كيف يعمل قلب الإنسان؟
من ثلاثمائة سنة كان العلماء يعتنقون شتي النظريات الغريبة عن الطريقة التي يعمل بها القلب . فكانوا يعتقدون أن الدماء إما أن تحمل روحاً نبيلة ، أو أبخرة بها ذرات من الفحم. مع أنهم كانوا لا يستطيعون تفسير كنه هذه الروح أو الأبخرة . كما كانوا يعتقدون أن القلب يبرد هذه الدماء ، فكان بعض العلماء يعتقد أن بعض الأوعية الدموية تحمل هواء بدلا من الدماء ، وكانوا يسمونها الشرايين ( الكلمة الإغريقية Arteries ومعناها أنابيب الهواء).
إلا أنه في عام ۱۹۲۸ نشر طبيب إنجليزي اسمه وليام هارفي كتاباً يشرح فيه كيف يدفع الدم في شتى أنحاء الجسم في دائرة مقفلة ، فكانت فكرته هذه جديدة على العلماء ، تختلف اختلافاً بيناً عما كانوا يعتقدون ويدرسون . ولقد هاجم هارفي الأطباء والعلماء الذين كانوا يعتقدون أن الشرايين تحمل هواء ، وأوضح بأدلة لا تحتمل أي شك أن الشرايين نتحمل في شتى أنحاء الجسم دما يتجه بعيداً عن القلب ، وأن هناك نوعاً آخر من الأوعية الدموية أسماها أوردة تحمل الدم مرة ثانية إلى جهة القلب كان وليام هاري عالماً عظيماً .
إلا أن كتابه لم يكن إلا نقطة البداية في طريق اتساع معارفنا عن القلب والدم . لم يكن المجهر قد ظهر في عهد هارفي ولذلك فإنه لم يعرف على وجه الدقة كيف ينتقل الدم من الشرايين إلى الأوردة .
كان يستعمل العدسات المكبرة عندما يفحص أجسام الحيوانات والحشرات ، ولكن قوة تكبير هذه العدسات لم تسعفه لمعرفة كيفية انتقال الدم من الشرايين إلى الأوردة في دورته حول الجسم ، لذلك عمد إلى الحدس ، ولقد ثبتت صحة تخميناته بعد وفاته بسنوات قليلة.
لم يعرف هارفي أن الدم يحمل الأكسجين إلى الأنسجة. ذلك لأن الأكسجين لم يعرف إلا بعد مضي 150 سنة من استكشافه للدورة الدموية ، كما أنه لم يكن ليعرف أن الوظيفة الأولى للدم هي تغذية خلايا الأنسجة الحية ، ذلك لأن هذه الخلايا لم تستكشف إلا بعد مضي ۲۰۰ سنة .
وصف هارفي في الفصل الأول من كتابه شعوره عندما بدأ في دراسة القلب يقول : «كانت حركة القلب سريعة جدا، حتى لقد أغرتي هذه السرعة بالاعتقاد بأن الله وحده هو الذي يعرف سرها ». ولكنه يشرح بعد ذلك كيفية عمل القلب بصورة عامة . ونحن نعرف الآن الكثير عن القلب وعن نظامه وطريقة عمله ، ولكنا مازلنا في جهل تام عن الكيفية التي يؤدي بها هذا العمل على الصورة التي نعرفها.
ويشبه القلب في الشكل مخروطاً مائلاً إلى ناحية وقمته إلى أسفل ، ومكانه فوق الحجاب الحاجز بين الرئتين في وسط الصدر تقريباً.
شكل القلب :
القلب عضو عضلي مجوّف يتكون من أربع غرف وأربعة صمامات، ولو درست شكلا يوضح داخل القلب ، لتبين لك أن القلب ينقسم طوليا من أعلى إلى أسفل إلى جزأين، ولنطلق عليهما- لسهولة الشرح - القلب الأيمن والقلب الأيسر .
