ربما تكون قد رأيت صورة كتب أسفلها: "رجال القوارب في الفولجا"، إنها تعرض جماعة من الرجال في أسمال بالية يسيرون الهوينا على شاطئ النهر بجرون سفينة كبيرة مسطحة القاع في نفس الطابع الذي يجر فيه الصينيون سفنهم في نهر يانجتسي.
إن الصورة قديمة ولا شك، لقد كان ستمائة ألف من هؤلاء الرجال في روسيا في عهد القياصرة، ولكن سفن الحر خلصت اليوم من هذا العناء، والفولجا اليوم نهر حديث إلى غاية ما للكلمة من معنى، إنه مسيسيبي الاتحاد السوفييتي.
وتضيء المجري منارات قوية، وتصدر النشرات من يوم إلى آخر لتدل قباطنة السفن على الأماكن الضحلة القريبة الغور، وتعمل السفن الكاسحة للغرين في كل مكان لإزالة الطين، ولإبقاء القاع على طوع المجرى حتى بحر قزوين بعمق اثنتي عشرة قدما، وأحواض السفن وأرصفة الموانئ من أحدث طراز مع آلات حديثة للشحن والتفريغ، ووسط أحدث نماذج السفن من البواخر والسيارات وناقلات البترول والصنادل Lighter والزوارق الى بعبر بها النامي النهر من شاطئ إلى الآخر ( المعديات) ووسط المثلجات العائمة وسفن مكافحة الحريق، وسط هذا كله تجيء مع التيار عائمات ضخمة تجرها سفن الحر، والعادة أن تكون العائمة بطول أربعمائة متر وعرض مائتين وسبعين متراً، ولكن لا تحمل هذه العائمات شيئا.
وتسأل نفسك في دهشة: (ما معنى هذا؟
معناه أنه لا توجد في الجنوب غابات، فالجنوب أرض معدومة الأشجار، ولكن الخشب تحتاج إليه كل حرفة وكل صناعة، يحتاجون إليه لبناء المنازل، الدروع الخطوط الحديدية، لسنادات الحفر في المناجم، الأرضيات الآلات في المصانع، وهكذا ترسل العائمات من الشمال مع التيار إلى الجنوب، مجرد جذوع أشجار ضخمة مربوطة بعضها إلى بعض كي تشكل هناك تبعاً لاحتياجات العمل.
والخشب والبضائع المصنوعة هي كل ما يرسل مع التيار نحو الجنوب، على حين تنتقل للشمال مختلف أصناف البضائع. وتبدأ الحركة النشيطة على النهر عندما يستيقظ النهر المتجمد من نومه الذي يمتد لأربعة أو خمسة أشهر، وتبدأ الحركة، فالناقلات تحمل البترول، «والصنادل وتحمل المعادن والفحم، وينقل القمح من المزارع الجماعية الفسيحة على طول نهر الفولجا، وينقل شمالا الملح من الصحراوات الملحة قرب بحر قزوين، وينقل الأسمنت كذلك للشمال، والسمك الذي يصطادونه في الفولجا وفي بحر قزوين، والغراء والكتان والدقيق والآلات كلها تنقل في النهر نحو أطرافه العليا في الشمال؟
وفي الاتحاد السوفييتي و مائة ألف نهر، ولكن يمر بالفولجا وفروعه ثلثا المتاجر التي تنقلها السفن في أنهار روسيا، وبالإضافة إلى هذا فإن آلاف البواخر التي تمر عبر الفولجا تنقل الركاب، بعضهم يقصدون الرحلة للعمل، وبعضهم يقصدونها للمتعة والسرور.
التقدم الذي حققته البلاد في السنوات الأخيرة، وفي إقليم الفولجا تقوم نصف صناعات الاتحاد السوفييتي، وعلى النهر نفسه الكثير من المراكز الهامة، نكازان تنتج الآلات الكاتبة وأفلام السينما، وجوركي، هي «ديترويت الاتحاد السوفييتي، تصنع العربات وسيارات النقل، وستالينجراد التي أمكن عندها وقف القتال ثم رد الجيش الألماني على أعقابه في الحرب العالمية الثانية تصنع الجرارات؟ وفي استراخان تصنع العلب المليئة بالسمك المحفوظ، وهناك صناعات الفراء والمعادن والمصنوعات الجلدية، وعلى النهر آلاف الأحواض البناء السفن؟
وتوصي الحكومة الناس بأن يقضوا عطلاتهم على الفولجا، وتقول له: شاهدوا مشروعات الفولجا العظيمة،
وكل فرد يريد أن يرقب هذا، ذلك لأن إعادة إنشاء الفولجا بإقامة الخزانات ومحطات القوى الكهربية وشق القنوات كانت محور كل المشروعات الروسية، وكان الناس في كل أرض روسيا يتحدثون عن هذا السنوات؟ وتقع موسكو عاصمة الاتحاد السوفييتي على نهر مسكها أحد فروع الأوكا الذي هو بدوره أحد فروع الفولجا، وعندما شفت القناة التي جاءت بالفولحا إلى موسكو كان هذا عيداً احتفل به الناس، ولكن في سنة ۱۹۰۲ عندما افتتحت قناة الفولجا - الدون، كانت فرحة الناس قد بلغت الذروة، وكان كل فرد يكرر مزهوا: «إن موسكو الآن ميناء الأنهار الخمسة».
