عندما يقبل الربيع في المنطقة المتجمدة الشمالية يحدث عجب، فالشمس بإشراقها تجلو الظلام الداجي عن دنيا أرخى عليها سدوله أمداً طويلا، وبعودته يبدأ ذوبان الجليد على مقياس كبير، ويأخذ الثلج الذي يغطي صفحة الجليد في الذوبان، ويؤدي ذلك إلى حدوث برك وبحيرات ضحلة فسيحة. أما أطواف الجليد المتجمدة فتشقق إلى أجزاء تتسابق في طرق أوجدها الرياح والتيارات المائية.
وعند ظهور تباشير الربيع الحبيبة، يبرح الإسكيمو منازلهم الرطبة المبنية من الأخشاب والطين أو أكواخهم المصنوعة من الجلد، ويقيمون الخيام المصنوعة من جلد حيوان الكاريبو أو من قماش الأشرعة يمضوا بها فترة الشهور الدافئة.
وتملاً السعادة جوانب النفوس، ويبدو الجميع وكأنهم في إجازة، فالأطفال يلهون وكأنهم صغار الكلاب أي جراؤها. ولما لم يكن هناك ليل يقبل، لذا ينام البنين والبنات عندما يصيبهم
الكلال، ويأكلون عندما يشعرون بالجوع، ويقضون ساعات النهار المشرق يطاردون الطيور أو يقتنصون الثعالب بالفخاخ، أو يقومون بصيد السمك بالسنارة وهم ممددون فوق جليد البحر، وعادة يغنمون بصيد نوع من سماك شائد قبيح المنظر صغير القد. ولا تنسي كلاب الإسكيمو أن تنعم بإغفاءة هادئة في ضوء الشمس الدافئ، ولو أنها لا تعدم نزاعاً يشب فتسرع إليه.
ويعتبر أهل الشمال فصل الربيع خير فصول السنة، وإن كانت مخازن حفظ لحومهم تصبح خاوية حقا، فليس هذا بالأمر الذي يسبب قلقاً، لأن هناك آلافاً من عجول البحر التي تطل برءوسها من المنافذ التي أحدثتها في الجليد، ستصاد عاجلا وتصبح كمية الطعام فائضة عن حاجة الإنسان وأسرته، ولو كانوا من أكثر الناس شراهة وهما.
وابتداء من منتصف شهر مايو لا تجنح الشمس إلى المغيب، بل تدور بلا انتهاء في السماء، وتقوم الأرض التي ذاب ثلجها مشكورة بامتصاص حرارة الشمس، أما جليد البحر فيغطى بطبقة رقيقة من الماء، كما ينزلق الجليد الذي يكسر المنحدرات كما لو كان بسحر ساحر فتعرى.
أما أكداس الخليد الطافية الممتدة على طول الساحل فيصيبها بلل ورطوبة، ويكون الماء العذب الناتج عن انصهار الجليد، أول المسالك المائية في شهر يونيو، ثم يزيد مقداره ويصبح في شهر يوليو لحجاً من الماء الدافق المتلاطم تمتلئ به المجاري المائية، وتنصب في البحر وفود الماء معجلة، ويكون لحريرها صوت محبب للآذان التي اعتادت الصمت المطبق والسكون الشامل طول فصل الشتاء.
ويكره ماء الفيضان القوارض الصغيرة المسماة باللمنج والتي تشبه الجرذان على هجر بيوتها وهن ألوف حذر الموت، وذلك بفعل ماء الفيضان، ويتجمعن على الصخور طلباً للسلامة، ولكنها ما إن تفعل حتى تقع غنيمة باردة للصقور والبوم.
وتعود الطيور التي هاجرت إلى الظهور عندما يقترب حلول المناخ الدافئ، وبعضها يكون قد قضى فترة الشتاء في بلاد تقع جنوباً مثل لويزيانا وفلوريد او بعضها الآخر طار طالباً الدفء في جزائر بعيدة تقع في جنوب المحيط الهادي.. ويهتم الإسكيمو والهنود والتجار والصائدون بعودة الطيور المهاجرة اهتمامهم بعودة الشمس إلى الظهور، ذلك لأن هذه الطيور ستضع بيضها وسيؤكل هذا البيض ولا يهم إن كان نيئاً أو مقلية.
إن سكان المنطقة المتجمدة الشمالية في أثناء أيام الشتاء الطويلة يتناولون وجبات من اللحم والسمك لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولذا فهم تواقون إلى يوم يحصلون فيه على البيض.
ويفضل بيض أوز الثلج الذي يأتي في المرتبة الأولى من الجودة، ثم يأتي في المرتبة الثانية القريبة من الأولى بيض الطائر الغواص ذي المنقار الذي يشبه الموسى وبيض طائر المير.
