لابد لكل من زار «يلوستون بارك» (أي حدائق الصخر الأصفر) بالولايات المتحدة أن يكون قد وقف ليشاهد أولد فيثفل، (أي الوفية العجوز) فما أروع أن يقف الإنسان بجوار هذه النافورة الشهيرة ويترقب انطلاقها.
وهي لا تخيب أبداً أمل روادها. فبعد كل 15 دقيقة تنبثق منها نفثة من الماء الحار والبخار صاعدة في الهواء إلى ارتفاع 140 قدماً أو أكثر. وهي تستمر في انطلاقها أربع دقائق ثم تخمد تدريجيا.
وقد أثارت «الوفية العجوز» إعجاب الملايين، ولكن قليلا منهم من يتدبر أمرها ويدرك أن هذه النافورة الطبيعية العجيبة ليست إلا إحدى الظواهر الثانوية للبراكين، وأن الموقد الذي سخن ماءها ليس إلا الصهارة (الماجما) داخل الأرض.
ولقد اعتقد بعض الناس فيما مضى أن جميع العيون الحارة تستمد حرارتها من الصخور الحارة الموجودة على أعماق بعيدة داخل القشرة الأرضية: لقد كانوا يقولون: إنها مجرد دورة بسيطة: فالماء البارد يهبط خلال أحد الشقوق ويستمر في هبوطه حتى يصل تدريجيا في النهاية إلى أعماق سحيقة لدرجة يتحول فيها بتأثير الصخور الحارة إلى ماء حار، وبتمدد الماء الحار يخف ويرتفع مرة أخرى بسبب خفته مكوناً العين الحارة.
وتعد النظرية مقبولة من الوجهة الشكلية، ولكن الوقائع لا تؤيدها. فالماء لا يصل داخل الأرض إلى تلك الأعماق، أو على الأقل في معظم الأحيان، التي تكفي لتفسير نشأة أغلب العيون الحارة. إن جداول المياه الجوفية تتحرك داخل كهوف واقعة على أعماق قد تصل إلى ألف قدم تحت السطح، ولكن ألف قدم لا تعد عمقاً كافياً.
والماء يهبط فعلا إلى بعض المناجم. وقد أغلق منجم نيفادا عندما وصل عمقه إلى ۳۰۰۰ قدم بسبب إخفاق المضخات في رفع كل الماء الذي وصل إليه. ولكن ۳۰۰۰ قدم ليست أيضاً بالعمق الذي يكنى ترفع حرارة الماء قدراً كافياً.
فإلى أي عمق يصل الماء؟ إن الشواهد تدل على أنه لا يمكن، في معظم الأحيان على الأقل، أن يصل إلى أعماق أبعد من ذلك. فعدد الشقوق التي يمكن أن يتسرب خلالها الماء قليلا جدا. وكلما ازدادت المناجم عمقاً قل عدد الفجوات المفتوحة تدريجيا.
وحتى تلك الفراغات الصغيرة الموجودة في الصخور نفسها تختني كلما زاد انضمام الفواصل بعضها إلى بعض. وبعض المناجم ذات الأعماق الكبيرة شديدة الجفاف لا تحتوي على مياه جوفية. وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون هنالك كثير من الفجوات التي يمكن للماء أن يتسرب منها إلى أسفل.
ولابد أن نصل في النهاية إلى أن فكرة تعمق الماء داخل الأرض لا تكفي وحدها التفسير تسخينها التسخين الكافي، وبالتالي لتكوين العيون الحارة، وقد نضطر أحياناً إلى الأخذ بنظرية الدورة البسيطة للمياه، ولكننا لا نفعل ذلك إلا عندما تكون العين الحارة بعيدة كل البعد عن أي نشاط بركاني أو عن المناطق البركانية.
إن المياه الحارة التي تخرج من معظم العيون الحارة لا تنبعث في الواقع من أعماق بعيدة داخل الأرض بل من أعماق سطحية جدا. وهي تستمد حرارتها من الصهارة (الماجما) التي كانت في طريقها إلى سطح الأرض ولكنها لم تصل أبداً إليه لسبب من الأسباب.
