من صواريخ الأفراح إلى الأقمار الصناعية
لم تكن سفينة الفضاء الضخمة التي أقلت ملاحي الفضاء إلى القمر في يوليو ۱۹۹۹ إلا حفيدة تلك الصواريخ التي سبق أن أرسلت من أجل الكشف عن معالم جو الأرض العلوى أو التي استخدمت من قبل في إطلاق الأقمار الصناعية وليست هذه الصواريخ بدورها سوى ما تمخضت عنه صواريخ الأفراح والألعاب النارية التي نلهو بها في الأعياد لتكسو السماء بمجموعات من النجوم الملونة والذيول النارية التي تهطل كما يهطل المطر من السحاب سواء بسواء.
وأنت لن يعوقك فهم عمل أي صاروخ من الصواريخ لو أنك فهمت كيف تعمل صواريخ الأفراح البسيطة، التي لا يعدو الصاروخ منها أن يكون أنبوبة صغيرة من الورق المقوى طولها نحو 15 سنتيمتر مثبتة في طرف عصا رفيعة، تملأ مسحوق المدافع (البارود)، كما يتصل بمؤخرتها فتيل.
صناعة الصواريخ منذ 7000 سنه لدى الصينين:
ومنذ أكثر من ۷۰۰ سنة مضت صنع الصينيون الصواريخ وصنفوها على هذا النمط، ثم أدخلوا عليها بعض التحسينات حتى قاربت النحو الذي تبدو عليه صواريخ الأفراح اليوم، وكانوا يستعملونها في إرهاب العدو وقهره، وكذلك في الأعياد والأفراح.
ومن التحسينات التي أدخلوها على هذه الصناعة أنهم كانوا يثبتون مخروطاً في قمة الصاروخ لتكون نهايته مدبية بدلا من أن تكون مسطحة، وبذلك يستطيع أن يرق أو يطير بسهولة. ووجدوا أيضاً أن في وسعهم وضع كمية إضافية من البارود في الطرف المدبب تنفجر بمجرد هبوط الصاروخ وسط فرق العدو وارتطامها بالأرض.
أما اليوم فإن المخروط الذي يثبت في نهاية صاروخ الألعاب النارية إنما يشحن بالنجوم المختلفة الألوان.
ومن التحسينات التي أدخلها الصينيون أيضا على صناعة الصواريخ حفر ثقب في قاعدة عبوة البارود. ومن شأن هذا الثقب أن يساعد على عملية الاحتراق بزيادة السطح المعرض للهواء. وينجم عن ازدياد الاحتراق ازدياد القوة التي يدفع بها الصاروخ، ومن ثم ازدياد سرعة تحركه.
تطور صناعة الصواريخ:
تعلم العرب من الصينيين سر صناعة الصواريخ، ثم أخذ الأوربيون هذا السر عن العرب، وسرعان ما استخدمت جميع الجيوش الأوربية هذا السلاح،
إلا أنها استغنت عنه وأبدلت به المدافع بعد عام 1500 م، وحوالي عام ۱۸۰۰ م ظهرت أنواع من الصواريخ أدخلت عليها بعض التحسينات وخاصة عندما استخدمها الإنجليز في حربهم ضد الولايات المتحدة الأمريكية عام ۱۸۱۲ م.
كيف يطير الصاروخ؟
يعجب الكثير من الناس ويتساءلون: كيف يطير الصاروخ؟ وتتضارب الآراء في هذا الصدد، ويتصور البعض أن الغازات التي تنبثق بغزارة من مؤخرة الصاروخ إنما تدفع به إلى الأمام نتيجة تفاعلها أو تضاغطها مع الهواء الجوي، إلا أن هذه الفكرة لا أساس لها من الصحة؛ فالهواء لا يساعد الصاروخ على السير أو التحليق بتاتا، وإنما هو يعوقه عن الحركة بما يولد من مقاومة وما يسبب من احتكاك. ولهذا السبب نجد أن حركة الصواريخ إنما تسهل وتعظم في الفراغ.
