عصر الفضاء:
كان بزوغ فجر عصر الفضاء سبباً في ظهور فرع جديد من فروع العلم والمعرفة هو علم طب الفضاء. ولقد بادر سلاح الطيران الأمريكي بإنشاء مصلحة الطب الفضاء، أصبح على الأطباء المختصين فيها أن يحلوا مسائل عديدة قبل أن يزور الناس القمر أو أي كوكب من الكواكب
فأول واجباتنا أن نتأكد من بقاء البشر على قيد الحياة وهم يعبرون الفضاء الكوني، وكذلك وهم يقلعون من سطح الأرض أو يعودون إليه. ومنذ سنوات شرعت الولايات المتحدة الأمريكية في معالجة مسائل طب الفضاء بطريقتين مختلفتين، تضمنت الأولى منها إجراء التجارب على المتطوعين من الناس داخل المعامل الطبية، وتركزت الطريقة الأخرى في إرسال بعض الحيوانات داخل الصواريخ إلى أعالي الجو وأعماق الفضاء.
ففي عام 1953 أرسل علياء أمريكا فأرين وقردين داخل صاروخ من نوع الأيروبي أطلق من الرمال البيضاء، وكانت الغرفة التي ضمت هذه الحيوانات عبارة عن (كابسولة) صممت بطريقة خاصة.وعندما وصل الصاروخ إلى ارتفاع ۵۷٫6 كيلومتر انفصلت (الكابسولة) بطريقة آلية وتساقطت إلى الأرض تحت حماية مظلات الهبوط.
وتعرضت الحيوانات أثناء الصعود لقوة عادلت 14 ضعفاً لقوى الجاذبية الأرضية، ورغم أنها وقعت تحت هذه القوة الكبيرة لمدة ثانيتين ونصف ثانية فإنه لم تبد عليها آثار التوعك أو المرض. وعندما أخذ شريط سينما متحرك (فيلم) للفارين أثناء تحليق الصاروخ دل هذا الشريط على أنه انتابتها حالة من الحيرة واللبس خلال فترة التحليق التي انعدمت فيها قبضة جذب الأرض وتلاشت أوزانها.
أما القردان فقد جهزا معدات تسجل ضربات قلبيها، وضغط الدم، وكذلك التنفس، والذي حدث أنه بمجرد أن أخرج القردان من (الكابسولة) بادر أحدهما إلى أكل ثمرة «صباعه من الموز بلذة ملحوظة.
وأرسل العلماء الروس عدداً من الكلاب داخل الصواريخ، ووصل بعضها إلى وعلو 16 كيلومتر، ودلت تقاريرهم على أن الكلاب أتمت رحلاتها دون أن تظهر عليها علامات المرض.
وقد أرسل كلب منها داخل حلة العطاء، ثم قدف به من الصاروخ على علو ۸۹ , ۹ ميلا حيث عاد سليماً إلى سطح الأرض في حماية مظلات الهبوط. وفي سبوتنك الثاني بقي الكلب على قيد الحياة أثناء الصعود، إلا أنه مات داخل القمر الصناعي بعد أن أخذ يدور حول الأرض.
وهناك عدد من التجارب أجريت على المتطوعين من البشر في ظروف صناعية تشابه إلى حد كبير الظروف التي يتعرض لها المسافر داخل الصواريخ أو في سفن الفضاء. فركاب سفينة الفضاء يقعون تحت تأثير قوة كبيرة جدا عندما يقلع الصاروخ، ويحدث المثل مع الفارق العظيم في المدى أو المقدار داخل السيارة العادية عندما يندفع أو ينطلق السائق بها فجأة بسرعة ملحوظة بعد حالة السكون. وعادة يعبر عن هذه القوة بفرض أن قوة جذب الأرض (ح) هي الوحدة، فيقال مثلا ۲، ۳ ح. إلخ.
واتضح خلال الحرب العالمية الثانية أن الطيارين عندما يخرجون من حالة انقضاض سريع أو لف مفاجئ يمكنهم تحمل قوى تصل في مدارها إلى 4 حـ دون حدوث الضرر.
وعندما كانت القوة التي يتعرضون لها تصل حدود 6 حـ كان يغمى عليهم فلا يبصرون. وظن في بادئ الأمر أن الحالة داخل الصواريخ سوف تكون كذلك أيضاً، إلا أن التجارب دلت على أن الطيارين كان يغمى عليهم ولا يبصرون بسبب مكان جلوسهم، الذي ينجم عنه سحب الدم من المخ، ومن ثم حدوث الإغماء أو فقد الوعي وفي العادة تجري التجارب على المتطوعين بأن يحملوا على الدوران في طرف ساق متحركة ليقعوا تحت تأثير ما نطلق عليه اسم «القوة الطاردة المركزية».. ويمكن أن تزداد هذه القوة كلا أعطيت الساق سرعة دوران أكبر.
