تحاكي سواد منتصف الليل طوال الأربع والعشرين ساعة، التي تشير إليها عقاربها. وتسود هذه الظاهرة طيلة شهر يناير ثم يأخذ ليل الشتاء الطويل في التراجع ويقبل الضوء كل صباح مبكراً قليلا عن سابقه، ثم يتمهل حتى يتخطى وقت الظهر، وينعكس عن صفحة السماء نور داني تبعث به الشمس التي لا تزال متوارية بالحجاب.
حتى إذا شارف شهر يناير على الانتهاء، بدت الأرض ملونة بألوان باهتة، كما تبدو السحب المرتفعة ملونة بحمرة قرنفلية مشربة بصفرة الذهب، وتعكس السحب تلك الألوان إلى أسفل التمس في رفق قمم مرتفعات الجليد.
كما تمتد ظلال طويلة ذات لون أزرق يمتزج باللون القرنفلي أصفحة الجليد التي تكسو سطح الأرض، وفي اتجاه الشمال ترى النجوم متألقة في سماء زرقتها الساعات المخصصة للنوم مع ساعات النور والإظلام من جديد.
وتتطلب رعاية خطوط الفخاخ زمناً أقل، لأن النور ييسر للصائد أن يرحل بطريقة أسرع، ويتوغل لمسافات أبعد، كل يوم.
وعند نهاية شهر فبراير، يذهب ضوء الشمس الطاغي ببريق النجوم، وفي أعماق الفضاء فوق الرءوس يمكن رؤية الظل الهائل الذي تلي به الأرض مندفعاً في الفراغ، ثم فجأة كصوت البشير يتخذ عمود من الضوء الوردي طريقه رأساً إلى عنان السماء، ثم يتنوه آخر ثم آخر حتى تبدو وكأن جذوة نار متأججة قد أضرمت في جميع نواحيها.
ثم كما لو كان بسحر ساحر يسفر قرص الشمس فوق حافة الأفق الجنوبي أحمر كأنه مخضب بدم أحمر قان.
وهكذا تكون إشراقة ضوء النهار لقد عادت من جديد إلى بفن الشمالية، وانتهى ليل الشتاء الطويل.