غُرف القلب :
وينقسم القلب الأيسر عرضيا إلى غرفتين:
غرفة عليا تسمى الأذين الأيسر ، وغرفة سفلى تسمى البطين الأيسر .
كذلك ينقسم القلب الأيمن إلى غرفتين لهما نفس الاسمين : غرفة عليا هي الأذين الأيمن، وغرفة سفلى هي البطين الأيمن .
ويتكون القلب من نسيج عضلي ، ويؤدي وظيفته بانقباض عضلاته وارتخانها ، فعندما تنقبض العضلة تقصر ويزداد توترها ، فإذا ما ارتخت عادت العضلة إلى حالتها الطبيعية فيزداد طولها وتصبح لينة . و يمكنك مشاهدة هاتين الظاهرتين إذا ثنيت ذراعك بشدة وتحسست العضلة ذات الرأسين في مقدم العضد التي تكون في حالة انقباض ، ولكنها ترتخي إذا بسطت ذراعيك.
و ولا تنقبض عضلات القلب في وقت واحد، بل ينقبض جانب منها ثم يتلوه جانب آخر . ولا شك أن انقباض جدران غرفات القلب يقلل من الحجم الداخلي لهذه الحجرات مما يؤدي إلى دفع ما قد تحتويه هذه الغرفات من دماء إلى الخارج .
ولكي تتفهم ماذا يحدث لهذا الدم ، لابد من أن تشاهد قلباً أثناء عمله .
الأوردة الدموية:
تسمى الأوعية الدموية التي تحمل الدم إلى القلب "الأوردة" . ويتجمع الدم الوارد من الرأس والأطراف والأحشاء في وريدين كبيرين يصبان في الغرفة العليا اليمني للقلب أي الأذين الأيمن . لقد أتم هذا الدم عمله من تقديم الأكسجين والغذاء للخلايا ، وفي رجوعه إلى القلب حمل معه ثاني أوكسيد الكربون الذي لا تحتاج إليه الخلايا .
ولكن يجب ألا نعتبر الدم الوريدي . وهذا اسم الدم الذي يوجد في الأوردة دماً فاسداً لأنه يحمل مخلفات خلايا الأنسجة و ذلك لأن بعضاً منه ، وهو الوارد من الأمعاء، يحمل مواد غذائية جديدة ، كما أن هذا الدم يحمل بعضا من المواد الكيموية لا يستطيع القلب أن يعمل بدونها . وزيادة على ذلك فإن ثاني أوكسيد الكربون الذي يحمله الدم الوريدي له فائدته التي يؤديها قبل خروجه مع الزفير ، فهو يساعد على تنظيم حركة القلب والرئتين . يدخل الدم الوريدي الغرفة العليا اليمني للقلب ، الأذين الأيمن. وبمجرد أن يمتلىء الأذين فإنه ينقبض دافعاً الدم إلى الغرفة السفلى اليمني ( البطين الأيمن ) ، ويوجد بين هاتين الغرفتين صمام يسمح بمرور الدم في اتجاه واحد ، من الأذين إلى البطين ، لذلك فإنه يظل مفتوحا حتى يمتلىء البطين ، ثم يقفل بإحكام حتى لا يرجع الدم للغرفة العليا .
دورة الدم بدءاً من القلب :
وفي اللحظة التي يتم فيها امتلاء البطين يبدأ في الانقباض فيندفع الدم في وعاء دموي كبير يحمله من القلب إلى الرئتين .
وتسمى الأوعية التي تحمل الدم بعيداً عن القلب بالشرايين . ويسمى هذا الوعاء بالشريان الرئوي ، وله فرعان : واحد لكل رئة.
وفي الرئتين يتخلص الدم الوريدي من ثاني أوكسيد الكربون ويأخذ كمية جديدة من الأكسجين ، وتسمى هذه العملية بتبادل الغازات . ويسمى الدم الذي يحمل الكمية الجديدة من الأكسجين بالدم الشرياني ، ولونه أحمر قان، بخلاف الدم الوريدي فلونه أحمر قاتم.
