يتعلق بهذا
قلّما تتاح للناس الفرصة لمشاهدة مولد بركان. وعندما يولد بركان، فإن مولده يعد حدثاً عالميا. ذلك أنه ليس من بين أحداث الدنيا ما هو أروع من هذا الحدث في الطبيعة.
ولهذا كان امتلاء الصحف في عام 1943 بأخبار باريكوتين، وهو البركان المكسيكي الصغير الذي ولد في حقل من القمح.
وكان يمتلك حقل القمح رجل هندي يسمى دايونيزيو بوليدو. وكان من الحقول الطيبة برغم أنه كانت توجد به بقعة منخفضة لم يكن القمح بنمو فيها نموا جيداً يوماً ما.
وقد دأب دايونيزيو مع ذلك على حرث هذه البقعة وزراعتها، فمن يدري؟
لعلها تعطيه في يوم من الأيام محصولا لا يقل جودة عما يعطيه باقي الأرض.. وبعد ظهر يوم من الأيام في فبراير عام 1943 كان دايونيزيو ومعه ثيرانه يحرث الأرض. وكانت حرارة الشمس يومئذ شديدة بدرجة غير مألوفة.
وأحس الرجل بحرارة غير عادية في الأرض تحت قدميه العاريتين، وبخاصة في تلك البقعة المنخفضة. وخيل إلى الرجل أن الخطوط التي يخطها المحراث في الأرض قد أصبحت بالغة الطول. وأخذ الرجل الهندي بدخن لفافة من التبغ، وكأنما أحس أن للتدخين أثراً في تقصير الخطوط.
وبينما كان دايونيزيو بدير ثيرانه ليرجع في خطيه، خيل إليه أنه رأى دخاناً يتصاعد من البقعة المنخفضة. كيف حدث ذلك؟ هل ما زال عقب لفافته الأخيرة مشتعلا؟
لعله أشعل النار في قش القمح الموجود هنالك. لقد كان وقتئذ فصل الجفاف، ولربما امتدت النار من عقب لفافته إلى ما جاورها من القش والهشيم. ترك دايونيزيو ثيرانه وذهب ليستطلع الأمر. وما كاد يتجه إلى هنالك حتى خيل إليه أن الدخان أكثر مما يمكن أن ينبعث من لفافة واحدة.
وفعلا عندما انت دايونيز يو ليستطلع مزيداً من الأمر هوت قبعته الكبيرة بجوار شق في الأرض ينبعث منه الدخان. ووقف دايونيز ويحملق في هذا الشق وقد تملكته الحيرة، فماذا عساه يحترق هنالك؟!
وفجأة دوت قرقعة كبيرة منبعثة من أعماق الأرض. وفي نفس اللحظة اهتزت الأرض اهتزازاً أشد من أي زلزال أحس به طيلة عمره وتأرجحت الأرض بالرجل حتى لم يستطع أن يثبت على قدميه بسهولة، ثم انشقت الأرض شقاً أكبر من سابقه بجوار قبعته بدوي كبير، ولدهشته شاهد قبعته تطير عالياً في الهواء.
وقبل أن تهبط إلى الأرض ثانية كان الرجل يجرى طالباً النجدة. ولم يلتفت خلفه سوى مرة واحدة. فمن المكان الذي تصاعد منه الدخان، كان يرتفع في الهواء سيل من الأحجار، وكأنما أحد في باطن الأرض كان يطوح بصخور في الهواء.
لم يقف دايونيزيو ليشاهد ما حدث، ولم تكن ساقاه يوماً أقوى على تمكينه من الجري بسرعة مما استطاعت ذلك اليوم. لقد اتجه لتوه إلى بيت القسيس في سان جوان على بعد ثلاثة أميال.
وفي سان جوان كان الأهالي على علم بأن حدثاً غير مألوف كان جاري الوقوع، فحتى من هذه المسافة كانت الأصوات المدوية تسمع بوضوح.
