تستطيع لو أردت أن تقول بأن النيل يبدأ عند مساقط ريبون، ولكن الجغرافيين يسيرون إلى أبعد من هذا للجنوب، فهم يقولون بأن نهر كاجيرا الذي يصب في بحيرة فيكتوريا من الغرب جزء من النيل، فإذا اعترضت بفكرة أن كاجيرا يصب في البحيرة على مسافة مائي ميل من المساقط، أجابوك بقوله: لا يغير هذا من الأمر شيئاً، فنحن على هذا القياس نفسه ننظر إلى الأنهار الأخرى التي تجري وسط بحيرات، وفي هذه الحال تكون المسافة أطول ولا شيء غير هذا.
وسواء أخذت بهذه النظرية أو بتلك، فإن النيل ما زال أكثر أنهار العالم إثارة للدهشة، ولدى النهر الكثير مما يقدمه حتى إنه يستحيل علينا أن نعرض هذا كله، ولكن الجزء الخام الطريف يبدو متآلفاً منعزلا عن غيره.
وارقب النهر يشب وثبته الكبرى في مساقط "مورشيسون" قبل وصوله بحيرة ألبرت، إذ يجيء النيل في ثورة عاتية عبر ممر صخري ثم يسقط فجأة في مجرى ضيق لا تزيد سعته على تسع عشرة قدما (أقل من ستة أمتار بقليل)، وبهبط النهر في وثبته هذه عبر ثلاثة سدود مسافة أربعمائة قدم (۱۲۲ متراً).
وفي المساقط العظيمة ما يجعل قلوبنا تدق بسرعة، ولكننا نستروح ونستعيد روعنا عند مساقط مورشيسون.
وإلى ما وراء المساقط نجد جديدة له روعته، نلقى آلاف التماسيح ترقد تحت أشعة الشمس على شاطئ النهر، ونرى أفراس البحر تلهو في الماء، كما تجيء إلى النهر النمور والفهود والفيلة بالعشرات التروي ظمأها، وتجيء الظباء في قطعان كبيرة وصغيرة، كما نجيء القردة والخنازير البرية، كل هذه نجيء إلى النيل لتروي ظمأها، فإن المنطقة حق لها لا ينازعها فيه أحد.
وبحيرة ألبرت بحيرة ملحة، ولكن النهر يقطع فيها مدى قصيراً، فيخرج النهر من البحيرة عذباً كما دخلها فلا يحمل معه شيئاً من ملحها، ولا تزيد رحلة النيل في بحيرة ألبرت أكثر من خمسة أميال (ثماني كيلومترات) يتركها بعدها ليتابع رحلته، ويسير النهر لمسافة في يسر، ولكن سرعان ما تطبق عليه الجبال، ومرة ثانية برغي النهر ويزبد وتفور مياهه وينحدر في ثورة عاتية فرق المساقط، ثم يجيء تغيير آخر ويدخل النهر السهل ويسير مسافة أخرى ثم يبدأ أغرب جزء من النهر.
لقد وصلنا منطقة السدود، منطقة المستنقعات المخيفة التي تخبط فيها الجنود الرومان، ونتلفت من حولنا لا نصدق أعيننا: لقد ذاب النهر، اختفى، فإلى مدى البصر في كل اتجاه لا نجد أمامنا غير مستنقع تغطيه أعشاب كثيفة سميكة، لقد فقد النيل مجراه وتحول إلى عدد لا حصر له من القنوات، والنهر الذي كان يسير قبل هذا بين جدارين من الصخر يرتفعان إلى ۱۸۰ قدما ( ما يقرب من ستين متراً لم يعد له شاطئان، لقد انداح مجرى النهر إلى ۱۰ ميلا (نحو خمسة وعشرين كيلو متراً).
وهنا وهناك تجول جزر من الأعشاب والمزروعات فوق سطح الماء تحركها الأموية والرياح، وتتسع البحيرات الضحلة وتضيق. صحيح أن النهر يصلح للملاحة، ولكن الملاح الماهر ذا العين البصيرة الدربة هو الذي يعرف أين يجده، ولعله لا يوجد من يحسن هذا..