يحمل الدم من الرئتين إلى القلب وعاءان كبيران . وتسمى الأوعية الدموية التي تحمل الدم إلى القلب « أوردة » ، ولذلك يسمى هذان الوعاءان بالوريدين الرئويين ولو أنهما يحملان دماً شريانا . وفي هذه المرة ، يسرى الدم في الأوردة الرئوية ويصب في الغرفة العليا اليسرى للقلب ، أي الأذين الأيسر . وعندما يتم امتلاء الأذين الأيسر بالدم ، ينقبض دافعاً الدم إلى الغرفة السفلى ، البطين الأيسر .
وبين هاتين الغرفتين صام يشبه الصمام الموجود بين الأذين والبطين الأيمنين ، إلا أن الأخير يتكون من ثلاث وريقات ، ولذلك سمي بالصمام ذي الثلاث الشرفات ، في حين أن الصام بين الأذين والبطين في القلب الأيسر له وريقتان ، ولذلك سمي الصمام ذا الشرفتين .
يصل الدم بهذه الطريقة إلى مرحلة نهائية في دورته داخل أنسجة الجسم .
إن البطين الأيسر هو أقوى غرفات القلب . وعندما ينقبض يدفع الدم بقوة بحيث يستطيع أن يدور في الجسم دورة كاملة في ستين ثانية تقريباً .
ولو شاهدت فيلماً سينمائيا يتحرك ببطء يوضح كل الذي وصفناه فيما سبق ، للاحظت أن كل جانب من جاني القلب يعمل في اتساق ؛ إذ تنقبض الغرفتان العلويتان معا ثم ترتخيان ، وبعد ذلك تنقبض الغرفتان السفليتان ثم ترتخيان .
وتشكل هذه الحركة الدقة القلبية ، التي تحدث في الإنسان بمعدل سبعين مرة في الدقيقة ، أي أكثر من مائة ألف دقة في اليوم الواحد . وإذا قارنا هذا المعدل بدقات قلوب المخلوقات الأخرى لوجدنا أن قلب عصفور الكناري يدق ألف مرة في الدقيقة ، وقلب الفيل يدق خمسة وعشرين دقة فقط . ويدق قلب الإنسان بسرعة أكبر إذا ما ارتفعت درجة حرارة جسمه في إحدى الحميات ، أو إذا كان متهيج الشعور ، وتقل السرعة أثناء النوم .
ولابد أن يصل الدم الذي يخرج من البطين الأيسر إلى كل خلية حية في جسم الإنسان . لهذا فإن الشريان الذي يحمله من القلب سميك الجدران قويها ويبلغ قطره حوالى ۲٫5 سم . وهذا هو الشريان الرئيسي في الجسم ويسمى الابهر الأورطي .
البطين الأيسر:
وعندما ينقبض البطين الأيسر القوى فإنه يدفع الدم في شريان الأورطى فتتمدد جدران هذا الشريان الكبير . ولكنها تنكمش بعد ذلك، ويساعد هذا الانكماش على دفع الدم إلى الأمام . لأن هذا التمدد والانكماش المتوائيين يحدثان في جدران الشرايين موجة اهتزازية تسمى بالنبض . وفي الشخص السليم ، تكون نبضاته قوية منتظمة ويبلغ عددها سبعين أو ثمانين نبضة في الدقيقة الواحدة . أما في الشخص المريض فإن النبض يصبح ضعيفاً وقد يكون أسرع أو أبطأ من ذلك . ويجس الأطباء النبض عند الرسغ في جهة الإبهام وذلك للسهولة فقط .