وتحقق الحلم العظيم، ولم يأسف فرد للعمل العظيم المضي الذي مكن من إيصال البحر الأبيض في الشمال ببحر البلطيق، وبحر قزوين، والبحر الأسود، وبحر آزوف، وفي روسيا الآن أكثر من ثلاثين ألف كيلومتر من طرق الملاحة الداخلية: وأشارت الصحف في زهو وإعجاب إلى كل ما حقق – غير هذا - من مشروع الفولجا العظيم، لقد كان النهر في الكثير من نقاطه ضحلا حتى كان من الممكن خوضه، ولكن الخزانات قد زادت من ارتفاع المياه في تلك المناطق، ومن ثم تستطيع السفن السير حينما أرادت، وعلى الفولجا اثنتا عشرة محطة للقوى الكهربية، وأربع وثلاثون محطة على فروع النهر، وعند منحني سامارا توجد أكبر محطة للقوى الكهربية في العالم كله.
ويقول الروس: «سنحصل فوراً على كهرباء رخيصة نستخدمها في كل شيء، فالكهرباء سترفع المياه من الفولجا لنروي حقولنا، وسنتغلب على الحفاف الذي كثيراً ما أتلف محصولاتنا الزراعية.
ويشعر الروس عندما يمرون في قنواتهم الحديثة بالفخر الذي يشعر به الأمريكي وهو يمر بقناة بنما، والعربي عندما يمر بقناة السويس. من الفخر تحسين ما جاءت به الطبيعة، والإنسان الصغير الواهن يبدو عملاقا عندما يستطيع تغير الطابع الجغرافي لبلده.
الميسيسيبي أبوالمياه :
يبدو نهر المسيسيبي على الخريطة كشجرة هائلة، إذ تصل أطرافه العليا إلى كندا وتمتد جذوره في خليج المكسيك، وتمتد أطراف فروعه الجانبية من جبال الأبالشيان(۱) حتى جبال روكي")، ويقول الأمريكان عن المسيسيبي: شبكة أنهار المسيسيبي،، وهو أعظم ما يفخرون بتملكه من الأرض، وتقوم هذه الشبكة من الأنهار بتصريف مياهها في خمس مساحة الولايات المتحدة، وتغطي كل أو أجزاء إحدى وثلاثين ولاية، ثم تمد الولايات المتحدة بأكثر من خمسة عشر ألف ميل (نحو ۲۰ , ۰۰۰ كيلومتر( من خطوط النقل المائي، فهي تسير بهم إلى البحر الفسيح، ويقطع النهر وادياً ليس هناك واد بفضله، ولا تصل شبكة مياه نهرية إلى حد الكمال، ولكن وادي المسيسيبي يبدو وكأنه أفضل واد في العالم ليعيش فيه الإنسان المتحضر.
ولوقت طويل كان النهر هو الذي يحدد الولايات المتحدة من الغرب، ولكن في سنة ۱۸۰۳ عندما اشترت الولايات المتحدة من فرنسا الأرض الواسعة بين المسيسيبي وجبال روكي، صار النهر كله ملكاً للولايات المتحدة، ولكن في ذلك الوقت لم يكن أحد يعرف ـ ولا حتى اتشيبوا، (1) أين تقع منابع النهر الذي أطلق عليه السكان الأصليون الاسم امي - زي - سي - بي.
أي وأبو المياه، وحاول المستكشفون الواحد إثر الآخر أن يجدوا أين يبدأ النهر، وأخيراً في سنة 1832 وصل هنرى سكولكرافت إلى قرابة منبعه في أقصى أطراف ولاية مينيسوتا، كان بحيرة أطلق عليها الاسم «أتاسكا. ولكن الواقع أن المسيسيبي ينبع لشمالها بخمسة أميال في بحيرة صغيرة اسمها التل ألك، |
ويبدأ النهر في شكل مضحك، مجرد خور صغير بعمق أربع بوصات (10 سنتيمترات(، مجرى ضيق يستطيع أي فرد اجتيازه بوثبة واحدة، ويسير النهر في بدايته للشمال، ثم يتجه إلى الشرق عبر البحيرات والمساقط وكأنه يتجه نحو بحيرة سوبيريور (أكبر البحيرات العظمى بين ميتشيجان وأونتاريو بكندا( وتبلغ مساحتها ۳۱۸۱۰ أميال مربعة، ثم يدور في قوس واسعة كبيرة ليمر في مساقط سانت أنتوني عبر منيبوليس وسانت بول ( راجع الخريطة(: وكانت الأرض حتى هذا القدر من مجرى النهر موحشة غالباً، ولكن لا تلبث أن تتغير الصورة العامة، وتبدأ منطقة البراري الحصيبة التي لا نهاية لها والتي تصل إلى مساحة فرنسا، وعلى طول النهر مرتفعات وعرة تعلوها مدن تنشط فيها الحركة، وتبرز وسط النهر الواسع الجزيرة إثر الأخرى، وبين سانت بول ومصب الميسورى يوجد ما يزيد على خمسمائة جزيرة، وقد كثر عدد هذه الجزر حتى لم يجد الناس أسماء يطلقونها عليها فأطلقوا على بعضها أرقاماً للتعريف بها.