إن أحر النافورات وأروعها مظهراً يقع دائماً حيث تكون البراكين النشطة حديثة العهد، كما هو الحال في نافورات أيسلندا ونيوزيلندا ويلوستون بارك بالولايات المتحدة، بينما تقع غالبية العيون الأقل روعة في المناطق البركانية القديمة. ولا يوجد سوى عدد قليل من العيون التي لا نستطيع أن نفسر تكوينها بهذه الطريقة.
ولنأخذ عيون أركانسس الحارة بالولايات المتحدة مثلا. فقد يحسب الإنسان أن لا علاقة لها بالبراكين بسبب بعدها عن أي بركان. ومع ذلك فإن هنالك من الأسباب ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذه المنطقة كانت في وقت ما غير آمنة أو هادئة.
إذ يوجد في أركانس مناجر للزئبق إلى جانب الينابيع الحارة، ولهذا الأمر دلالته. فالزئبق كما رأينا من الفلزات التي ترتفع مع الصهارة (الماجما).
وهو يصعد معها إلى قرب السطح ويترسب بعيداً عن منابعه الأصلية. وعلى ذلك فإنه لا يمكن أن يكون قد انقضت ملايين عديدة من السنين على وجود البراكين في أركانسس، وإلا لما أبقت عوامل التعرية للزئبق على أثر.
. ونحن في الواقع نجد أعناق براكين عديدة بالقرب من العيون الحارة الموجودة في أركانسس. وقد درست هذه الأعناق بعناية فائقة لأن أحدها يعد منجم الماس الوحيد في أمريكا. والماس يوجد بنفس الطريقة في جنوب أفريقيا في صورة أجسام مستديرة من الصخور البركانية تسمى أنابيب الماس.
ويظن أن هذه الأنابيب هي التي تصاعدت خلالها الحمم في طريقها إلى السطح لكي تكون البراكين وولكن كيف تتكون النافورات الحارة ولماذا يندفع الماء منها على هذه الصورة المثيرة؟ وهل يعد ذلك انفجاراً؟
إن هنالك أساساً بسيطاً يقوم عليه انطلاق النافورة، وهو أن الماء لا يغلى دائماً عند درجة ۲۱۲ فهرنهيت (۱۰۰ مئوية). فدرجة غليان الماء تختلف باختلاف الضغط الواقع عليه. فعند قمة الجبل يكون الضغط الجوي أقل منه عند مستوى سطح البحر.
فهناك تحتاج البيضة التى تنضج عادة في ثلاث دقائق إلى أربع دقائق أو خمس لكي تصل إلى نفس الدرجة من النضج. ويرجع ذلك إلى أن الماء عند قمة الجبل يبدأ في الغليان مثلا عند درجة ۲۰۰ه فهرنهيت.
ولا يمكن أن ترتفع درجة حرارته فوق ذلك. أما إذا هبط الإنسان إلى دث فالى أي وادي الموت)، فإنه يجد نقيض ذلك، ويرجع ذلك إلى أن هذا الوادي يقع تحت مستوى سطح البحر، ولا يبدأ الغليان هنالك قبل أن تصل درجة حرارة الماء إلى ۲۱۳ أو ۲۱۶ فهرنهيت. وقد لا يكون هذا الفرق في درجات الحرارة كافياً لإنقاص الزمن اللازم لإنضاج البيض بصورة ملحوظة. ومع ذلك فإن الأساس واضح. فكلما زاد الضغط ارتفعت درجة غليان الماء.
فلنحاول الآن أن نرى كيف يساعدنا هذا القانون على تفسير تكون النافورات الحارة. از إن النافورة الحارة البسيطة تتعقد تحت الأرض إلى درجة كبيرة من التعقيد.
