الجاذبية الخفية للشمس والقمر:
عند أول زيارة لنا للشاطئ قد يكون أكثر دهشتنا لحركات أخرى من حركات البحر غير التي شرحناها، وهي التي تسمى المد والجزر.
ينحسر الماء لعدة ساعات فيترك الصخور والرمال عارية، ثم يعود ببطء ليغطيها مرة أخرى. وانسحاب الماء تجاه البحر يسمى الجزر، ورجوعه نحو اليابسة يسمى المد. ويحدث المد والجزر على أغلب الشواطئ مرتين في أكثر قليلا من أربع وعشرين ساعة.
والمد والجزر هما في الحقيقة أمواج هائلة، وأغلب الأمواج على طول الشاطئ ترتفع وتهبط من لحظة الأخرى ولا تفعل أكثر من تجعيد سطح الماء، ولكن ارتفاع المد وهبوط الجزر يستمران عدة ساعات ويمتد أثرها إلى أقصى قاع البحر.
علاقة المد والجزر بالانسان:
ولقد كان المد والجزر دائماً مثار حيرة الناس. وفي وقت ما كانوا يخشون أن الأرض نفسها تتنفس مثل مارد عظم. ويوليوس قيصر كان يظن أن القمر له شأن ما بالمد والجزر، وقد كان على حق ولكنه لم يكن يعرف تماما لماذا.
إذا رفعت حجراً ثم تركته فإنه يسقط على الأرض، وذلك لأن الأرض تجذبه كما يجذب المغناطيس إليه قطعاً صغيرة من الحديد. وكل أشكال المادة تخضع لهذا القانون الذي يسمى قانون الجاذبية.
والشمس والقمر - مع بعدها العظيم في الفضاء - يجذبان الكرة الأرضية على الدوام وكأنهما مغناطيسان كبيران، وحتى الصخور تستجيب قليلا أشدهما، ولكن البحر يستجيب أكثر كثيراً. وقد نظن أن الشمس تشد أكثر لأنها أكبر ۲۷ مليون مرة من القمر، ولكن القمر أقرب إلينا كثيراً لدرجة أن قوة شده أكثر من شد الشمس بأكثر من مرتين، ولذا يسمى القمر سيد المد والجزر.
ويدور القمر حول الكرة الأرضية في حوالي ثمانية وعشرين يوماً ساحبة المد والجزر خلفه، ولكن اليوم به أربع وعشرون ساعة فقط، ولذا فإن ميعاد المد والجزر يتأخر ساعة تقريباً كل يوم. ودائماً ينتظر الصيادون والملاحون والمصيفون على الشواطئ هذا الميعاد المتغير للمد والجزر.
والقمر لا يدور حول الكرة الأرضية فحسب ولكنه يتأرجح بين شمال وجنوب خط الاستواء، فأحياناً يكون أقرب، وأحياناً أخرى يكون أبعد. ولذا يكون شده للبحر متغيراً على الدوام. وإضافة إلى ذلك فإن الشمس تشد أيضاً. وعندما تكون الشمس والقمر في خط واحد يكون شدهما أعظم. وغالباً ما يكون شدها في اتجاهين متضادين، ولذا فإن المد والجزر يكونان في بعض الأحيان عاليين جدا، وفي أحيان أخرى يكونان أكثر انخفاضاً.
حركات المد والجزر:
وحركات المد والجزر تعتمد أيضاً على شكل حافة الشاطئ. وفي وسط المحيط قد يرتفع الماء وينخفض حوالي نصف متر فقط، أما في الخلجان والمداخل الصغيرة فقد يكون الفرق عدة أمتار.
وأعلى حركات المد والجزر في الدنيا تحدث في خليج فندي في نوفاسكوتيا، فهناك يرتفع الماء أكثر من خمسة عشر متراً، وأي سفينة راسية هناك تبقي على الأرض الجافة على الشاطئ، وتطفو مرة أخرى عندما يعود المد. وخليج فندي له شكل القمع. وبندفع الماء الداخل في هذا القمع إلى حيز ضيق فيرتفع إلى أعلى فأعلى.
وفي بعض أماكن أخرى من الدنيا يرتفع المد لأكثر من عشرة أمتار تقريباً، وهناك أنهار قليلة مثل نهر الأمازون تدفع البحر إلى الخلف أمامها، | ولكن عندما يعود المد يندفع الماء إلى أعلى النهر في موجة عظيمة قد يصل | ارتفاعها ثلاثة أمتار أو أكثر لأن البحر أقوى كثيراً من أي نهر.
وهناك أماكن قليلة يظهر أن السيطرة على المد والجزر فيها هي للشمس) وليست للقمر. وهذا صحيح بالنسبة لجزيرة تاهيتي الجميلة في المحيط الهادي.
وفي مانيلا يحدث المد والجزر مرة واحدة في اليوم بدلا من مرتين، وتوجد أماكن لا يكاد يحدث فيها مد ولا جزر على الإطلاق (البحر المتوسط مثلا).
ويرجع ذلك إلى وجود قوى أخرى غير جذب الشمس والقمر، تؤثر في المد والجزر. وأغرب هذه القوى هي الانبعاجات.