وبينما كان دايونيزيو يروي قصته بحماسة وانفعال كانت سلسلة متصلة من الانفجارات تمزق الهواء، وشاهد الناس على بعد عموداً من الدخان يعرج نحو السماء.
وقال له القسيس على عجل: «سأذهب معك يا بي». وتطوعت حفئة من شجعان الرجال للذهاب معهما. وعندما مروا بقرية باريكوتين – وهي القرية القريبة من حقل القمح - انضم إليهم عدد آخر من الرجال..
كانوا في حاجة إلى كامل شجاعهم؛ إذ أن حقل القمح الذي كان يمتلكه دايونيزيو كان ذا مظهر مخيف. في مكان البقعة المنخفضة شاهد الناس عموداً مدخنا أسود يبلغ ارتفاعه ارتفاع الشجرة. وكان ينبعث وسط هذا العمود سيل متصل من الصخور تتطاير في الهواء، ثم لا تلبث أن تهبط وتتراكم حول الفتحة مكونة ما يشبه المدخنة للدخان الأسود الذي استمر قذفه.
ووقف الناس على حافة الحقل يرسمون علامة الصليب على صدورهم ويحركون شفاههم في صلاة صامتة. وقال ذلك القسيس في رهبة وخشوع «إنه بركان... «إنه بركان عند مولده.. وردد الناس: نعم... نعم إنه بركان، كانوا يعرفون البراكين من قبل، إذ يوجد الكثير منها في المناطق القريبة.
وبرغم من أن أيا منها لم يثر في وقتهم، فقد كانوا جميعاً يعرفون كيف يتشكل. وما لبثت الصخور المتراكمة أن اتخذت شكل مخروط ضخم يشبه قمعاً مقلوبة. ولا يبني مثل هذا | المخروط سوى البركان.
سماع الانفجارات المتزايدة من لحظة إلى أخرى يملأ القلوب بالرعب. ومنظر الصخور المتوهجة وهي تنقذف صوب السماء ثم تهوى في قوس منحن بين سيقان القمح اليافعة التي بالحقل أو ترتد إلى المخروط ثانية يثير الفزع في النفوس
وعندما أقبل الليل وساد الظلام كان منظر البركان أشد إثارة للرعب. وكلما اتسعت مساحة المخروط، تزايد سقوط القذائف على منحدراته، وبدت الصخور في الظلام متوهجة كأنها جمرات ضخمة من الفحم المتقد. تحيط المخروط من كل جانب بالنار، وارتفعت من وسطه شعلة ملتهبة من الجمر تتجه صوب السماء. وتساءل الناس ماذا عسى أن يحدث بعد ذلك، وماذا عسى أن يبلغ ارتفاع ذلك المخروط؟ وسهر الناس طيلة الليل يشاهدون ما يحدث.
وفي الصباح رأوا المخروط قد بلغ في ارتفاعه مائي قدم. ولكنه كان قد فقد وميضه وبدت الصخور التي تكونت سوداء داكنة كالفحم.
ثم تدفق الناس من كل صوب يشاهدون ذلك الحدث العجيب. وتكدست السيارات في الطريق التراني المؤدي إلى باريكوتين ملتفا حول حقل دايونيزيو. وبرغم ما كانت تثيره تلك المناظر والأصوات من فزع في النفوس، فقد كان كل إنسان يعد نفسه سعيدة لأنه عاصر مولد بركان. إنه من الأشياء التي يحدث الناس عنها أحماده.