وعلى الرغم من أن القانون الذي سنه الرجل الأبيض يحرم جمع بيض الطيور فإن الإسكيمو الذي يعالج الأمور في بساطة، برى، وهو مستبشر، أن ما يسنه الرجل الأبيض من قوانين، لا يجوز تطبيقها إلا على البيض، وأن من حقه أن يلهم هذا البيض الثمين قبل أن تسطو عليه الثعالب. وتتفتح الأزهار عندما تشرق شمس الربيع بعد طول اختفائها، وتكتمل
نموها في قوة وفي وقت قصير. وبعض منها يشق طريقه خلال الثلج الذائب وهو مشوق إلى الدفء. وكما أن بعضاً آخر يتفتق عن أكمامه وسط بركة من الماء محصورة بين الصخور.
وتنمو أزهار المنطقة المتجمدة الشمالية ونباتاتها في أماكن متعددة ليس بينها موقع الثلاجات أو حواشيها، وليس نموها على الرغم من كثرتها وليد المصادفة، فإنها لا تزدهر إلا في المساحات التي تجد فيها غنيمتها.
وتنمو زهرة السفرس البنفسجية اللون (الساكسيفراج) بين صخور وديان النهر المتسعة، وتتألق زاهية وسط المناظر المقبضة المحيطة بها، أما الري التي تكتسحها الرياح فإن زهرة الخشخاش الصفراء (بوبي) تهتز فيها طرباً إذا ما داعبها نسيم الشمال.
وتنمو شجيرات القطن بكثرة على حواف البحيرات الضحلة. ويبدو قطنها الأبيض من بعيد كطوف كبير من أطراف الجليد.
وتأخذ المراعي زخرفها وتزين بأزهار شقائق النعمان (بتركيس، والوقواق البنفسجية اللون (الكاكو) والهريسة الرقيقة (هيريل). ومن الصعب أن يصدق أحد أنه على بعد قدم أو تدمين تحت هذا السطح الذي يرتدي حلة من الأزهار، يقبع القدر اليسير من التربة في درجة التجمد، حتى في أشد أيام الصيف حرارة.
وليس بين نبات المنطقة المتجمدة الشمالية ما هو سام أو مزود بالأشواك.
ولأن عمر نصل الدفء قصير، فقليل من الحوليات ما ينفسح له الوقت لإكمال دورة حياته، ومن ثم كانت أغلب النباتات معمرة تزهر سنة بعد سنة، حيث تقضى البراعم أيام الشتاء وهي مغلفة في غلالة ناعمة عازلة تقيها غوائل البرد.
ولقد يخطر ببالك أن تسأل كيف يمكن إنماء محصولات في أصقاع تحتجب الشمس عنها شهوراً بأكملها، والإجابة على سؤالك حاضرة، فقد اختصت تربة المنطقة المتجمدة بخصائص يجهلها أغلب مزارعي المناطق ذات المناخ الأكثر اعتدالا، فالأرض خالية من الآفات وأمراض النباتات غير معروفة، والأرض كذلك بكر لم ينهكها توالى الزرع، حتى إن بعضها يصل في خصوبته إلى درجة خصوبة أرض إقليم التربة السوداء في بلاد السوفييت.
وسبق أن أوردنا أنه في أثناء أيام الصيف القصير ذات النهار الدائم، يحلق زئبق الترمومتر في قناته مسجلا درجات فوق الثمانين، وفي مثل هذه لظروف يصبح ميسوراً أن يجتنى محصول التين مرتين أو ثلاث مرات، وغلات زراعية أخرى متنوعة.
وهناك أماكن تقع شمال دائرة المنطقة القطبية بنحو مائتي ميل لا يعتبر أمراً غير طبيعي فيها أن تزن الكرنبة الواحدة عشرين أو ثلاثين رطلا، بل إنه قد تزن الواحدة منها أربعين رطلا.
ولقد نجحت زراعة الخضر على شواطئ البحر القطي نفسه، وأمكن زرع. نوع من البطاطا في حجم بيضة الدجاجة، في أرض لا يزيد بعد سطحها عن باطنها المتجمد بأكثر من ست بوصات، كما أن العلماء الزراعيين قد استحدثوا نوعاً من القمح المهجن يمكن زرعه في جهات متطرفة في الشمال ما كان ليظن أحد إمكان الزرع فيها، من عشرين سنة مضت.
ولقد زاد وضوحاً إمكان إنماء الزرع والحضر وتسويقها في المناطق الشمالية على مقياس يكفي لسد حاجات السكان المستوطنين.
