خارطة نهر الفلوجا الروسي:
لو نظرت إلى خريطة أوربا وقارنت بين سواحل روسيا، وسواحل بريطانيا أو فرنسا أو إسبانيا أو إيطاليا أو اليونان لوجدت روسيا أقلها سواحل، وحتى مع هذا فإن الساحل ليس بذي نفع كبير لروسيا، ففي الشمال المحيط المتجمد الشمالي والبحر الأبيض، ويتجمدان كلاهما لتسعة شهور من العام، ويتجمد كذلك خليج فنلندة لنصف هذا الوقت، بل حتى بحر قزوين يتجمد طرفه الشمالي، ولا يزيد بحر أزوف عن أن يكون مستنقعاً.
فماذا كانت ستصبح روسيا لولا أنهارها؟ إن أنهار روسيا هي التي حالت دون بقائها قطراً مغلقاً، إن أنهارها هي التي أخرجها إلى العالم، وكان نهر الفولجا أكثر من غيره من أنهارها هو الذي فعل هذا، وإن لم يكن أطول أنهارها ولا أكثرها سعة، ولكن لا تعطل مجراه المناطق التي تجرى فيها المياه بسرعة هبوط قاع النهر هبوطاً فجائيا على مثال نهر الدنيبر، بل يجرى النهر دون متاعب وسط البلاد ثم يدور للجنوب ليصب في بحر قزوين..
أهمية نهر الفولجا لروسيا:
إن نهر الفولجا هو الذي أوصل روسيا للشرق حيث يمكن أن تصلها منتجات آسية بالسفن والقوافل، ومن يدري؟ فلربما لو لم يكن نهر الفولجا لكانت روسيا مغلقة في قارة أوربا.
إن نهر الفولجا هو الذي وجه أنظار الروس إلى آسية، إن نهر كاما - أحد فروع الفولجا - هو الذي قاد الرواد الأولين إلى سيبيريا حيث كسبوا إمبراطورية بطول ستة آلاف وأربعمائة كيلومتر وعرض ثلاثة آلاف ومائتي كيلومتر: وللنيل وللأمازون وليانجتسي منابعها التي تأخذ بالألباب، ولكن نهر الفولجا بخيب كل من يبحث عن مصادره، فهو لا يثب إلى مسقط مائي ولا يتعثر في انحداره على جبل ولا يطغي في غور، فإن روسيا سهل عظيم فسيح قليل الانحدار، والأرض بين موسكو وخليج فنلندة أعلى قليلا منها في أي مكان آخر من روسيا، وهذه الأرض هي هضبة , فالداي، التي يبدأ منها نهر الفولجا.
توصيف نهر الفولجا:
ويبدأ التهر كنبع صغير قليل الأهمية قرب قرية يقال لها: «منبع الفولجا،، ويتحول النبع إلى مجرى مائي ضيق يجري وسط مستنقعات وبحيرات، وحفر جافة لبحيرات قد اختفت، ثم يتسع المجرى تدريجيا وتتصل بالنهر الروافد من كلا جانبيه، ومع مسير النهر تزداد الروافد التي تتصل به سعة وطولا، وعند بلدة جوركي يتصل نهر الفولجا برافده «أوكا»، ويكون عرض كل من النهرين كبيراً حتى إنه يخطر للرائي وكأن ذراعي البحر تتقاربان، وكنهر المسيسيبي يكون عرض نهر الفولجا في تلك النقطة ميلا واحداً، ولكن بعد هذا للجنوب عندما يصب في هرانده كاما Kama الذي يهبط من جبال الأورال يكون عرض النهر أكبر من الميل..
ولا شك أن عرض النهر يستثيرك، ولكن المنظر ممل يبعث على السأم، ذلك لأن المنطقة مسطحة مستوية، ولكن في مكان واحد فقط... عند منحني سامارا Samara يكون النهر أخاذاً، فإن الفولجا يدور في قوس أشبه ما يكون «بدبوس الشعر، ويقطع أخدوداً ضيقاً عميقاً في الصخور الخيرية:
على أن النهر فما وراء هذا ليس بهر تكثر فيها المدهشات، بل هو نهر معاون على الحياة اليومية لعامة الناس في حوضه وإلى خارج هذا الحوض، فهو طريق يستخدمه الناس في تنقلاتهم وفي نقل متاجرهم مما ينتجونه من حاصلات وما يحتاجون إليه من خامات ومصنوعات، هو حلقة الاتصال بين الغابات في الشمال، وبين مراكز الصناعات في الوسط، وفي منطقة الأورال، ثم بين حقول الغلال في الجنوب الشرقي.