إذ يعتقد العلماء أنه يتصل بكل نافورة من النافورات عدد كبير من الأنابيب التي تغذيها. كما يعتقدون أن بعض هذه الأنابيب يتفرع، بينما ينتفخ البعض الآخر بحيث تبدو هذه الأنابيب وتفرعاتها وكأنها جذور للبرسيم. وعلى أي حال ليس هذا بموضوع أساسي لكي نفهم كيفية اندفاع مياه النافورة. وسنفترض هنا أن النافورة تتصل بأنبوبة واحدة تحت السطح، إذ سوف لا تختلف النتيجة، سواء اتصلت هذه الأنبوبة بأفرع أخرى أم لم تتصل.
فعندما يتوقف اندفاع الماء من نافورة الوفية العجوز مثلا ويتسرب إلى أسفل، ويصل إلى الصهارة، فإن درجة حرارته تأخذ في الارتفاع. وبذلك ترتفع حرارة الأنبوبة المغذية تدريجيا وتسخن كلها حتى الجزء الأعلى منها، لأن الماء الساخن يدور بداخلها وذلك بسبب هبوط الماء البارد إلى أسفل وارتفاع الماء الساخن إلى أعلى. وبالتدريج تسخن الأنبوبة كلها، ومع ذلك فلا يحدث شيء. فبرغم أن درجة الحرارة في قاع الأنبوبة تصل إلى درجة أعلى من ۲۱۲ فهرنهيت بكثير، أي أعلى من درجة الغليان، فإن الماء لا يغلى لأنه لا يمكنه الغليان على هذا العمق| الكبير وتحت ضغط كل العمود من الماء الواقع عليه إلا عندما تصل درجة حرارته إلى ۲۰۰ه فهرنهيت، أو نحو ذلك.
فلذلك لا يحدث سوى أن تستمر درجة حرارة الماء في التزايد، غير أن عمود الماء يسخن آخر الأمر إلى درجة تؤدي إلى تكوين فقاعة ضخمة من البخار بالقرب من قمته. ثم ترتفع إلى السطح حيث تنفجر مسببة تطاير رذاذ من الماء على جوانب الفتحة.
وذلك هو كل ما كانت تترقبه والوفية العجوز». فما إن يحدث ذلك حتى يتغير الضغط داخل الأنبوبة كلها حتى أسفلها، فكمية الماء التي كانت في الأنبوبة تقل، ويقل معها الضغط الواقع على ما تبقى من الماء. فيغلى عند القاع وعلى طول الأنبوبة ويتحول كله فجأة إلى بخار ثائر. وفي لحظة واحدة تتحول بركة الماء الساخن الهادئة إلى نافورة يندفع ماؤها عالياً نحو السماء حاملا معه الماء المتبقي فينقد جميعه في طرفة عين.
ولو أن «الوفية العجوز، كانت لها أنبوبة تغذية بسيطة واحدة كتلك التي افترضنا وجودها لتبسيط الشرح، لما سلكت مساك الفسقيات بل لانطلق ماؤها دفعة واحدة وانتهى الأمر. غير أن تفرعات الحذر في الأنبوبة المغذية هي التي تجعل النافورة تستمر فترة من الزمن. فكل فرع من الأفرع الجانبية البعيدة يساهم بإضافة ما يحويه من ماء ساخن إلى تلك الآلة البخارية الطبيعية. ذلك هو الذي يبقي على اندفاع مياه النافورة في الهواء فترة من الزمن.
ولكن إلى متى تبقي «الوفية العجوز، وفية؟
من المؤكد أنها لن تبقي وفية إلى الأبد. فالعيون الحارة هي شر عدو لنفسها. إنها تجلب الموت لنفسها. ففي كل مرة يسخن الماء في أنابيب التغذية من جديد، فإنه يستمد ذلك القدر من الحرارة من الصهارة.
ولابد أن يأتي الوقت الذي يحتاج فيه الماء داخل الأنبوبة إلى وقت أطول لكي يسخن بسبب فقدان الصهارة لجانب من حرارتها. وقد تباعدت فعلا مواقيت انطلاق «الوفية العجوز، عما كانت عليه منذ عدة سنوات عندما أنشئ يلوستون بارك. وسوف يأتي اليوم الذي لا تندفع فيه مياهها أبداً.