وحتى ذلك الحين لم تكن الصخور المنصهرة قد ظهرت بعد. لقد تصاعدت قطع كبيرة من الصخور، وقذائف، وقطع أصغر من الأحجار، ولكن حمر المنصهرة لم تظهر قبل مضي أسبوع. وفي بادئ الأمر تدفقت كتلة بسة متعجنة من فتحة على أحد جوانب المخروط. وقد برد السطح الخارجي ذه الكتلة، لدرجة أكسبته لوناً أسود. غير أن العجينة الداخلية أخذت تشق بريقها خلال القشرة الهشة، فشققنها وتساقطت منها قطع من الحجارة، ثم ظهر سترة وجيزة عند الفتحة وميض أحمر، ومرة ثانية اسودت القشرة حتى استطاعت دفعة التالية من العجينة الداخلية أن تشق طريقها خلال القشرة الجديدة.
بدا الأمر كما لو كان هناك مارد يدفع من باطن الأرض بكمية لا نهائية من صخور الحارة غير المتماسكة.
وتحرك الطفح الأول من الحمر المسافة قصيرة، ثم توقف. وعند مقدمته لساكنة تدفقت أبخرة وسحب بيضاء من مئات من الفتحات. وحينما انبعث لبخار ترسبت على الصخور قشور بيضاء لها مذاق ملحي. ثم انبثق لسان ثان ن الحمم إلى جانب الأول وكان أشد منه حرارة وأكثر امتداداً بقليل، ولم يكد هذا الطفح الجديد يتوقف حتى ظهر غيره ثم تلته طفوح أخرى، ومع كل طفح كانت الحرارة تزداد ارتفاعاً والمسافة تزداد امتداداً. وأخيراً اختى حقل دايونيزيو أكمله وتدفقت. الحمم حتى وصلت إلى الغابة التي تحيط بالحقل.
واستمر في نفس الوقت انطلاق الصواريخ. وفي بعض الأحيان كانت القذائف التي تقذف من عنق البركان تتطاير في الهواء إلى ارتفاع ثلاثة آلاف من الأقدام قبل أن تبدأ في الهبوط. وكان يشاهد في وسط عمود الرماد المتصاعد ن فوهة البركان وميض يشبه وميض البرق. وكانت الأرض تهتز اهتزازات ستمرة، والحمر دائمة الانطلاق.
ويقع حقل دايونيزيو اليوم تحت ۳۰۰ قدم من الحجارة. وبلغ ارتفاع مخروط الذي ارتفع فوق الحمما يزيد على ربع ميل. وبلغ قطر قاعدته ميلا. وقد طلق الناس على هذا البركان اسم باريكوتين نسبة إلى القرية التي تجاوره. وما شنت قرية باريكوتين أن اندثرت لأن الرماد الذي ملأ الهواء جعل معه الحياة مستحيلة.
وتوافد العلماء من الأماكن النائية لدراسة البركان الجديد ولم يكن أحد منهم حاضراً عند مولده، ولهذا فقد فرحوا فرحاً شديداً عندما بدأ باريكوتين ثورات في مكان جديد بنفس الطريقة التي بدأ بها عندما كان دايونيزيو وحده يشاهده | فبالقرب من قاعدة المخروط ظهر شق صغير على سطح طفح من الحمم واندفعت منه صخور قليلة. ثم مالبثت الفتحة أن ازدادت اتساعاً. وفي أيام قليلة كان هنالك بركان وليد يلفظ الصخور كما فعل تماماً باريكوتين من قبل وقد أطلق الهنود على هذا البركان الوليد اسم وزابيكو» أي «الابن الصغير..
وقد ملأ زابيكو الهواء بوابل من الأحجار الصغيرة. بينما أخذ باريكوتين في الحمود، لأن الغازات التي كان ينبغي أن تخرج منه كانت تتصاعد من فوه البركان الصغير. وقد تجدد الأمل في النفوس في أن يكون ذلك دالاً على أنالبركان الكبير في سبيله إلى الخمود. وأخذ الناس يرددون «إنه سيتوقف حال الآن، إنه سيتوقف، غير أنه بعد مضي تمر شهرين كاملين لم يخمد سوى الوليل زابيكو. وما كاد ذلك يحدث حتى نشط البركان الكبير ثانية.