فعندما عادلت القوة 3ح شكا المتطوعون من إصابتهم بتعب وضيق شديد، وكذلك من عدة إحساسات سيئة، من بينها التقدير الخاطئ للزمن، إلا أنه من العجيب حقًا أن الشكوى قلت عندما زادت القوة إلى 4 ح. واتضح أن المتطوعين يمكنهم تحمل قوة جدودها ۱۰ ح، على أنه في حالة معينة تحمل متطوع في سلاح الطيران براندولف قوة قدرها 17 ح.
واتضح كذلك أن طول الفترة التي يمكن أن يتعرض لها المتطوع تقل على وجه العموم كلما زادت سرعة الدوران أو القوة الطاردة المركزية، فبينما يتحمل الفرد قوة قوامها ۷نح لمدة عشر دقائق نجده لا يتحمل قوة قدرها ۱۰ ح إلا لمدة دقيقتين فقط.
وهكذا تأكد علماء الطب من أن الركاب سوف يتحملون القوة التي تتولد عند انطلاق سفينة صاروخية. ولما كان الفرد في مقدوره تحمل هذه القوي بسهولة وهو نائم فقد أوصى العلماء بأن تكون المقاعد من النوع الذي ينفرج عن أسرة للنوم تريح الركاب لحظة الانطلاق.
فعندما يستلقي الراكب على ظهره يشعر كأنما جسده من الرصاص (معدن ثقيل)، وهو لا يستطيع رفع ذراعيه أو ساقيه أو رأسه إلا بعد مشقة عندما تصل القوة حدود ۳ ح، أما عندما تصل حدود ۸ ح فيجد أنه ليس من اليسير أن يتنفس، غير أن الركاب لن يتعرضوا لمثل هذه القوي إلا خلال الفترة التي تتزايد فيها سرعة الصاروخ - أي التي تخضع فيها السرعة العجلة تزايدية.
وعندما تقفل محركات الصاروخ يعاني الركاب بعض الظواهر المضادة تماماً - الإحساس بانعدام الوزن - فالمعروف علميا أنه بمجرد أن يسبح الصاروخ في مساره تحت تأثير السرعة التي جمعها بعد إطلاقه يعاني، أو هو يقع تحت تأثير ما يسمى «صفر الجاذبية»، وهي التي كانت تسمى أصلا باسم «التساقط الحر»، لأنها إنما تحاكي نفس الشعور الذي ينجم عن السقوط من مكان مرتفع.
ونحن نشعر بأوزان أجسامنا لأن الأرض تحملنا من تحتنا، وتقاوم أقدامنا قوة جذب الأرض لنا، ولكن في حالة التساقط الحمر أو الذي لا مقاومة فيه، كما يحدث مثلا عقب قفزة عالية يتساقط فيها المرء تحت تأثير عجلة تزيد بسببها قيمة السرعة من لحظة إلى أخرى (هذه العجلة هي عجلة الجاذبية الأرضية)، يشعر المرء كأنما فقد وزنه.
ويحدث نفس هذا الشعور داخل الصاروخ عندما يسبح في مداره، سواء أكان يقترب من الأرض أم يبتعد عنها، وعلة ذلك أن الصاروخ في كل من الحالتين إنما يستجيب لظاهرة الجاذبية استجابة كاملة. 4 ومهما يكن من شيء فإن حالة انعدام الوزن هي في الواقع حقيقة واقعة وليست مجرد إحساس، فسوف يجد المسافر نفسه وكأنما يسبح داخل الصاروخ سبحا، فيمشي بكل سهولة على سقف أي غرفة تماما كما يمشي على أرضها.
وإذا ما أفلت شيء يمسكه تجد أن هذا الشيء لا يسقطر إلى أرض الغرفة وإنما يظل اعالقاً في الفضاء، وسوف يكون من المستحيل صب سائل من إبريق أو وعاء أو سكبه في كوب.
ولعل أكبر ما يشغل البال في هذا الباب هو: كيف يتم التفاعل بين مشاعر الإنسان وحالة انعدام الوزن؟ ولما كان من الممكن توافر مثل هذه الحالة داخل الطائرات فإن خبراء الطب يحاولون استغلال ذلك في دراساتهم؛ ويقول نفر من الطيارين أن انعدام الوزن يحدث شعورا جميلا، في حين لا يأبه له نفر آخر، أما الذين يدعون أنه أمر غير عادي ويقررون أنه يسبب لهم الضجر والشعور بعدم الراحة فهم قلة.