وقد سبق أن فسر إسحق نيوتن سر حركة الصواريخ هذه بقانون علمي يعرف الآن باسم قانون الحركة الثالث لنيوتن، وهو ينص على: أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضاداً له في الاتجاه.
وأنت إذا ما راقبت شخصاً يقفز إلى الماء من فوق ظهر عوامة صغيرة يمكنك أن تلاحظ أن العوامة تنغمس في الماء في الوقت نفسه الذي يقفز فيه الشخص إلى الهواء. وفي الواقع ليست حركة العوامة أو اندفاعها إلى أسفل إلا رد الفعل الناشئ عن قفز الشخص إلى أعلى.
وأنت كذلك إذا كان قد سلق لك أن أطلقت عياراً ناريًا من بندقية مثلاً ربما تذكر أن البندقية ارتدت إلى الخلف مندفعة إلى كتفك، وما تراجع البندقية هذا إلا ر الفعل الناجم عن اندفاع الرصاصة إلى الأمام.
وعلى هذا النمط نجد أن اندفاع الصاروخ إلى الأمام لا يكون في الواقع والأمر نفسه إلا بسبب رد الفعل الناجم عن انبثاق الغازات بوفرة وغزارة وانطلاقها إلى الوراء من مؤخرته.
وحوالي عام ۱۸۰۰م استغنت جيوش العالم مرة أخرى عن استعمال الصواريخ كسلاح حربي، وبذلك اقتصر استخدامها من جديد على الأفراح والأعياد، ومهما يكن من شيء فإننا نستطيع أن نقول إنه لم يبق للصواريخ شأن يذكر منذ أوائل القرن التاسع عشر.
روبرت هتشنزجودارد وتطور صناعة الصواريخ:
ولكن الوضع تغير على يد عالم نابه أمريكي متقاعد، كان يغلب عليه الخجل، كرّس حياته على بحوث الصواريخ هذا العالم هو الدكتور روبرت هتشنزجودارد، أستاذ الطبيعة (الفيزياء) بجامعة كلارك في ورسستر ماساشوستس، وهم يطلقون عليه اسم «أبو الصاروخية الحديثة».
ولقد أثبت الدكتور جودارد بالتجربة أن سرعة تحرك الصاروخ إنما تتوقف إلى حد كبير على سرعة انبثاق الغازات من مؤخرته، وعلى هذا الأساس أكد جودارد أن الصاروخ المثالي لا يصح أن يدفع بالوقود الجاف المصنوع من مسحوق المدافع، وإنما يجب أن يدفع بالوقود السائل.
أول صاروخ استُخدم فيه الوقود السائل:
وفي 16 من مارس عام 1929م نجح جودارد في إطلاق أول صاروخ استخدم فيه الوقود السائل، وكان ذلك في بلدة أوبرن الصغيرة من أعمال ماساشوستس على أرض تغطيها الثلوج في مزرعة كان يملكها أحد أقاربه.
وكان الصاروخ خفيفا جذا، بلغ طوله نحو ثلاثة أمتار أما وقوده فكان البترول والأوكسجين المسال. وفي الحقيقة لا يمكن للصاروخ الذي يدفعه الوقود السائل أن يستمد الأوكسجين اللازم لإتمام عمليات الاحتراق فيه من الهواء كما هي الحال في محرك السيارة أو محرك الطائرة مثلا، وإنما يلزم للصاروخ أن يحمل معه أوكسجينه الخاص.
ومكث صاروخ جودارد الصغير يسبح في الجو مدة ثانيتين ونصف ثانية قطع خلالها مسافة 50 متراً، وبرغم أن هذه النتيجة لا تعتبر نجاحا باهراً، فإنها ولا شك كانت خطوة الابتداء، واستمر جودارد يعمل على صواريخ الوقود السائل، وقد دخل هذا الميدان كثيرون غيره من الهواة والمتحمسين، وأنشئت عدة جمعيات تهتم بعلم الصواريخ وصناعتها في كثير من البلدان مثل الولايات المتحدة وإنجلترا وألمانيا.