وهنا نجد خمسة وعشرين ألف ميل مربع، أكثر من ستين ألف كيلومتر مربع، تغطيها المياه جل أيام العام، ويبدو وكأنه أبعد من قدرة أي إنسان أن يغير من طبيعة الأشياء، لقد بذلت محاولات، وجاء المهندسون في بواخر ودقوا الأوتاد في هذه الجزر الطافية فوق سطح الماء، وربطوا حبالهم في هذه الأوتاد، ثم أدار وا محركات سفنهم وسحبوا هذه الكتل من الأعشاب، لقد طهر الإنجليز مرة مسافة خمسة أميال (ثمانية كيلو مترات)، لقد استخدموا خمس سفن وثمانمائة رجل لثلاثة أشهر.
ومع هذا لم يطهروا غير خمسة أميال، ونستطيع أن نفكر في هذا بإمعان، لقد قهر المصريون القدامى مستنقعا من الأشجار المشتبكة مثل هذا، ذلك لأن العلماء يقولون لنا: إن منطقة السدود في أعالي النيل هي صورة تماثل ما كان عليه النيل السفلي عندما نزله صيادو شمال إفريقية منذ زمن بعيد، وهم عن ثقة لم يطهروا خمسة أميال في ثلاثة أشهر، ولم تكن لديهم بواخر ولا حتى فؤوس من المعدن، ولكن بأيديهم، و بالات بدائية، أزاحوا الأعشاب التي تطفو فوق سطح الماء بعيداً عن مجرى النهر.
والآن، فلنتقدم لنرقب ماذا وراء السد...
أمامنا جنة من الطيور، إنها الفردوس الثاني على الطريق، فقد سبقتها واحدة في جزيرة أجمية في أعلى مساقط ريبون، وستجيء ثالثة في أرض دلتا النهر، ولكن إلى هذه الأرض الوسطى على مجرى النهر يجيء الكثير من طيور أوربا مهاجرة لتقضي الشتاء، ملايين من الطيور تفد إلى هناك، تطير محلقة في الفضاء تشدو وتتصايح ولكنها لا تتناسل ولا تبني أعشاشا، برغم أنها ترى الطيور الإفريقية تتناسل وتقيم المأوى لكل زوجين منها، لقد جاءت الطيور للغذاء والراحة، وهي تعيش لنفسها، وهذا هو أيضاً شأن الطيور الإفريقية، تعيش لنفسها في هدوء، فهي لا تطير ولا تلعب ولا تقاتل الطيور الزائرة المهاجرة، ولكنها تعيش في سلام.
ويكون النيل قد قارب الوصول إلى المنطقة الصحراوية الآن، وفي وسط هذه الصحراء بشق النهر أنشوطة واسعة في شكل حرفS، ذلك لأن النهر يلتقي في طريقه أحجاراً من الجرانيت تسد طريقه، وعند الشلال الأول، والذي هو الخامس في الواقع منذ بدأنا رحلتنا على النهر من منبعه - عند الشلال الأول يستقيم مجرى النهر، ولكن هنا يجيء شيء آخر يوقف مسير النهر، ذلك هو خزان أسوان العظيم..
ولكن لماذا يقيم الناس هذا الجدار عبر النهر عندما تكون الحاجة ماسة إلى الماء في مصر؟
انهم صنعوا هذا التحسين الزراعة، فالخزان يمكن من تنسيق انسياب الماء طوال العام، فالجدار الحجري يحتجز المياه خلفه لمسافة مائي ميل، يكون بحيرة يمكن أن تسحب المياه منها تباعاً للري، وكلما احتاج الفلاحون إلى مزيد من المياه فتحت بوابات الخزان الأعلى وخرجت منها المياه، وبهذا الانصباب المنظر المنسق لا يمكن ري المزيد من الأرض فحسب، بل يمكن إنبات ثلاثة أو أربع محصولات في نفس رقعة الأرض. وفي الشتاء بحصد الفلاحون محصولا لحبوب، وفي الصيف يجمعون القطن والأرز.
