يتعلق بهذا
نشأة البحث العلمي تاريخياً
إن نشأة البحث العلمي[1] قديمة قدم الإنسان على سطح الأرض، فمنذ أن خلق الله آدم، ونزوله الأرض، والإنسان يُعمل عقله وفكره ويبحث عن أفضل السبل لممارسة الحياة فوق سطح الأرض، ومن ثم لتحقيق وظيفة الاستخلاف التي خلق الله الإنسانَ من أجلها[2]. قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً)، سورة البقرة: 30، ومنذ ذلك اليوم، والإنسان يمارس المحاولات الدائبة للمعرفة وفهم الكون الذي يعيش فيه.
وظلت البشرية على مدار قرون طويلة تكتسب المعرفة بطريقة تلقائية مباشرة عن طريق استخدام الحواس الأساسية للإنسان، وبالطبع لم تمارس أي منهج علمي في التوصل إلى الحقائق أو محاولة فهم بعض الظواهر التي تحدث حول الإنسان[3]، وقد تطور البحث العلمي عبر العصور ببطء شديد واستغرق هذا التطور عدة قرون في التاريخ الإنساني، ومن الصعب تتبع تاريخ البحث العلمي بالتفصيل، وغاية ما يستطاع هو ذكر بعض معالم التطور في مجال البحث العلمي ونشاطاته، وقد كان اتجاه التفكير لدى قدماء المصريين اتجاها علميا تطبيقيا حيث برعوا في التخطيط والهندسة والطب والفلك والزراعة[4].
كما أسس المصريون القدماء حضارة علمية في الصيدلة والكيمياء، يقول عنها المؤرخ جابين (Gaben): إن المصريين كانوا منجما اغترف منه الأقدمون العقاقير وأوصافها المذكورة في أعمال ديسقوريدس (Pedanius Dioscorides) (40-90م) وبلليني (Plinius)(23-79م) وغيرهما، وكان من الواضح أنها مأخوذة من المصريين القدماء[5].
أما بالنسبة لقدماء اليونان فقد كان لهم اهتمام بالبحث العلمي، حيث أنهم اعتمدوا على التأمل والنظر العقلي المجرد، وقد وضع أرسطو قواعد المنهج القياسي والاستدلالي في التفكير العلمي، كما فطن أيضا للاستقراء، وكان الطابع التأملي هو الغالب على تفكيره، واعتمد اليونان أيضا في بنائهم العلمي على الاكتشافات السابقة التي سجلها المصريون والبابليون، ومن أبرز علمائهم البارزين في هذا المجال فيثاغورس (Pythagoras) (600 ق.م)، وديمقراطيس (Democritus) (400 ق.م)، وثيوفراستوس (Theophrastus) (300 ق.م)، وسترابون (Strabo) (20 ق.م)، وكلوديوس بطليموس (Claudius Ptolemy)(حوالي 100-170م(.
أما التفكير العلمي عند الرومان فقد ازدهر أيضا، ويعتبر الرومان ورثة المعرفة اليونانية، ويتركز إسهامهم في الممارسة العلمية أكثر من متابعتهم لها، وكانوا صناع قوانين ومهندسين أكثر منهم مفكرين متأملين.
أما في العصور الوسطى فقد ازدهرت الحضارة الاسلامية وفترة عصر النهضة في أوروبا، وتمتد تلك الفترة من حوالي القرن الثامن حتى القرن السادس عشر الميلادي، وقد أفاد المسلمون في هذه الفترة من العلوم السابقة للمصريين القدماء والإغريق والرومان واليونان، وتعتبر الحضارة الاسلامية حلقة الاتصال بين الحضارات القديمة، كحضارات المصريين والإغريق والرومان واليونان وبين من بعدهم في عصر النهضة الحديثة، ولم يكتفوا بنقل حضارة من قبلهم فقط، بل أضافوا إليها علوما وفنونا تميزت بالأصالة العلمية، فالفكر الإسلامي تجاوز الحدود الصورية لمنطق أرسطو، أي أن العرب عارضوا المنهج القياسي وخرجوا على حدوده إلى اعتبار الملاحظة والتجربة مصدرا للبحث العلمي.