وأول من توصل إلى طريقة الحصول على صفر الجاذبية في الطيارات النفاثة خبيران يدعى أحدهما فرتز والثاني هاينز هابر، في مصلحة طب الفراغ التابعة السلاح الطيران الأمريكي براندولف بولاية تكساس، وذلك بأن ينقض الطيار بطائرته في اتجاه رأسي تقريباً حتى تأخذ كامل سرعتها، ثم يعطيها الاتجاه الأفقي ويبطل عمل المحرك، يجد أن الطائرة تسير في قطع مكافي، على غرار المسار الذي تسير فيه كرة القدم عندما يلقفها طفل إلى آخر، وخلال هذه الفترة بالذات يقع الطيار تحت تأثير ظاهرة انعدام الوزن، ثم يعمد إلى تشغيل المحرك بعد ذلك.
ولقد استخدمت هذه الطريقة في الحصول على فترات لانعدام الوزن تراوحت بين 30 و45 ثانية. وقرر أول طيار استخدمها أنه شعر كأنما - يجلس على كرة ضخمة تلف في عدة اتجاهات في نفس الوقت، كما لاحظ أن قلياً من أقلام الرصاص، كان على سطح جهاز أمامه، ارتفع في الهواء وأخذ يسبح فيه.
وأعجبت هذه الحالة ۲۲ من الطيارين الذين قرروا الشعور بمنتهى السعادة، كما قالوا إنهم فقدوا إحساسهم بأن الطائرة تتحرك وإنما هي كانت تسبح أو تعوم. وقرر ۱۱ طيارة الوقوع تحت مشاعر مختلفة، مثل السقوط واللف، والوقوف على الرأس، والتعليق في الفضاء... إلا أن هذه الإحساسات كلها لم تكن مصدراً من مصادر الانزعاج الحقيقي لهم، وعان 14 طياراً من ظاهرة انعدام الوزن بعض المتاعب وظهرت عليهم أعراض أمراض الدوار والحركة العنيفة.
وفي النهاية اتضح من إجراء هذه التجارب أن بعض الأفراد سوف يمكنهم السفر في السفن الصاروخية دون مشقة تذكر؛ في حين يتعذر هذا الأمر على البعض الآخر.
ومن أهم المسائل التي يدرسها رجال الطب والهندسة مسألة تصميم غرف سفن الفضاء؛ ولقد تم بناء كثير من النماذج لهذه الغرف في راندولف فيلد وغيرها.
وتجرى التجارب على المتطوعين داخل هذه الغرف حتى يعرف المختصون مدى صلاحيتها. وبطبيعة الحال يلزم أن تكون هذه الغرف مكيفة الهواء، كما تحتفظ بالضغط الجوي داخلها، على أن تمد بالأوكسجين اللازم لعمليات التنفس. ويلزم أن تستخدم طريقة كيموية لتخليص الأوكسجين من ثاني أوكسيد الكربون عندما يتراكم هذا الأخير بعملية التنفس.
ويتفق الجميع على أنه من الصعب حقاً أن تنظم درجة الحرارة في غرف سفن الفضاء، فإنه عندما ينطلق الصاروخ صاعدا خلال طبقات الجو السفلى قد يكفي الاحتكاك بهذه الطبقات لرفع درجة حرارة الغرف إلى معدلات كبيرة غير مألوفة ولا محتملة. وقد أثبت الاختبار الصحي أن الإنسان يستطيع أن يتحمل درجات حرارة عالية تصل إلى حدود ۷۰ درجة مئوية خلال فترة تمتد إلى ۷۰ دقيقة دون خطر محقق. أما درجات الحرارة التي فوق هذا القدر فيمكن تحملها لفترات أقصر.
ومن مصادر الحرارة التي ليس من السهل التغلب عليها أشعة الشمس المباشرة، فهي قد تسبب ارتفاع درجة الحرارة داخل الصاروخ إلى قيم كبيرة، جدا، إلا أن هذه الظاهرة سوف تقاوم باستخدام بعض الحواجز أو الستائر التي تحجز كثيراً من الإشعاع الشمسي ومن المسائل التي لم تتم دراستها بعد مسألة تأثير الأشعة الكونية التي تبلغ من القوة درجة تستطيع معها أن تنفذ من جدران الصاروخ لتستقر داخله.
ومن اللازم أن تجري اختبارات أخرى عديدة على الحيوانات بعد إرسالها في الصواريخ أو في الأقمار الصناعية لتحديد مدى الضرر الذي تسببه هذه الأشعة على الركاب والمسافرين في رحلات الفضاء.