وفي كل مكان على طول شاطئ النهر نرى الناس يسحبون المياه التي تمنع أرضهم الحياة، ونستطيع أن نسمع صوت إخراج المياه من النهر، ذلك لأن السواقي (النواعير) التي يستخدمها الفلاحون لرفع مياه النيل إلى الشاطئ المرتفع لعشر أقدام أو لاثنتي عشرة قدما تحدث صريراً وعويلاً أشبه بالنحيب، وكأنها تنشج بالبكاء، في كل عجلة رأسية من عجلات الساقية مجموعة من عشرين أو أكثر من الآنية الفخارية (القواديس) ترتبط بها، فإذا دارت العجلة انغمرت هذه الآنية في النيل وامتلأت بالماء، فإذا ما ارتفعت إلى أعلى مكان تصل إليه العجلة انسكب الماء في قناة صغيرة تؤدي إلى حفرة ومنها تنساب إلى الحقل.
وعلى الشاطئ نجد رجلا يقود زوجا من الثيران، بدوران في مسيرهما حتى تدور العجلة الرأسية بهذه الأواني الفخارية هابطة إلى النهر وصاعدة مليئة بالمياه إلى الحقل، ولعشر ساعات في اليوم، ولثمانية شهور من العام، يستمر هذا العمل المضنى المجهد، وفي مصر الآلاف من هذه العجلات أو السوائ.
وعند أسوان نجد أنفسنا في أرض المصريين القدامى، وهنا نجد على جاني النيل عدداً لا حصر له من آثارهم الجبارة.
وعلى مسافة غير بعيدة من أسوان تقع طيبة - عاصمة مصر القديمة في عصر ما - وكان النيل المقدس يجرى وسط المدينة الملكية، فعلى أحد جانبي النهر عاش الملوك في قصورهم الفاخرة الرواء في زحمة الحياة النشيطة، وعلى الجانب الآخر للنهر كانت هياكل الآلهة، لقد تحولت القصور إلى تراب، ولكن الهياكل الحجرية بقيت «وحج الآلاف من الناس مجتازين المحيطات والقارات إلى هذه الهياكل المشاهدتان.
ولكن عدداً أكبر من الرحالة والمسافرين يجيئون إلى الأهرام ليقدموا لها أدلة احترامهم وتبجيلهم إياها، وتوجد هذه القبور الثلاثة الضخمة مع أبي الهول على النهر على مسافة كبيرة من أسوان.
ولقد أطلق الإغريق على أهرام الجيزة الثلاثة: «أول عجائب الدنيا السبعة»، ولا يزال الأهرام كذلك أول العجائب حقا، فليس على وجه البسيطة بناء يماثل أهرام الجيزة، كتلة من الصخر قطعت باستواء حتى إن الملاط الذي احتاج إليه البناءون لتماسك الأحجار معاً كان رقيقاً كصفحة من الورق.
ولا يماثلها بناء كذلك في الضخامة، فمحيط قاعدة الهرم الأكبر يزيد على نصف الميل (ثمانمائة متر)، ويغطي مساحة ثلاثة عشر هكتاراً ونصف هكتار، واقتطعت ستة ملايين طن من الأحجار لبنائه، ولو قطعت هذه الأحجار في كتل صغيرة كل منها قدم مربعة، ورصت جنباً إلى جنب في خط مستقيم لغطت ثلثي محيط الكرة الأرضية عند خط الاستواء.
وكل من شاهد الأهرام سأل نفسه: وكيف بني المصريون القدامى هذه الأهرام دون آلات؟ ونحن الذين عرفنا كفاح صيادي شمال إفريقية مع النيل لسنا في حاجة لأن نسأل أنفسنا هذا السؤال، فإن كل ما احتاج إليه المصريون القدامى لبناء الأهرام هو الصبر والمهارة والتنظيم، ونعرف من أين جاء المصريون القدامى بهذا كله، فهم قد ارتضوا تحدى النهر، ومن ثم جعلهم هذا أقوى بنائين شهدهم العالم.