كما أن العرب قد اتبعوا في إنتاجيتهم العلمية أساليب مبتكرة في البحث، فاعتمدوا على الاستقراء والملاحظة والتدريب العلمي والاستعانة بأدوات القياس، للوصول إلى النتائج العلمية، وقد نبغ الكثير من العلماء المسلمين في مجال البحث العلمي مثل الحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والخوارزمي والبيروني وابن سينا وغيرهم.
وقد شهد على نبوغ العلماء العرب في هذا المجال الكثير من رواد النهضة الأوروبيين مثل العالم جورج سارتون (George Sarton)، (1840-1956) الذي قال: أن العرب أعظم معلمين في العالم في القرون الوسطى، ولو لم تنقل إلينا كنوز الحكمة اليونانية لتوقف سير المدنية لبضعة قرون، فالعرب قد أسهموا بإنتاجهم العلمي في تقدم الحضارة، وأسهموا باصطناع منهج الاستقراء، واتخذوا الملاحظة والتجربة أساسا للبحث العلمي[6].
ولقد ساهم الفكر الإسلامي في تأصيل الحضارة الإنسانية تأصيلا سويا وصائبا، ووضعها في مسارها الصحيح، ونقلها من العشوائية والتخبط إلى المناهج العلمية الصائبة، التي تعتمد على أسس وقواعد ومبادئ، كما أرسى الفكر الإسلامي قواعد وأساليب التحصيل العلمي لشتى العلوم الإنسانية النظرية والتطبيقية، وأرسى قواعد الموضوعية والشكلية في البحث والكتابة والاستقصاء، ومن تلك القواعد والأسس التي وضعها العلماء المسلمون: قواعد منهج البحث العلمي التي يُعتمد عليها في نقد المصادر، وفي التجريح والتعديل، وقواعد التصنيف للروايات والآثار.
وقد أفاد رواد النهضة الأوروبية مثل روجر بيكون (Roger Bacon) (1214م) وليوناردو دا فينشي (Leonardo da Vinci) (1452م) وغيرهم من العلوم العربية، واعتمدوا عليها في بناء أسس الحضارة الأوروبية الحديثة.
ويمكن القول باطمئنان، أنه لا يوجد شيء من المعارف الإنسانية إلا وللمسلمين فيه بحث أو تطوير أو إضافة أو إحاطة ومعرفة، ولقد استخدم المسلمون في أبحاثهم العلمية المنطق القديم والمنطق الحديث على حد سواء, فلم يظنوا كما ظن مفكرو العصور الوسطى من الأوربيين أن أرسطو قد وضع النظرية النهائية لقواعد الاستنتاج, ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب هام من أساليب التفكير هو ما يطلق عليه الآن اسم الاستقراء (Induction)، وعرفوا المنهج الرياضي الذي يعتمد على المسلمات والبديهيات، وعنهم نقل بيكون (Roger Bacon) منهجه العلمي لأنه تتلمذ على علماء المسلمين[7].
عندما حمل المسلمون شعلة الحضارة الفكرية للإنسانية؛ ووضعوها في مكانها السليم؛ كان هذا إيذانا ببدء العصر العلمي القائم على المنهج السليم في البحث؛ فقد تجاوز الفكر العربي الإسلامي الحدود التقليدية للتفكير اليوناني، وأضاف العلماء العرب المسلمون إلى الفكر الإنساني منهج البحث العلمي القائم على الملاحظة والتجريب، بجانب التأمل العقلي، كما اهتموا بالتحديد الكمي واستعانوا بالأدوات العلمية في القياس. وفي العصور الوسطى كان الفكر العربي الإسلامي يفجر - في نقلة تاريخية كبرى - ينابيع المعرفة، بينما كانت أوربا غارقة في ظلام الجهل.
ثم نقل الغرب التراث الإسلامي، وأضاف إليه إضافات جديدة حتى اكتملت الصورة، وظهرت معالم الأسلوب العلمي السليم، في إطار عام يشمل مناهج البحث المختلفة وطرائقه في مختلف العلوم، التطبيقية والإنسانية.