وتصب في المسيسيبي فروع قوية لاثنين منها مكانة بارزة: أحدهما نهر وحشي أصفر يقال له «الميسوري، وهو أطول من المسيسيبي الذي يلتق به فوق سانت لويس، وتستطيع - لو أردت - أن تعتبر الميسوري والمسيسيبي الأسفل نهراً واحداً كما يفعل بعض الناس، ولو رضيت بهذا كان المسيسيبي ثاني أنهار العالم طولا بعد نهر النيل، والفرع الثاني هو: أوهيو، النهر الجميل، | ويجيء من نهر أوهيو ثلث المياه التي يلتقي بها المسيسيبي في خليج المكسيك.
والمسيسيبي كبير السعة عند اتصال نهر أوهيو به، فتصل سعته إلى الميل في المد العالى، ويظل كذلك طوال النصف الباقي من مجراه إلى البحر، ثم يحدث شيء غريب، فبدلا من أن يتسع مجرى النهر كما يحدث في كل الأنهار وللنهر كذلك مظاهره الغريبة الأخرى، فمن مدينة كايرو بولاية إلينوى عند مصب الأوهيو يدور النهر في عدة أقواس والتواءات التواء إثر الآخر، وكان صمويل كليمنس Samuel Clemens الذي نعرفه باسم مارك توين» والذي كتب كتابيه Tom Sawyer , Hackleberry Finn كان قائد سفينة بخارية في المسيسيبي أيام شبابه، وكان يعرف كل منحني في النهر وكل حاجز رملى، وكل عائق على النهر، وكل أرض للرسو، ويصف الصورة العامة للنهر في قوله:
لو وضعت على كتفيك قشرة طويلة لينة من قشور شجر التفاح، فإنها تتشكل في الصورة التي يتشكل فيها مجرى النهر المسافة من تسعمائة إلى ألف ميل بين كايرو بولاية إلينوى وما إلى جنوبها حتى نيو أورليانز، مجري يتلوى التواءات عجيبة مع مسافات قصيرة مستقيمة هنا وهناك على فواصل طويلة».
ويقول توين عن هذه الالتواءات التي تشبه (حدوة، الفرس: «إنك لو تركت السفينة في أحد طرف هذا الانحناء وسرت عبر الأرض التي في الطرف الآخر على مسافة لا تزيد على نصف أو ثلاثة أرباع الميل، لاستطعت أن تجلس على الساحل للراحة لساعتين حتى تدور السفينة في هذا الانحناء الكبير بسرعة عشرة أميال في الساعة، وبعد هذا نصل السفينة لتنقلك إلى ظهرها ثانية» ويحاول المسيسيبي دائماً أن يجعل مسيره مستقيما، ففي أكثر من مرة بشق النهر طريقاً عند عنق «حلوة، الفرس ليدخر خمسة وعشرين أو ثلاثين ميم في وثبة واحدة، فإذا حدث هذا كانت مشكلة مجهدة لمدينة على النهر، ذلك لأنها تنقطع عنه، وكثير من المدن التي كانت على النهر تبعد عنه اليوم بميلين للداخل تسد طريقها إليه الجسور الرملية والغابات.
على أن النهر- بالإضافة إلى اقتطاعه لأجزاء من مجراه وتحويلها إلى بحيرات في شكل الأهلة (هلالية الشكل (- فإن النهر قد اعتاد شيئاً آخر، اعتاد التحرك إلى جانب، فالجزر تتحول إلى أشباه جزر، وأشباه الجزر تنقلب إلى جزر، وقطعة من الأرض قد تكون في ولاية لويزيانا، فإذا جاء الغد فقد تكون في ولاية المسيسيبي.
وبذلك نكون قد وصلنا إلى أرض القطن، وقد اقتربنا من خاتمة المطاف للنهر.
ويحمل المسيسيبي كميات كبيرة جدا من الغرين، ولهذا فليس مما يثير الدهشة أن النهر قد أقام أكبر دلتا في العالم ولا يزال النهر يدفع هذه الدلتا للأمام يوماً بعد يوم في خليج المكسيك، فإنها تمتد لمائتين وخمسين قدماً إلى الأمام في كل عام، والسهل الطيني الكثير الخصوبة أشبه بقدم أوزة كبيرة الحجم، ووسط هذه القدم الكبيرة بصب النهر. وينقسم المسيسيبي إلى ستة فروع أساسية رئيسية، أو ممرات على ما يقال لها، فكل من هذه الممرات يمتد إلى مدى بعيد في الماء، وكل منها قد كون دلتاه أمامه. هذا هو النهر من منبعه إلى مصبه، وهذا هو جذع الشجرة الضخمة المهولة....