الجيش الألماني وصناعة الصواريخ:
واهتم الجيش الألماني بصناعة الصواريخ، وكان قد بدأ برامجه في ميدان الصواريخ قبل حكم هتلر، وأخذت هذه البرامج تتسع وتكبر، حتى انتهى الأمر إلى إنشاء مؤسسة ضخمة في بينموند على بحر البلطيق، تم فيها بناء الصاروخ في ۲ تحت إمرة القائد وولتز دورنبرجر وإشراف الدكتور فيرنر فون براون.
وضربت لندن بأول صاروخ من صواريخ ف ۲ في الثامن من سبتمبر عام 1944 م، وخلال السبعة أشهر التي تلت ذلك التاريخ سقط على لندن أو بجوارها أكثر من ألف صاروخ من هذا النوع، قتلت نحو ألفي شخص، كما أحدثت كثيراً من التلف والضرر، ولم يكن في المستطاع مقاومتها خلال الحرب العالمية الثانية.
وبلغ طول الصاروخ في۲ - ۱۳٫۸ متراً، أما وزنه فعادل نحو 14 طناً، وكان يحمل في مقدمته مفرقعات زنتها نحو طن كامل، أما باقي الوزن فتركز أغلبه في المحركات: منها أربعة أطنان من الكحول الأثيلي، وخمسة أطنان من الأوكسجين السائل.
الصواريخ أثناء الحرب العالمية الثانية:
وفي الواقع صنعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية أنواعاً مختلفة من الصواريخ الصغيرة التي استخدمت في تسييرها أنواع منتقاة من الوقود الجاف. وكان الوقود الجاف يعبأ في هذه الصواريخ داخل غرف الاحتراق.
وفي أبسط أنواع الصواريخ التي تستخدم الوقود السائل يوجد خزان لحفظ أحد الغازات الخاملة - أي التي لا تشتعل ولا تساعد على الاشتعال مثل النيتروجين والهيليوم، الغرض منه العمل على دفع الوقود السائل إلى غرفة الاحتراق.
ويوضح الشكل المرسوم بعض تفاصيل هذه الصواريخ، إلا أنها من البساطة بحيث لا تمثل تمامًا تركيب الصاروخ ف۲ أو ما على شاكلته من الصواريخ الكبيرة التي تصنع اليوم، وذلك لأن الوقود لا يصل إلى غرفة الاحتراق بالسرعة الكافية.
وقد استخدمت مضخات - تعمل بوساطة (تربين) خاص - في دفع الكحول والأوكسجين المسال إلى غرفة احتراق الصاروخ في ۲، وكان (التربين) يدار بالبخار الذي يولده مرجل تولد فيه الحرارة بالتفاعل بين فوق أوكسيد الهدروجين العالي التركيز وبرمنجانات البوتاسيوم.
ولقد وقع في يد القوات الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية عدد وفير من الصواريخ في ۲، فاستخدمتها في أبحاث طبقات الجو العليا بعد أن نقلتها إلى" حقول تجاربها في الرمال البيضاء بنيومكسيكو، واستمرت برامج هذه البحوث فيها بعد باستخدام نوعين من الصواريخ صنعا بمعرفة العلماء الأمريكيين اشتهر أحدهما باسم (الأيروبي)، وكان صغير الحجم لا يربو طوله على 6 أمتار في حين اشتهر الثاني باسم (الفيكنج) وقد بلغ طوله نحو 13.5 متر.
وفي24 مايو عام 1954 ضرب صاروخ من صواريخ الفيكتج هذا الرقم القياسي للارتفاعات التي وصلتها الصواريخ وحيدة المرحلة بأن حلّق على ارتفاع ۲۰۳ كيلومتراً.