يتعلق بهذا
يوجد بالأراضي الإيطالية بالقرب من خليج نابولي جبل يلفظ النار.
وقد وقف قدماء الرومان موقف الرهبة من هذا الجبل إذ كانوا يعتقدون أنه مدخنة | الأتون الذي يوقده الإله "فولكان"، إله النار والحدادة. وكانوا عندما يشاهدون الدخان الأسود يرتفع من فوهته، والنار تلتهب من حولها يقولون: إن فولكان يعد قصفات الرعد أمام سندانه لجوبيتر كبير آلهتهم، والأسلحة لمارس - إله الحرب». فكانوا يعتقدون أن دوى الانفجارات المنبعثة من أعماق الحبل ليست إلا الدقات العنيفة لمطرقة إله الحدادة. وقد أطلقوا على ذلك الجبل الذي يلفظ النار اسم فولكانو (بركان) نسبة إلى الإله فولكان، ثم أطلق هذا الاسم على جميع الجبال التي من هذا النوع.
أما سبب اعتقاد الرومان أن هذا البركان على وجه التحديد هو د ورشة» حدادة إلههم، فذلك ما لا يعرفه أحد. ولا عجب أن يتمخض خيال هؤلاء القوم عن مثل هذه القصة.. في تلك الأيام لم يكن علم الأرض قد ظهر بعد. لذلك كان الناس يلجأون إلى الخيال ليفسروا به ما يعجزون عن تفسيره بالحقائق الثابتة.
وكل ما كان يعرفه الرومان عن هذه الجبال هو أنها كانت خطيرة، وأنه لم يكن من الحكمة أن يقترب الإنسان منها عندما تنبعث سحابة دخان من قمة حدها.
وما كانوا يدرون أن البركان بينما يبدو خامدة كل الحمود، قد يثور فجأة. ولذلك فإنه عندما نشط فيزوف بعد ألف سنة أو ما يزيد فجأة، تولهم الدهشة.
إن ألف سنة تعد فترة طويلة من الزمان. وفي ألف سنة تختفي آثار البركان كلها. وفي ألف سنة تستطيع الأمطار والصقيع والرياح أن تغير معالم جوانبه المهشمة وتحيلها إلى مروج خضراء باسمة. وكان ذلك ما حدث لبركان فيزوف، فلقد اندملت جراحه. وفي ألف سنة غطت المزارع الحصيبة والكروم المثمرة منحدراته.
وحتى فوهته المحترقة قد غطتها الخضرة والكروم، وقامت حول قاعدته حلقة من المدن البهيجة اشتهرت من بينها بومبي مدينة فينوس المقدسة، وهرقلانيوم مدينة هرقل.
ولقد كانت الحياة في هاتين المدينتين على جانب كبير من البهجة، حتى حرص نفر كبير من مشاهير الرومان على أن يقتي كل منهم قصراً في إحدى هاتين المدينتين. وكانت بومي على الأخص شهيرة بورودها الجميلة، وبأنبذها، وملذاتها.
ثم حدث في الرابع والعشرين من شهر أغسطس عام ۷۹ بعد الميلاد، قرابة وقت الظهيرة، أن انبعثت من فوهة فيزوف سحابة بيضاء ضخمة على صورة شجرة صنوبر هائلة، وأهتزت الأرض ثانية بعد أن كانت قد اهتزت هزات متكررة خلال أيام عديدة. وكان هناك دوى أعقبه انفجار.
وقبل أن يدرك سكان المدينة الذين استولت عليهم الدهشة ماذا حدث، تحول لون السحابة البيضاء إلى لون أسود، وأمطرهم الحبل وابلاً من الحجارة في حجم ثمار الجوز.
لقد استولى الذعر على الناس فهرول من كان خارج المنازل إلى داخلها، واندفع من كان منهم داخل المنازل إلى خارجها، وتساءل الناس هل حلت نهاية العالم؟ وهل تخلت عنهم الآلهة؟ ولم يكن أحد يعرف ماذا يفعل. أيفر أم يبقي؟ وصار الناس يعدون هنا وهناك وقد لفوا رؤوسهم بأردتهم، أو وضعوا الوسائد فوق رؤوسهم لكي يقوا أنفسهم أخطار الحجارة المتساقطة. وتغطت قمة الجبل كلها ببساط من البخار الأسود، وأظلمت الدنيا، وامتلأ الهواء برائحة الكبريت الخانقة، واهتزت الأرض هزات عنيفة حتى كادت المباني تقتلع من أساسها وشبت الحرائق في كل مكان.
