في بيتي كنت أجد نفسي وحيدًا وسط بحر من الإحساس بالذنب لا في حق نفسي وإنما في حق زوجتي التي تظل طوال اليوم وحيدة تقاسي من الآلام التي لا قبل لها بها، وقد تجعل من حقها أن تقول لي: "لماذا لا تسمح لي بالذهاب إلى بيت أبي لأكون قريبة من والدتي التي من شأنها مساعدتي وتوجيهي؟ ".. فقلت: "نعم إن من حقها ذلك وأكثر، ونظرًا لذلك فإن والدتك بدون شك ستُفيدك من تجربتها بالإضافة إلى ما تضفيه عليك من حنان الأمومة الصادق وعطفها الأبي".. قلت ذلك عطفًا عليها بالرغم من أن وجودها معي يشجعني على الوقوف بثبات وسط العواصف الهوجاء من المؤامرات و المكائد والمضايقات حتى من الذين أحسنت إليهم وساعدتهم وعينتهم في مناصب في مختلف إدارات الدولة، وأحيانًا كان يحلق بي الخيال بعيدًا لدرجة التساؤل، هل ما أعانيه و يعانيه غيري من المجاهدين والمناضلين وأبناء الشهداء عقاب على ما قاموا به من أعمال ضد العدو المحتل وضد الذين يتولون المسؤوليات من أعوان العدو؟، ثم أقول وأنا أحس بألم شديد لا يحتمل هل بهذا يظنون أو يعتقدون أننا سننهار ونيأس ونشتكي و نترك لهم الساحة خالية يسرحون و يمرحون بما يحلوا لهم؟ ...
أبدًا لن يكون هذا إطلاقًا، سنقاوم وسوف نصمد إلى آخر رمقة من هذه الحياة وبذلك نرضى والدينا ونرضى الله سبحانه.
بعد ذلك لمست أحساس بانتعاش وقوة وبشعور أنني أقوى من كل الذين أمامي من العملاء وأبنائهم .. و بينما أنا على هذه الحالة أصارع وأنا على جبهات متعددة، دق جرس باب منزلي و إذا بأحد الأصدقاء الأوفياء – و ما أقلهم – فأخرجني مما كنت فيه من كآبة، فانشرح صدري لحديثه الذي كان بالنسبة لي يشبه الموعظة النافعة المؤثرة فقال لي و هو يبتسم ابتسامة حلوة: "هل كنا نعتقد العلم الجزائري يرفرف في كل مكان؟ "، فقلت له: "نعم"، ولكنه قال: "لي أرجوك لا تقاطعني و أترك عنك كلمة لو لأن (لو كان تعلم من عمل الشيطان) ألم تكن أنت الذي كان يشجعنا في الأيام الصعبة ويقول لنا أن ما نقوم به من أعمال يجب أن تكون مجردة وخالصة لله عز وجل، لكن اليوم الخونة والعملاء هم الذين يحتلون أرقى المناصب، أهذا ما كنت تريد قوله؟"، فأجبت: "بنعم"، فقال لي: "ألا تذكر ما عانيناه في الماضي البعيد ونحن حينئذ مجرد أشبال في الحركة الوطنية – حزب الشعب – وما قاسيناه لما صرنا مناضلين نقوم بمهمة التوجيه والإرشاد وبث الروح الوطنية في أوساط الشعب في الأرياف و القرى .. كيف كنا نتعرض للأذى والسخرية والاستهزاء، بل والوشاية للعدو الجاثم على وطننا؟،يا أخي باختصار لمّا بدأت الثورة ألم تقابل في بدايتها خاصة بالتشكيك في استمرارها لا في انتصارها، واستمرت طائفة ليست قليلة، على موقفها إلى غاية 19 مارس 1962 أي يوم وقف القتال، حينئذ فقط تغيّرت وبسرعة فائقة تلك الفئة من عُملاء وخونة إلى ثورين توجهوا يمتطون السيارات الفخمة وهي مشحونة بما لذ و طاب نحو الجبال للاتصال بالمجاهدين في معاقلهم، ليغرقوهم بشتى أنواع الإغراء (حرامه وحلاله)، وتسابقوا في من يفوز بتزويج ابنته لمسئول أو ضابط أو حتى جندي بسيط"، قلت له: " أنا معك في كل ما تفضلت به لأني كما تعلم رفضت عروضًا كثيرة مما جعل بعض أصدقائي يُمطرونني بوابل من النقد، وكنت أجد في أغلب الأحيان صعوبة في إقناعهم"، ثم قلت له: "و مما لا يخفى عليك وعلى أمثالك ما يترتب مستقبلاً على مصاهرة الخونة من النتائج وخيمة، وأعتقد أن سلبياتها بدأت تظهر الآن، حيث أن الذين أرادوا (تبيض) تاريخهم سارعوا إلى مصاهرة الذين أرادوا تبيض الأموال التي نهبوها من المواطنين في الفترة من مارس إلى جويلية 1962، أو سلبوها من مال الثورة في الفترة نفسها، و بذلك ضاعت الأمانة واستفحل الفساد، و داهمت موجة عنيفة عاتية من النهم الجنسي الجنوني الفاضح والمكشوف الذي صار محل افتخار و مباهاة، حتى من طرف الذين تقدم بهم السن و رسم على وجوههم تجاعيد الأعوام و غطى رؤوسهم البياض الناصع الذي فرغ من الوقار بل جعل أولئك النماذج عبارة عن ( تيوس ) من أصحاب مذهب إبليس"، بعد هذا قاطعني صاحبي قائلاً: "على مهلك يا أخي أين هم رجال الفكر و أين هم العلماء "، فأجبت على الفور:" لا وجود لهم، وإذا لم يقنعك كلامي هذا فأخرج إلى الشوارع وابحث عنهم فإنك لا تجد لهم لا إسماً ولا ذكرًا، قد تعتقد أنهم ماتوا ودفنوا تحت التراب؟ ليتهم كانوا كذلك ولكنهم ماتوا معنويًا فتركوا العمائم والجبة والبرنوس، وطلقوا الماضي بالثلاث "، ثم أضفت مذكرًا صاحبي بما قمت به نحو هذه الزمرة في قسنطينة من خلال كلماتي و خطبي التي كنت أذيعها من محطة إذاعة قسنطينة و تلفزيونها بالإضافة إلى توظيف بعضهم مثل "أحمد حماني" الذي اقترحته على المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني قبل تكوين أول حكومة في عهد الجزائر المستقلة.
أقول اقترحت المذكور مسئولاً عن التعلم على مستوى الشرق الجزائري، كما أن مواقف هذه الجماعة في المجلس الوطني الأول لم يكن مشرفًا حتى بالنسبة للغة العربية التي (غاسوا) بها قبل الثورة لم يرضوا بتعليمها لأبنائهم كلهم بدون الشقاء ومن هنا أقول بدور تردد أنهم كانوا ( يقولون مالا يفعلون ).
إنَّ الحقيقة مُرَّة و لكن قائلها يشعر بحلاوة ولذة .. بعد هذه السهرة أو المسامرة أو المذاكرة التي طالت، ولو زادت لتشعبت ولكن سمعت أنين زوجتي الفاضلة الشجاعة فتوقفت عن الكلام وأعتقد أن صاحبي لاحظ علي بعض الانفعال فأستأذن بأدب و لباقة، وياليته سألني عن سبب انزعاجي قبل أن ينصرف، ولكنه الحياء الذي كما هو معلوم من الصفات الحميدة، ولكن الحياء في بعض الأحيان كما ورد في الأثر " الحياء يمنع الرزق".