وقد قام بعض المستوطنين بتجربة إنماء نحو عشرين صنفاً من الخضر والحبوب، بل أمكن ممارسة عملية تربية الماشية بنجاح في الأماكن التي تيسر حرارة الصيف فيها الحصول على كمية من الدريس كعاف يقيم أود الماشية خلال شهور الشتاء.
ولقد أمكن للحيوانات التي ترى في المناطق الأكثر اعتدالا أن تعيش على الرغم من قسوة البرد إذا أقيم لها مأوي مناسب بسترها.
ولقد تنبأ استيفانسن مرة بأن متاهات المنطقة المتجمدة الشمالية ستكون في المستقبل مصدراً يمد العالم بلحوم الملايين من حيوانات الرئة وثيران المساك التي تكتنز اللحم والشحم لاختلافها إلى مراعى الكلأ والعشب الخشن.
وفي شهور إبريل ومايو ويونيو ينشط رجال الأرض الشمالية لصيد عجول البحر بهمة لا تعرف الكلال، فهم يقطعون مسافات طويلة فوق الجليد في زحافاتهم.
وحتى بضع سنوات مضت ما كان يستعمل الإسكيمو في صيدهم سوى أسلحة بدائية كالسهام والحراب. ولكنهم استبدلوا بها الأسلحة الحديثة كالبنادق ابتداء من عيار ۳۰,۳۰ حتى العيار الصغير ۰٫۲۲، وكثيراً ما يتبع الصياد فريسته متواريا خلف ستار أبيض اللون، وهو عبارة عن حائل يسهل حمله، مصنوع من قطعة قماش مربعة الشكل مشدودة بإحكام على إطار ويخاله عجل البحر قطعة من الثلج المتحرك، ويورده تطفله القوى موارد التهلكة.
وعندما يزداد الطقس دفئاً يعمل ارتفاع المد وانخفاضه على تشقق الثلج البعيد عن سطح الأرض، وتتسع الشقوق مكونة طرقاً مائية تمتد لعدة أميال مخترقة البحرالثلجي الكثيف، ومن هذه الطرق تظهر عجول البحر في أعداد كثيرة ليلعب بعضها مع بعض، كما تفعل صغار الكلاب، أو لمجرد الاصطلاء في الشمس الدافئة.
ويضطر الصيادون إلى التغيب عن بيوتهم أياماً لسعيهم الدائم بحثاً عن الزاد، وفي مثل هذه الظروف يكون فيهم وقفا على ما يخرجه لهم البحر؛ فهم في أغلب الأحايين يقتاتون على لحم عجل البحر نيئاً أو مسلوقة سلقاً خفيفا، وما يتبقى منه يختزن في جوف الثلج على الساحل. وإذا فسد اللحم من جراء حرارة الصيف، فليس هذا بأمر ذي بال، ذلك لأن الإسكيمو يعتبر اللحم أو السمك الفاسد نوعاً من الترف الملحوظ.
وعند ما يحين منتصف شهر يوليو يكون أغلب الأرض قد تعرى من الجليد إلا في الأخاديد الظليلة حيث يتباطأ الجليد في الذوبان، أما سلاسل الجبال فتظل تبهر العين بقلانسها الثلجية الدائمة وبحقول جليدها.
وفي مثل هذا الموعد يظل ضوء الشمس طول بياض النهار منبعثاً من سماء مشرقة زرقاء، كما يستمر طول الليل أيضاً. وفي وقت الظهيرة تتخذ الشمس لها مكاناً نحو الجنوب وعند منتصف الليل يصبح مكانها نحو الشمال، وبدل أن تغرب تظل ظاهرة تماماً ولو أنها تقترب من الأفق.
وعلى الرغم من أن سكان الشمال يرحبون بقدوم شهر الصيف فإنه يقترن بظهور مشكلة ضخمة، ذلك أنه عندما يذوب الثلج الذي يحتويه سطح التربة تصبح الأرض المرحلة الرطبة مباءة لأسراب وجحافل عظيمة من البعوض والذباب، ففي أثناء فصل الشتاء كله يتجمد بيض الحشرات ويرقاتها حتى تصبح في صلابة الجليد المدفونة فيه، حتى إذا أهل الصيف تولد من البيض واليرقات جيل جديد من الحشرات التي تعتبر في جميع الظروف لعنة الشمال.
ولا يمكن التخلص منها إلا عند قمم التلال، ومع هبوب ريح قوية، أما في الوديان فإنها ترتفع عن سطح الأرض على هيئة سحب وتغزو الأنوف والعيون والآذان والأفواه.
ولقد دون استيفانسن في مذكراته أنه في الأيام الأولى التي نشأت فيها تجارة الفراء في كندا كان الصائدون بالفخاخ يعتبرون أن تلك الحشرات محنة بهون دونها ما يقاسونه من الخوض في الوحل حتى ركبهم وهم يحملون أثقالهم.