وتساءل أهالى بومبي: «أيبقون حيث هم أم يرحلون؟» وكان من الصعب على معظمهم التخلى عن منازلهم وممتلكاتهم كلها، فلابد وأن هذا الوابل من الرماد من نهاية. ولبث الناس في منازلهم أياماً عدة يضرعون إلى آلهتهم.
ولكن السماء استمرت تمطرهم ذلك الوابل دون رحمة. وأخذ بعض الناس طعامهم وجمعوا أطفالهم ولجأوا إلى أقبية منازلهم، ولجأ البعض الآخر إلى الطوابق العليا فراراً من الرماد الذي سرى إلى الطوابق السفلى، وقرر آخرون في النهاية أن مهربوا حاملين معهم ما غلا ثمنه وخف حمله، فهرعوا إلى الشوارع المليئة بالرماد متجهين صوب أبواب المدينة. ولكن الفرصة كانت قد أفلتت من الكثير منهم. فقد تأخر هؤلاء أكثر مما ينبغي، فأطبقت عليهم الأبخرة الخانقة المنبعثة من البركان.
فهذه امرأة كانت تحمل صندوق مجوهراتها وفي يديها زجاجات العطور الفاخرة تسقط سقطة لا تقوم بعدها. وتلك غادة مختالة قد وقعت وهي تلهث وبجوارها مرآتها المفضلة، وهذا مالك لقصر يحمل مفتاح قصره في بده لا يكاد يصل إلى باب حديقته وفي أعقابه عبيده يحملون أمواله ونفائسه حتى تدهمهم جميعاً الغازات الخانقة عند باب القصر فتقضى عليهم.
وما كان الذين بقوا بأحسن حالاً ممن حاولوا الفرار، فقد تسربت الغازات إلى كل مكان. واستمر تساقط الرماد ثمانية أيام وماني ليال. وغطى الرماد كل شيء. وما لبثت المدينة بموتاها أن اختفت تدريجيا من الوجود، ولربما لم ينج من أهل بومبي الذين كان يبلغ عددهم العشرين ألفاً ما لم يزد عن ألفين.
أما في مدينة هرقلانيوم فقد كان عدد الذين نجوا أكثر من ذلك، إذ لم يكن أمام أهليها مجال للتردد. ولم يفكر أحدهم أن يحاول إنقاذ أي شيء.
كان ما ينبغي على كل شخص أن يفعله واضحاً أمامه كل الوضوح.
إذ نزل من جانب الجبل فجأة سيل جارف من الرماد، وقد استمر هذا السيل مختلطة بمياه الأمطار والمياه الجوفية يتحرك في بطء شديد دون توقف متجها صوب المدينة. وجرى الناس أمام هذا السيل الطيني نحو البحر ونحو الخلاء ونحو أية جهة يمكنهم الفرار إليه. ثم اكتسح انطين شوارع المدينة ببطء، وتسرب إلى المنازل فلاها من الداخل وغطى كل شيء، إلى أن ابتلع المدينة كلها، على حين كان الرماد لا يزال ينصب من السماء..
ثم انقضت مئات السنين، تتلوها مئات أخرى، ونسي الناس ما حدث ولم يعد أحد يذكر أين كانت بومبي أو هرقلانيوم. لقد نسي الناس كل شيء عنهما حتى اسميهما ولم يعد لهما ذكر... وفي عام ۱۷۳۸ قدمت إلى مدينة نابولي ملكة جديدة. وكانت هذه الملكة الزوجة الشابة لشارل الثالث، ومن أهل الشمال. وقد سحرتها الحدائق المشمسة بقصرها الإيطالي. وأثارت التماثيل القديمة التي كانت تزين أحواض الزهر أو تتوارى تحت ظلال الأشجار اليانعة إعجابها وأسرتها بجمالها.