حيث إنه من الممكن جسّ النبض في أماكن أخرى من الجسم. ويخرج الأورطي من الجهة الأمامية للقلب ، ولكنه يتجه في قوس إلى الخلف ، ومن ثم ينزل في الجسم أمام العمود الفقرى مباشرة . وهو يشبه في تفرعاته تفرعات مصدر المياه المدينة كبيرة . فعندما تصل أنبوبة المياه الرئيسية إلى مدينة ما ، نرى أنها تتفرع فروعاً كثيرة في شتى الاتجاهات ، ثم تتفرع هذه الفروع إلى فروع أصغر تدخل الشوارع المختلفة ، وفي كل شارع نجد فروعا أصغر تدخل لكل بيت . وفي النهاية ، نجد أنابيب أصغر من كل ما سبق تدخل المساكن المختلفة في كل بيت .
ويتفرع الأورطي بنفس الطريقة ، إلا أن فروعه الأولى صغيرة ، وتسمى الشرايين التاجية التي ترجع إلى القلب لتغذيته ، فبدون التغذية والأكسجين لا يستطيع القلب الحصول على الطاقة اللازمة لعمل الشاق في دفع الدم إلى شتى أنحاء الجسم .
وتخرج من قوس الأبهر فروع تحمل الدم للذراعين والرقبة والرأس . وعندما ينشي الأبهر نازلاً في الصدر ، تخرج منه فروع أخرى حاملة الدم إلى الرئتين والحجاب الحاجز ، وعندما يصل إلى البطن تخرج الفروع التي تغذي الكليتين والجهاز الهضمي . وفي النهاية ينقسم الأبهر إلى فرعين يحملان الدم إلى الساقين. ويتفرع كل فرع من أفرع الأبهر إلى فروع أصغر ثم أصغر حتى نصل إلى فروع لا نكاد نتبينها بالعين المجردة . تتفرع هذه الشرايين الصغيرة أو الشرينات إلى أنابيب لا يمكننا رؤيتها بدون الاستعانة بالمجهر ، ولذلك لم يستطع هارف إلا أن يحدس وجودها . وتسمى هذه الأنابيب بالشعيرات ، بمعنى أنها أذق من الشعر . وفي الحقيقة ، فإن هذه الأنابيب من الدقة بحيث لا تستطيع الكرات الدموية الحمراء المرور داخلها إلا واحدة واحدة.
وفي بعض الأماكن ، وخاصة عندما تنثني الشعيرة وتغير اتجاهها ، نجد أن الكرة الحمراء تشي على نفسها تماماً حتى تستطيع المرور في الشعيرة .
ولا يمكن للغذاء والأكسجين الوصول إلى خلايا الأنسجة إلا من خلال جدر الشعيرات . فجدر الشرايين والشرينات سميكة جدا لا تسمح بمرور شي خلالها . ولكن جدار الشعيرة مكون من طبقة واحدة من الخلايا تستطيع جزيئات الغذاء والأكسجين المرور من بينها لتصل إلى خلايا الأنسجة المجاورة . وفي الواقع فإن شبكة الشعيرات التي تتخلل جميع أنسجة الجسم هي التي تبقينا في صحة جيدة . فكل المواد الغذائية التي تحتاج إليها للحصول على الطاقة ولنمو الجسم تصل إلى خلايا الجسم من خلال جدران الملايين من هذه الأنابيب الدقيقة .
وفي الوقت الذي يتخلى فيه الدم عن بعض ما يحتويه من مواد غذائية وأكسجين ، فإنه يأخذ من الخلايا ما يتخلف عن نشاطها من ثاني أوكسيد الكربون وغيره من مخلفات، التي تصل إليه بطريقة مثالية خلال جلر الشعيرات، و بذلك يتحول الدم في الشعيرة إلى دم وريدي استعداداً للرجوع إلى القلب داخل الأوردة.
فالشعيرات يتصل بعضها ببعض مكونة أوردة صغيرة يتجمع بعضها مع بعض مكونة أوردة أكبر فأكبر . وفي النهاية يصل الدم الوريدي في وريدين كبيرين إلى الغرفة العليا من الجانب الأيمن للقلب، أي الأذين الأيمن . ومن ثم تبدأ دورة ثانية للدم.