وكثيراً ما يصاب حيوان الكاريبو بلوثة من جراء لدغ أسراب الحشرات له، وقد تبلغ قسوة لدغ الحشرات للكلاب أن تصاب عيونها بورم يغلقها، كما أن بعض الحيوانات تلقى حتفها من جراء لدغها.
وحيث يسكن القوم تبدو الحوائط البيضاء المشمسة للمنازل سوداء من كتل البعوض التي حطت عليها، وتبلغ كثافة تجمع الحشرات على النوافذ حداً يصبح من المستحيل معه الرؤية خلال زجاجها.
ويبحث العلماء عن طريقة مثلى لوضع حد لتوالد هذه الحشرات، واكن قد اتضح أن ضخامة رقعة الأرض جعلت هذا الأمل أمراً ميئوساً منه.
ويضاف إلى قائمة جموع الحشرات النحل الطنان (بمبل بيز) والفراشات واليراع الأزرق (بلو بتلز).
وعندما يحين منتصف يوليو يكون ثلج البحر قد ذاب ويصبح من الخطر مزاولة الصيد باستعمال الزحافات التي تجرها الكلاب، ولذا يهرع الاسكيمو إلى قواربهم الكبيرة المغطاة بالجلد والتي يطلقون عليها اسم (أوباكس).
ويستمر صيدهم يوماً بعد يوم في عرض البحر. وتقتل مئات ومئات من عجول البحر، لأن مخازن الأطعمة يجب أن تملأ باللحم والدهن احتياطا لشهور الشتاء العجاف التي تحل مسرعة بعد قليل.
وفصل الخريف يعتبره الاسكيمو القاطنون في شرق المنطقة المتجمدة الشمالية، أهم فصول السنة، ففي هذا الموعد تكون عجول البحر قد سمنت إلى حد تطفو معه عند قتلها، ولا يفقد منها إلا القليل.
وقد يبدو أنه من غير المعقول أن مجموعات صغيرة من الاسكيمو تلتهم هذا العدد الضخم من الحيوانات التي تقتل كل عام، ولكن الاسكيمو قد اشتهروا بالنهم في أكل اللحم، إذ الواحد منهم يأكل خمسة أرطال أو ستة في كل وجبة.
كما يجب أن نتذكر أن كلابهم لابد لها من زاد، وأن وجبة الكلب المسكي الواحد هي نفس الوجبة التي يتناولها الرجل.
وعند ما يقترب الصيف من نهايته تأخذ الشمس في الغروب تحت الأفق الشمالى لأول مرة منذ شهور ثلاثة، ويبكر موعد الغروب قليلا يوماً بعد يوم وتجنح الشمس نحو الغروب ثم تشرق من أقصى الشرق.
وتعتري الأرض تغيرات شيئاً فشيئاً، فإذا حل المساء تجمد الماء الراكد في البرك، ويسفر الصبح عن تربة جامدة يغطيها الصقيع، وتلألأ قمر التلال بأول شوط من سقوط الثلج، ثم لا تلبث أن تكتسب اللون الأسمر من جراء ذوبان هذا الثلج بأشعة الشمس الواهية، وتنتعش الأزهار التي عضها صقيع الليل بنابه، بطريقة عجيبة عند ما يمسها دفء النهار.
وتستعد الطيور المهاجرة في هذا الوقت للرحيل وتكون صغارها قد كبرت، أو وقعت فريسة لأعدائها بالطبيعة، ويمتلئ الجو بأصوات صيحات الطيور وخفق أجنحتها، ويرتفع صوت وز الجليد فوق هذا الضجيج في قوة وانطلاق.
ثم تحل يوم تخفت فيه هذه الأصوات عندما تكون الطيور قد يممت شطر الجنوب، ولا يبقى منها سوى طيور على شاكلة الغراب وبوم الثلج والطرشان (بتارمبجان) والصنقر (جرفالكون). وفي هذا الوقت يكون كل حيوان من.
حيوانات التندرا تقريبا قد تدثر بدثار الشتاء الأبيض، وتكاد لا تستبين العين الفراء الأبيض في أرض يكسوها الثلج الأبيض، ولهذا السبب تحمي حيوانات الشمال الأقصى نفسها بتغيير لون أرديها الصيفية الداكنة إلى بياض. أما الغراب، وقد اشتهر عنه الخسارة والعناد، فيبق على لونه الأسود اللامع في دنيا لا تقع العين فيها إلا على كل ما لونه أبيض.
ويخيم الصمت المطبق على الأراضي الشمالية وكأنها أمسكت بأنفاسها مترقبة أن يرخي الشتاء عليها سدوله السود من جديد.