وتساءلت الملكة: من أين جاءت هذه التماثيل؟ وهل من الممكن أن تحصل على مزيد منها؟
لقد ذكر بعض الناس للملكة أن بعضها عثر عليه مصادفة فوق جبل فيزوف، وأن بعضها قد وجد في حفر أسفل الجبل. وبنحو ۲۰ سنة قبل ذلك كان الأمير البوف قد رغب، على ما يظهر، في الحصول على بعض الرخام المطحون، فأخبره الفلاحون هناك بأنه يوجد على سفح جبل فيزوف بعض الحفر التي استخرجوا منها الكثير من التماثيل. فحفر البوف واستخرج عدداً كبيراً آخر. وكانت هذه الحفر لا تزال مفتوحة حتى ذلك الحين.
ولم تتباطأ الملكة في تجنيد العمال في أعمال الحفر، ففتحت الممرات في جوانب الحفرة السابقة ونسفت ثقوبها. وأخيراً كلل العمل بالنجاح وانكشف الغطاء عن قطع عديدة من تماثيل عديدة ضخمة من البرونز.
ثم كشفت ثلاثة تماثيل رخامية لأشخاص رومانيين في ملابسهم الفضفاضة. وظهرت بعد ذلك أعمدة ملونة، وجذع لحصان برونزي، ومجموعة من الدرج.
وعندئذ كانت حماسة الملك الأعمال الحفر لا تقل عن حماية الملكة نفسها. فماذا عساه أن يكون أصل تلك الآثار التي يكشف عنها الحفر؟ وجاء الجواب عن هذا السؤال بعد بضعة أسابيع. لقد كان هذا المكان مسرحاً..
لكم دلت عليه إحدى العلامات. لقد شيد شخص اسمه روفاس، لحسابه | الخاص، هذا المسرح لهرقل. ولهذا لم يكن من المستغرب أن يعثر البوف على هذا العدد الوفير من التماثيل.. فقد كانت تزين الجدار الخلفي للمسرح.
ثم تداعي الجدار، وجاءت حفائر البوف عن طريق المصادفة في وسط المسرح تماماً حيث سقط الجدار بتماثيله.
ولكن ماذا كان يعني وجود المسرح؟ إن المسرح لا يمكن أن يقوم وحده. فلا يكون المسرح إلا جزءاً من مدينة. فلابد تبعاً لذلك أن تكون هنالك مدينة راقدة تحت الرماد المتماسك بالطين الذي كان يحفر فيه السرداب..
إنها مدينة هرقلانيوم... أحدث هذا الاسم طنة ورنة. وأخذ الباحثون يبحثون عن المراجع القديمة، فرجعوا إلى خطابات الكاتب بليني الصغير الذي شهد ثوران بركان فيزوف، وهو شاب في السابعة عشرة من عمره. فوجدوا فيها كيف أن عمه بليني الكبير - الذي كان عالماً طبيعيا وقائداً للأسطول – قد فقد حياته عند محاولته إنقاذ الجماهير الهاربة من غضبة الجبل وثورته.
تلك هي هرقلانيوم، وذلك هو مكانها.. فأين كانت مدينة بومبي؟ واستمر الناس بحفرون فوجدوا القصور والمتاجر والمعابد والحمامات وكشفوا عن النقوش التي كانت تزين الجدران والتماثيل التي كانت في الحدائق.
وبدافع من حب الاستطلاع تقصوا الأشياء التي كان الناس يستخدمونها يوميا في منازلهم ومصانعهم وحاناتهم. لقد بقي كل شيء في مكانه وحفظ بإبداع نيفاً وستة عشر قرناً ونصف قرن. وعثروا على الموتي. في غرفة عليا في بومبي لقيت أسرة من أحد عشر شصاً حتفها معاً.
وفي أقبية قصر أحد النبلاء رقد ثماني عشرة امرأة وطفلا ورؤوسهم مغطاة وكأنهم نيام. وعلى مقربة من باب إحدى الحدائق قبرت مجموعة من الرجال وبجواره أكياس مليئة بالنقود والنفائس التي حاولوا أن يفروا بها. وآخر يحمل في بده مفتاحاً. وامرأة تحلى إصبعها وأذنيها بقرط وتلبس۔ شبشبا، في قدميها الرشيقتين راقدة على ظهرها، ولم يكن بجوارها إلا مرآة وتمثال من الكهرمان لكيوبيد.