توجد أعظم أنهار الدنيا في البحر، ويبدو نهر المسيسيبي، أو حتى نهر النيل، أو نهر الأمازون بجانبها وكأنه غدير. ويبدو غريبا أن تستطيع تيارات من المياه أن تتحرك لمثل هذا البعد خلال مياه أخرى دون أن تختلط بها.
ولكن أي مجرى من الماء أدفأ أو أبرد من الماء المحيط به من كل الجهات يستمر في جريانه بمفرده لزمن طويل. وفي بعض الأحيان تتميز اضفتاه، بوضوح يشبه تقريباً وضوحهما لو كان المجرى على الأرض. وقد توقفت مرة باخرة خفر السواحل الأمريكية المسماة تمبا على حافة أحد هذه الأنهار البحرية الغريبة القياس درجة حرارة الماء، وكانت درجة الحرارة عند مقدم الباخرة 56° فهرنهيت وعند مؤخرها 34° فهرنهيت فقط.
وقد يختلف أيضاً تيار الماء المتحرك في لونه عن ماء البحر المحيط به، وفي بعض الأحيان يكون سطحه هائجا، أو قد يغطيه الضباب.
وأعظم الأنهار البحرية هذه أهمية هو تيار الخليج؛ فهو ينساب خارجاً من خليج المكسيك بين كوبا وفلوريدا. وهناك يتحرك بسرعة خمسة كيلو مترات في الساعة أو بسرعة مشي الإنسان العادية. وعرضه 145 كيلو متراً، وعمقه في بعض الأماكن أكثر من ۸۰۰ متر. ويمر بليون طن من الماء تقريباً على طول ساحل فلوريدا كل دقيقة.
ويتحرك تيار الخليج على طول ساحل المحيط الأطلسي للولايات المتحدة، وبعد أن يمر برأس كود في مساشوستس ينحرف إلى الشرق، ويمر بعرض المحيط الأطلسي، وهناك يتسع عرضاً وتنقل سرعته ويفقد جزءاً كبيراً من دفئه الذي أتى به من البحار الحارة.
ويتفرع التيار في فروع عظيمة، يتجه أحدها إلى سواحل أيسلندا، ويتجه فرع آخر إلى شواطئ بريطانيا والنرويج حيث يدفع أمامه حقول الثلج القطبية إلى الخلف. وينحرف أيضاً فرع كبير إلى الجنوب على طول شواطئ أفريقيا.
وعلى اليابسة تنيع الأنهار من نبع ما أو بركة، وتصب في نهر أكبر، أو بحيرة، أو ربما المحيط. ونستطيع أن نحدد على الخريطة مكان بدنها ومكان انتهائها، ولكن الأنهار العظيمة في المحيط ليس لها بداية أو نهاية.. وحتى تيار الخليج الهائل ما هو إلا جزء من جهاز أعظم وتنساب هذه الأنهار في اتجاهاتها هذه نتيجة ثلاث قوى تؤثر فيها طول الوقت.
وإحدى هذه القوى هي دوران الأرض حول محورها، والقوة الثانية هي تسخين الشمس للهواء والماء بدرجة غير متساوية، والقوة الثالثة هي اعتراض القارات والجزر لمجرى هذه الأنهار، تماماً مثلما تعترض الصخور والكثبان الرملية مجرى الغدران الصغيرة.
ونحن نعرف أن الكرة الأرضية تدور دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة.
ولما كانت المسافة حول الكرة الأرضية عند خط الاستواء هي 38.600 كيلو متر تقريباً، وتوجد أربع وعشرون ساعة في اليوم، فإن الصخور السطحية تتحرك بسرعة حوالي 1600 كيلو متر في الساعة. والصخور لا تغير موضعها، ولكن الهواء أخف منها كثيراً لدرجة أنه لا يستطيع أن يتحرك معها بنفس السرعة، ولذا تحدث تحركات الهواء هذه التي نسميها رياحاً.
وفي أي مكان تغير الرياح اتجاهها كثيراً لأسباب عديدة. ولكن على جانبي خط الاستواء كليهما، حيث دوران الأرض في أعظم سرعة، فإن الرياح تهب على الدوام في اتجاه واحد.
هذه تسمى الرياح التجارية لأنها كانت في الأزمنة القديمة تحمل السفن الشراعية مسافات بعيدة.
ولأن الأرض تدور تجاه الشرق فإن الرياح التجارية هذه تأتي من الشرق ولكن انبعاج الأرض عند خط الاستواء بحرفها قليلا عن اتجاهها، فتنحرف شمال خط الاستواء إلى اليمين وهب من الشمال الشرق، وتنحرف جنوب خط الاستواء إلى اليسار وتهب من الجنوب الشرق. وتسحب هذه الرياح الثابتة المياه السطحية خلفها من الشرق إلى الغرب، فتخلق التيارات التي نسميها التيارات الاستوائية.
والتيار الاستوائي الشمالي يعبر المحيط الأطلسي وينحرف تجاه خليج المكسيك، وهناك يسبب ضغط المياه ارتفاع مستوى البحر بضع سنتيمترات عن مستوى الماء في عرض المحيط، وبذا ينشأ تيار الخليج، ومن هذا نرى أن تيار الخليج ينساب أول الأمر من مستوى أعلى إلى مستوى أكثر انخفاضاً. وبعد أن يعبر المحيط الأطلسي ينحرف الكثير من مائه إلى الجنوب على طول سواحل أفريقيا وينضم للتيار الاستوائي.