وفي الوقت ذاته ظهر شق جديد على جانبه الآخر وأخذت طفوح الحمم المتوهجة تتدفق منه، واستمر تدفقها دون انقطاع شهوراً وشهوراً. كان يخرج منه كل يوم خلالها نحو ما طن أو ما يزيد، وتكونت قشرة صلبة تشبه السقف فوق الحمم. وكان ما الممكن أن يسير الناس فوقها دون أن يعلم أحد أن تحتها حمماً متوهجة. ولكن في الإمكان تصور مبلغ حرارتها إلا عندما تشقق السقف وبدت خطورة
السير فوقها. لأن الغازات الحارة السفلى غير المنظورة كانت تحرق النعال. وامتدت الحمر وانتشرت، وتكون منها أخيراً لسان امتد حتى غطى القرية | التي يحمل البركان اسمها. وتساءل الناس هل تبتلع الحمر سان جوان كما ابتلعت اريكوتين من قبل؟
ولم يبرح سكان سان جوان مدينهم برغم هذا التهديد. وكانت كل الأشجار إلى الغابات المحيطة بالمدينة قد ماتت أو في سبيلها إلى الموت. وغطت الأتربة السمراء زراعات القمح، ولم يعد هنالك مراع للخيل أو الأبقار أو الثيران، لم يكن لدى النساء وقت لمزاولة أعمال التطريز التي اشتهرت بها قريهن، لقد كن في شغل دائم بمقاومة الرماد.
ولم يستطع الرجال أن يعملوا في الغابات بعد ان ماتت أشجارها، وكانوا يقضون الوقت في إزالة الرماد الذي سد الشوارع تساقط ثقيلا فوق الأسقف حتى هدد المنازل بالدمار.
كان سكان ان جوان يعرفون أن مدينتهم هالكة ولكن الأمل كان يراودهم، فربما عفا ريكوتين عنهم وأبقي عليهم، فبرغم اختيارهم موقعاً جديداً للمدينة وتخطيطهم وارع جديدة لها وإصلاحهم الحقول حولها لم تكن لديهم الرغبة في الهجرة.
ير أنهم اضطروا أخيراً إلى ذلك اضطراراً، فقد ظهر طفح جديد من الحمم، وكان يتجه نحو مدينة سان جوان رأساً. اخترق الطفح الغابات وملأ الوادي الموصل إلى المدينة، فحمل الناس على وجه السرعة كل ما يمكنهم حمله فوق
عربات النقل. فأنزلوا أبواب المنازل وإطارات النوافذ والألواح المختلفة ورفعوا من الكنيسة التماثيل والصور والمقاعد والأبواب ذات النقوش القديمة. وتسلق بعض الرجال برج الكنيسة وأنزلوا نواقيسها البرونزية الكبيرة.
وبعد أشهر قلائل لم ينج من الحمم المتدفقة إلا أبراج الكنيسة القديمة وجدار أوجداران. وعندما تم تدمير سان جوان بأكملها كان باريكوتين قد بلغ نهاية قوته. وفي أول مارس سنة ۱۹۰۲ توقف قذف آخر قطعة من الأحجار. وبعد ذلك بأيام قليلة توقف تدفق الحمم وخمد باريكوتين.
وقد أكمل هذا البركان دورته فما يزيد قليلا على تسع سنوات. وفي خلال تلك السنوات التسع بني البركان لنفسه مخروطاً يبلغ ارتفاعه 1600 قدم وغطى مساحة تبلغ مائة ميل مربع برواسب سميكة من الرماد، وتدفقت منه ملايين الأطنان من الحمم التي بلغ عمقها في بعض الأماكن ۳۰۰ قدم. وقد تعلم العلماء من باريكوتين أكثر مما كان من الممكن أن يتعلموه من مشاهدة الثورات الطارئ | القصيرة لعشرة من البراكين الأخرى الكبيرة. فكان لبركان باريكوتين الصغير بعض الفضل، كما كان له بعض الأضرار.