وعلى مسافة قليلة الجنوب منحني سامارا يقترب نهر اللون إلى مسافة 45 ميلا (۷۲ كيلومتراً) من نهر الفولجا حتى ليبدو لك أن الدون قد قطع كل هذه المسافة ليكون فرعاً لنهر الفولجا، ثم غير رأيه واتجه للغرب ليصب في بحر آزوف، وفي الوقت نفسه ينصرف الفولجا لاتجاه آخر وينقسم إلى نهرين، ثم يسير إلى بحر قزوين حيث ينقسم إلى مصبات كثيرة يصعب إحصاؤها.
وتكون هذه الدلتا الكبيرة من قنوات وجزر تتباين وتختلف في الحجم والشكل.
وتنمو الدلتا وتزداد مساحتها، فالغرين يجعل البحر ضحلا، وعند هذا الطرف الجنوبي للنهر لا تستطيع البواخر القادمة من جنوب بحر قزوين أن تقترب من الساحل، بل إنها تفرغ حمولتها على مسافة أربعين ميلا من مصب النهر.
ومسألة الطمي الذي يسبب ارتفاع قاع بحر قزوين مشكلة، ولكنها ليست سيئة كغيرها من المشكلات، فإن الرياح الجافة الساخنة التي تهب من صحاري التركستان تغير هي الأخرى على بحر قزوين، ويقول العلماء: إن بحر قزوين هو أكبر بحيرة مغلقة في العالم يجف وينكمش في سرعة مخيفة.
وفي السنوات العشر الأخيرة قل منسوب الماء عشر أقدام (ثلاثة أمتار)، ومستوى سطح الماء في بحر قزوين يقل اليوم عن مستواه في البحر الأسود خمسة وثمانين قدماً (۲۹ متراً تقريباً (وقد كان بحر قزوين يوماً ما جزءاً من البحر الأسود.
ومن حسن الحظ أن الأسماك التي تعيش في بحر قزوين لم تشعر بعد بالتراحم والحاجة إلى المكان الفسيح، ومن ثم فإن مصايد الأسماك في بحر قزوين تعتبر من أفضل مصايد العالم، وفي البحر خمسة وسبعون نوعاً مختلفاً من الأسماك يعتبر الحفش، Sturgeon سيدها على الإطلاق ومن بيض هذه الأسماك يصنع الروس الكافيار الأسود الذي اشتهروا به: والفولجا أطول أنهار أوربا، ويمد ذراعيه لمدى كبير، وطول كل منفرعية الكبيرين أكثر من ألف ميل (ما يزيد قليلا على ۱۹۰۰ كيلومتر).
ومع أن الروس يعيشون في وطن مغلق انتفعوا أيما انتفاع بهره القوي، فحفروا القنوات، وربطوا بين الأنهار والبحيرات، وأوصلوها كلها بالفولا وجعلوا هذا كله شبكة ضخمة من المواصلات بين المحيط المتجمد الشمالي وبحر البلطيق، ووصلوا بها جنوباً إلى بحر قروين.
ومنذ سنوات طوال بني بطرس الأكبر مدينة بطرسبرج - التي يقال لها اليوم ليننجراد - على بحر البلطيق، فلقد أراد أن يكون لبلاده ميناء على البحار الغربية، ومن ثم يلحق بأوربا المتقدمة.
ولقد سار الروس في خطى بطرس الأكبر واتبعوا الخطوط التي رسمها، ولكنهم لم يغفلوا آسية، فإن نهرهم العظيم يربطها بأوربا. وكما أن ليننجراد قد أمست ميناء على الفولجا كما هي ميناء على البلطيق.... تقف روسيا قبالة اتجاهين: أحدهما إلى الغرب، والثاني إلى الشرق.
نهر الفلولجا تاريخياً:
يقول الروس عن نهره العظيم: "الأم الفولجا". ولكن لا يعني هذا أن النهر كان نهر منذ القدم، والفولجا لم يكن نهراً روسيا إلا منذ أربعمائة سنة، وكم سكب الروس من الدمع.. وكم فقدوا من الدماء حتى استطاعت قواربهم أن تذرع النهر طليقة دون خوف.
ولو رجعنا بالتاريخ إلى ما قبل ألف عام وراقبنا القبائل السلافية شبه المتوحشة وهي تعيش في المشارف العلوية لنهر الدنيبر ومجاري المياه التي تصب فيه، لوجدنا أرضهم أرضا باردة مثقلة بالغابات، ثم هي صلبة لا يمكن حرثها.