وهنا نرى كيف تغير القارات اتجاه أمثال أنهار المحيط هذه. ولولا وجود أمريكا الوسطى لاستمر التيار الاستوائي ينساب عبر المحيط الهادي، ولكن قارة أمريكا الشمالية تدفعه شمالا، وبذا ينحني إلى الخلف على نفسه في مجراه الذي لا نهاية له.
ويحمل تيار الخليج عند انسيابه من البحار الحارة ماء دافئاً. ويحتفظ جزء كبير من دفئه وهو يعبر المحيط الأطلسي.
وجنوب خط الاستواء توجد للمياه حركات مشابهة، إلا أنها غير واضحة الحدود بهذا الشكل. وتوجد أنهار عظيمة في المحيط الهادي أيضاً. وفي الواقع يوجد تبار استوائي آخر يعبر هذا المحيط طوله 14500 كيلو متر.
وينحرف هذا التيار شمال على طول شواطئ الفليبين وجزر أخرى ويعود يعبر المحيط مرة ثانية في شكل التيار الياباني. والمحيط الهادي وإن كان كبيراً جدا، إلا أن جزره العديدة تعترض سبيل التيارات وتسبب تفرعها، ولذا فهي ليست محددة بوضوح كما هي في المحيط الأطلسي الشمالى.
وفي المحيط الهندي، وهو محصور بين قارات أفريقيا وآسيا وأستراليا، ليس للتيارات نفس الحيز لحركتها، لذلك فهي قد تغير اتجاهها من فصل لآخر من العام حسب الرياح المؤاتية. وفي بعض الأحيان تتسع تيارات المحيط عرضاً وتتحرك بسرعة لا تتعدى الكيلومترين في الساعة. وفي أماكن أخرى تحصرها الأرض في حيز ضيق، وحينئذ تزداد سرعتها إلى عشرين كيلو متراً في الساعة أو أكثر.
ومن هذا نرى أن سطوح البحار تجري عليها أنهار عظيمة في اتجاهات متقاطعة. وبعض مياه هذه البحار دافئة، وبعضها الآخر باردة تتحرك ولا نهاية الحركتها. وتوجد أيضاً مساحات شاسعة ليس فيها إلا حركة طفيفة، وهي تشبه الأجزاء المنعزلة على طول مجرى غدير حيث يبدو الماء وكأنه انعزل عن التيار الرئيسي ليستريح.
وتوجد حركات أخرى في البحر هي أعظم حتى من التيارات السطحية. وهذه هي صعود المياه الأدفأ والمياه الأخف، وهبوط المياه الأثقل والمياه الأبرد. وفي البحار القطبية تغوص المياه الباردة إلى أسفل وتزحف على قاع المحيط، كما أن المياه الدافئة في المناطق الحارة تندفع ببطء على السطح تجاه القطبين..
ومثل هذه الحركات تمد كل الكائنات الحية في البحر باحتياجاتها، فهي تحمل الأكسيجين الضروري للحياة إلى أسفل إلى قاع المحيط نفسه، وهي توزع الأملاح والمعادن الأخرى هنا وهناك في الماء تماماً مثلما يضع الفلاحون السياد في التربة. والمعادن هذه ضرورية لحياة النباتات التي هي غذاء الحياة الحيوانية في البحر.
وفي بعض فصول السنة بدفع تيار لبرادور البارد تبار الخليج إلى الجنوب قليلا. ولكن معظم أنهار البحر الكبيرة لا تغير اتجاهها إلا قليلا. ويقدر العلماء أن تبار الخليج ينساب منذ 10 مليون سنة، ولكن قبل أن تظهر أمريكا الوسطى والبحر وتصل ما بين القارتين الأمريكيتين كان التيار ينساب عبر المحيط الهادي بعيداً إلى شواطئ آسيا.
وكل هذا بديع جدا، فهو يشبه انسياب الدم في الأوعية من القلب إلى أطراف الأصابع ثم عودته إلى القلب، وتكرار العملية مرة بعد أخرى. وهذا ما يسميه الأطباء الدورة الدموية. وتعتمد الحياة في الكرة الأرضية على دورة المياه في البحر تماماً لنفس درجة اعتماد حياة الإنسان على دورة الدم في الجسم.
وتيارات السطح، وصعود المياه ونزولها، والزحف البطيء على طول قاع المحيط، كل هذه تنظف البحر وتنقيه، فهى تحميه من أن يأسن كما يأسن ماء البركة الراكد، وتغطيه رغوة خضراء. وهناك أماكن قليلة في المحيط، مثل المياه العميقة جدا في البحر الأسود، ليس بها دورة مائية. وقد تجمعت هناك المواد السامة وأصبحت الأسماك غير قادرة على المعيشة فيها.
ويقدر العلماء أن مياه المحيط القطب الشمالي تتغير كل 165 سنة كما يتغير الماء في حمام السباحة. ويجري هذا في كل مكان في المحيطات، وفي أغلب الخلجان، والمداخل الصغيرة أيضاً. وعلى هذا فإنك عندما تقف على شاطئ البحر فإن الأمواج التي تتكسر عند قدميك ربما كانت تتدافع في وقت ما على جزيرة مرجانية في المحيط الهادي الجنوبي أو على السواحل المتجمدة لجرينلاند.