وأنت إذا حملت وعاء ممتلئاً ماء فإن الماء ينسكب بسهولة، إذ يتأرجح الماء في الوعاء من جانب إلى آخر. ونجد مثل هذه الحركات تماماً في البحار المغلقة جزئيا، ونحن نسمي هذه الحركات الانبعاجات.
ويتحدث أهالى جزر الفلبين عن جنون المد والجزر في بالاوان حيث يرتفع المد متراً أو أكثر. وكل خمسين دقيقة أو ما يقرب من ذلك تميل مياه بحر سولو من جانب آخر كما يفعل الماء في وعاء كبير. وتوجد حركات انبعاجية في بمضيق لونج أيلاند بأمريكا وفي أماكن أخرى عديدة. ويظن أن نفس الشيء يحدث في مناطق من المحيطات أكبر كثيراً فنجد حركات مد وجزر طفيفة في وسط هذه المناطق، وحركات ارتفاع وانخفاض أعظم عند حافاتها.
أما ما الذي يسبب هذه الحركات الانبعاجية فهو أمر لا يزال موضع الشك. ويظن أن سببها تغيرات في ضغط الهواء، لأنها توجد أيضاً في كثير من البحيرات كما توجد في البحر.
ونحن نعرف تماماً أن ضغط الهواء له بعض التأثير في المد والجزر. فإذا انخفض البارومتر سنتيمتراً فقد يرتفع المد اثني عشر سنتيمتراً لانخفاض وزن الهواء فوق الماء. وقد تفعل الرياح الشديدة أكثر من ذلك كثيراً. وقد دفع إعصار عام ۱۹۳۸ مياه خليج نارا جانست ثلاثة أمتار فوق مستوى المد وأغرق جزءاً من مدينة بروفيدنس.
ومشكلة المد والجزر ليست واحدة إطلاقاً في أي مكانين، وهي تتغير على توالى الساعات. ومع ذلك فقد اخترعت آلات نستطيع بوساطتها أن نعرف تماماً ما سيكون عليه شد الشمس والقمر في أي مكان في الدنيا بعد عام.
وتستغرق هذه العملية من الآلة سبع ساعات، وحتى حينئذ لا نستطيع أن نعرف من الآلة حالة الرياح أو مقياس البارومتر في ذلك اليوم.. والمد والجزر لهما أهمية في كل الموانئ. وفي كثير منها تضطر السفن الكبيرة إلى انتظار المد التدخل الميناء، وانتظار الجزر لتخرج منها. وغالباً ما يسبب المد والجزر تيارات سريعة بين الجزر على السواحل الصخرية يمكن أن تكون خطرة، وقد يسببان دوامات عظيمة. وأعظم الدوامات شهرة في الدنيا هي الدوامة التي توجد خارج ساحل النرويج، وتسمى ميلستروم وكان الملاحون يعتقدون في وقت ما أنها تبتاع السفن الكبيرة. وقد كتبت قصص مثيرة عن هذه الدوامة، وفي وقت ما كانت تستعمل قوة المد والجزر في الخلجان المقفلة لإدارة عجلات الطواحين لطحن الحبوب وقطع الأشجار في نيو إنجلاند بأمريكا.
وقد حاولت الحكومة الأمريكية استغلال قوة المد والجزر في خليج بساما كودي في ماين، وهناك يندفع بليون طن من الماء إلى داخل وخارج الخليج مع كل مد وجزر.
ومنذ زمن بعيد جدا - عندما كانت الدنيا في حداثتها - كان المد والجزر أعلى كثيراً مما هما الآن. وكانت الكرة الأرضية تدور حول محورها مرة كل أربع ساعات بدلا من كل أربع وعشرين ساعة كما تفعل الآن.
كما أن القمر كان أيضاً أقرب كثيراً، ولذا كان يتسابق حول الدنيا مد وجزر ارتفاعهما مئات الأمتار برغيان ويز بدان على القارات التي كانت على وشك الظهور فوق مستوى البحار.
وتلك قصة طويلة عن الماضي، ولكن النظر إلى المستقبل يثير دهشتنا إلى نفس الحد، لأن المد والجزر يعملان كفرامل ضد دوران الأرض. والقوة التي تسيطر عليهما تأتي من الشمس والقمر البعيدين جدا. وشدها الثابت يبطئ من دوران الأرض تماماً كما يبطئ المغناطيس سرعة عجلة تدور. وسيستمر هذا إلى أن يصبح طول اليوم، الذي كان في وقت ما أربع ساعات، نحو ثمانية وعشرين يوماً.
انظر إلى هذا الاختلاف العظيم الذي سيطرأ على مناخنا، لأن الشمس ستسطع لعدة أيام تتلوها أيام أخرى من الظلام. وتدل الآلات على احتمال أن اليوم زاد عدة ثوان عما كان عليه منذ بدأ التاريخ المكتوب. ولا يبدو هذا سوى ذرة من الوقت، ولكن هذه الذرة نطول على الدوام؛ لأن شد الشمس والقمر لا يتوقف أبداً.
والصورتان كلتاهما تسببان لنا الفزع، ولكن الماضي انقضى منذ زمن بعيد، والمستقبل لا يزال بعيدة جدا، ولن يحدث أي تغيير عظيم لمئات آلاف السنين، ولكننا نستطيع أن نفهم أحسن ما كان للمد والجزر من أهمية في الماضي، وما سيكون لهما في قصة حياة الكرة الأرضية التي نعيش عليها.