وكان الناس يصطادون السمك ليحصلوا على قوتهم، ويتشبثون بالأنهار، فهي الطرق الوحيدة | إذا ماتحطم الثلج وذاب، عندئذ يجازفون بالخروج بقواربهم التي صنعوها بتجويف جذوع الأشجار، ويتاجرون بالفراء، فراء كلب الماء Mink والدنق من اللواحم Marten والسنجاب Squirrel والثعالب، وكانوا يتجرون بالملح أيضا
وكانوا في البداية يستبدلون تجارتهم هذه مع مستوطناتهم في الجنوب، فيحصلون منها على القمح والشعير والشوفان والشمع مقابل ما لديهم من فراء ملح، ثم بدأ التجار يقومون بأعمال الكشف، ووجدوا للشمال شبكة من الأنهار الصغيرة، وبجر قواربهم المسافة عبر المستنقعات يستطيعون الانتقال من مجرى ماء إلى مجرى ماء آخر، ووصلوا إلى خليج فنلندة، ثم جازفوا بالاتجاه جنوباً في الدنيبر وفي الفولجا، وفي اتجاههم للجنوب وجدوا أنفسهم في أرض من نوع آخر، وجدوا مروجا سوداء غنية فما وراء الغابات، ثم وصلوا إلى الهضبة فوجدوا سهلاً منبسطا فسيحا لا أشجار فيه، وهنا وجدوا الحشائش تمتد للجنوب لمئات الأميال، كما تمتد للشرق إلى مسافات لا نهاية لها، وكانت بعض هذه الحشائش بارتفاع خمس إلى ست وثمان أقدام (بين المترين والثلاثة الأمتار تقريباً).
ورعى الرحالة جيادهم وماشيتهم وأغنامهم في هذه الحشائش، والرحالة يعيشون في خيام مستديرة ينتزعونها من الأرض شتاء، ويضعونها على عربات تجرها الثيران، ثم يتجهون جنوبا إلى مدنهم التي يقضون فيها الشتاء، فإذا جاء الصيف عادوا إلى أماكن إقامتهم الأولى، وكان هؤلاء الناس هم، الخزر، Khazars، إنهم سادة الهضبة، وبني الخزر مدينة عند مصب نهر الفولجا، واعتادوا الترحيب بالتجار الذين يزورون مدنهم.
ويقول الجزر للتجار: تستطيعون استخدام نهرنا، وسنقوم بحمايتكم، ولكن يجب أن تدفعوا لنا جزية، سنأخذ فراء.. وكل رب أسرة منكم يعطينا قدراً كبيراً...
ووافق الروس، لتذهب سفنهم عبر الفولجا إلى عاصمة الجزر، وتسير في الدنيبر إلى البحر الأسود...
وإنه مما يؤلم بلا شك أن يضطر الناس لدفع الجزية، ولكن الروس لم يكونوا مدركين كم هم سعداء بتعاملهم مع الخزر، ذلك لأن السهول التي يسيطرون عليها قد شهدت شعوبا أكثر وحشية، وسترى مزيداً منهم. وعلى مر القرون اندفعت من آسية إلى مناطق الحشائش الغنية قبائل أخرى جوالة رحل من راكي الخيل، وقتل هؤلاء الغزاة الناس وسلبوهم ما يملكون، واختطفوا النساء والأطفال، وأغاروا على المدن، وقبعوا ينتظرون قوافل سفن التجار التي تمخر عباب النهر، وأفقدوا طرق التجارة للجنوب ما كان لها من أمن، حتى إن الروس هجروها تماما وجاءت أوقات عصبية، فالمدن تعتمد على التجارة الخارجية، ولكن من هو الذي يستطيع المخاطرة بركوب النهر بعد هذا؟
وكان الزمن يخبئ من هم أسوأ، ففي آسية برزت قبائل جديدة وتخير المغول لأنفسهم زعيما كا وا يطلقون عليه اسم وجنكيز خان، وكان الاسم يعني «القائد القوي» أو «الزعيم الجبار، ونظر جنكيزخان شعبه في جيش من راكبي الخيل لم يرقب العالم له مثيلا من قبل، وخرج جنكيزخان لغزو العالم.
واكتسح جزء من جحافله الأرض في دورة حول بحر قزوين، وهبط على الهضبة حيث يعيش راكيو الحيل المتوحشون الذين كانوا يثيرون المتاعب وأطلق هؤلاء العنان لخيوط بعد معركة واحدة وعبروا الفولجا بنسائهم وأطفال هو خيامهم وعرباتهم، ولم يتوقفوا حتى وصلوا الدنيبر.
وقال هؤلاء الروس: عاونونا فإن أعداء غرباء قد اغتصبوا أرضنا وغداً سيغتصبون أرضكم.
وحشد الأمراء الروس جيشا وزحفوا للقاء الستار على ما أطلقوا على الغزاة الجدد، ولكنهم هزموهم هزيمة منكرة، وخلفوا في أرض المعركة عشرة آلاف قتيل من الروس الشجعان.
وعم الذعر المدن، وانتظر الناس ضربات التار، ولكن شيئا لم يحدث، وكما ظهر التتار فجأة اختفوا فجأة.. وقال الروس: إن الله وحده هو الذي يعرف من هم الغزاة، ومن أين جاءوا؟
ومرت ثلاث عشرة سنة، ثم عاد التتار ثانية، كان جنكيز خان قد مات، ولكن حفيدة وباتو، قاد جيشا لغزو الغرب، ووصل باتو إلى الفولجا المتجمدة وتعمق في غابات روسيا الفسيحة، وكان يبعث برسله يسبقون جيشه.
ويقول التتار: «لو أردتم السلم فأعطونا عشر متاجركم. ويجيب الأمراء الروس: لن نعطيكم شيئا، عندما نقتل تستطيعون أخذ كل شيء).
وسقطت المدن الواحدة إثر الأخرى، فمن ذا يستطيع الصمود قبالة باتوخان؟!
كانت الحرائق تشب حينما ذهب، وكانت عشرات الآلاف من الجثث تظل في ميدان القتال لا توارى التراب، وأسر التتار مئات الألوف من الروس، أما الذين يفرون فيتجهون إلى المدن التي لا تزال بمنجاة من الغزو. وعندما انتهت الغزوات أقام باتوخان مركز رياسته على الفولجا الأسفل، وأطلق على مدينته المشيدة من الخيام وأحجار الطين اسم «السراي.
ونظم وباتوخان، الأمور مع الروس في بساطة، فهم يجب أن يدفعوا له الجزية على أساس العشر، عشر المحصول، وعشر الماشية والخيول.
وقد يمكن القول إجمالا: إن عشر كل ما ينتجون يجب أن يذهب إلى «السراي».
ثم إن الروس - بكلمة منه - يجب أن يمدوا جيشه بكل ما يطلبه من الجنود لقتال من يود قتاله، والأمراء أن يحكموا أرضهم المحربة بإذن منه، ولكي يحصلوا على هذا الإذن يجب أن يذهبوا إلى السراي فيركعوا أمام خيمته حتى تلامس جباههم الأرض.
ويقول الروس عندما يفدجباة الضرائب لجمع الجزية: ولقد حقت كلمة الله علينا ولكنها كانت قاسية، فإذ عجز رب الأسرة عن أداء ما يجب عليه أداؤه أخذ أطفاله رفيقا. أحياناً يشقون عصا الطاعة ولكن كان العقاب مخيفاً دائماً، ولم يعرف الناس السلم والهدوء إلا عندما أطاعوا راكبي الخيل المتوحشين الذين لا يزورونهم إلا غبا. ولمائتين وخمسين سنة ظلت هذه الحال قائمة، وكان على الناس أن يحتملوها، ولكنهم أخيراً اشتدت سواعدهم وأجمعوا أمرهم ليتخلصوا من هذه العبودية، ولكنهم احتاجوا إلى خمس وسبعين سنة ليطردوا التتار عن الفولجا.
وفي سنة 1552 سار القيصر إيفان الهائل المرعب بجيش عظيم إلى حصن التتار في «كازان، التي تقوم على الفولجا الأوسط واحتلها، وعندئذ بدأ سفك دم التتار كما سفك دم الروس من قبل، واستعبدت نسوة وأطفال التتار، كما استعبدت نسوة وأطفال الروس قبل سنين. وكان الانتقام مخيفا رهيبا حتى إن القيصر لانت مشاعره بالشفقة وبكي وهو يرقب الخرائب المغطاة بالدماء. ولكن الفرح عم روسيا، فقد تجول المهزومون إلى غزاة، وتحرر الفولجا، كان الروس قد بقوا لقرون طويلة في الغابات الشمالية ولاخيرة لهم في البقاء، ولكن عاجلاً ستكون كل الأرض لهم.
وانحدر مع النهر سيل من الفلاحين، بعضهم يقطعون النهر في عائمات، وبعضهم ساروا عبر الهضبة في قوافل من العربات، إنهم يندفعون ليتملكوا الأرض السوداء الغنية، التربة الخصبة لعمق خمس أقدام. وسينتجون أحسن المحصولات دون مخصبات، واندفع فيضان الناس جنوبا إلى نهاية الهضبة الخضراء. إنها أقصى ما يمكن أن يقصده الفلاحون، ذلك لأنه عند مصب نهر الفولجا كان للتتار حصن قوي في واستراخان. ومن المنبع إلى المصب بمجرى الفولجا في أرض روسية، وأخيراً كان الفولجا في كل مجراه نهراً روسيا.