فقد تمثل المسلمون المنهجية (Methodology) في بحوثهم ودراساتهم في مختلف جوانب المعرفة، والمنهجية التي اختطوها لأنفسهم تلتقي كثيرا بمناهج البحث الموضوعي في عصرنا، وشهد بذلك بعض المستشرقين الذين كتبوا مؤلفات يشيدون فيها بما يتمتع به العلماء المسلمون من براعة فائقة في منهج البحث والتأليف[8].
هذا، وقد أثبتت الدراسات المقارنة أن المنهج العلمي الحديث وأسلوب التفكير المنطقي قد توفر لدى علماء المسلمين في دراساتهم وبحوثهم واكتشافاتهم في مجال الفلك والطب والكيمياء والصيدلة وبقية فروع العلم التطبيقي.
وهكذا، حقق العرب - على مدى ألف عام مضت - قفزات كبيرة في كافة مجالات العلوم، وأصبحت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة مراكز للإشعاع الحضاري، بينما كان الحال في أوروبا على عكس ذلك، حيث كانت أوروبا تعيش عصرها المظلم.
لقد أفاد العرب من علوم الإغريق والرومان وحضارة آسيا، وحققوا تقدما هائلا في الرياضيات والميكانيكا والطب والكيمياء والعلوم التطبيقية، إضافة إلى البحث والتقنية النظريين، وبين القرنين الثامن والثالث عشر تم اكتشاف أهم الاختراعات العلمية، وتم إرساء أسس الحضارة الحديثة.
وقد قدم العالم الإسلامي العلماء والاكتشافات العلمية بأعداد كبيرة، كما قدم الكثير من الإبداعات الفنية والمعمارية الرائعة والمكتبات الضخمة والمستشفيات الكبيرة، ومختلف التقنيات والجامعات والصناعات، وخرائط العالم وطرق الملاحة، باستخدام الأجرام السماوية والكثير من الإسهامات الأخرى، ثم تم نقل هذه المعرفة إلى الأوروبيين عن طريق مراكز الحضارة الإسلامية في إسبانيا قبل نهاية العصور الوسيطة، حينما ألحقت الحروب الصليبية بالعالم الإسلامي التدمير والخراب.
كان أول من استخدم هذا المنهج لأساليب البحث هم علماء النفس والاجتماع في القرن التاسع عشر، إذ يُذكر أن أرنست وبر (Ernest Weber)[9] الذي يعتبر من مؤسسي علم النفس التجريبي (1795-1878م) ، قد درس الحس واللمس، واكتشف أن مناطق الحس تختلف في جسم الإنسان في كل منطقة في قوتها، وأصبحت دراساته مصدرا لتعليم علم النفس، وكان أول من حاول قياس نماذج محددة من السلوك البشري في الأربعينيات من ذلك القرن، ممهدا الطريق لآخرين تبعوه في استخدام الطريقة ذاتها، ويمكن القول بأن تلك المحاولات الأولى هي التي قادت إلى تأسيس معرفي جيد، أدى في بداية القرن العشرين إلى وسم الخطوط العريضة لمعالم البحث العلمي في الدراسات الإنسانية.
في تلك المرحلة المبكرة من نشأة هذا النوع من البحوث؛ كانت معظم طرق القياس مقصور على نماذج محدودة من السلوكيات، وذلك نظرا لمحدودية أساليب التحليل وبدائيتها، حيث اقتصرت معظم تلك الجهود على استخدام طرق الإحصاء الوصفي المعروف بضعفة في تقرير نتائج بحثية يعتد بها.
لم يدم الأمر طويلا بعد ذلك، حتى قام علماء الإحصاء بابتكار طرق جديدة ودقيقة في أساليب التحليل، عُرفت فيما بعد بالإحصاء الاستنتاجي، وفتحت الباب على مصراعيه للباحثين للدخول في دراسة تفصيلات أكثر، واستطاعت تقديم نتائج أدق من ذي قبل، وأصبح بالإمكان مع هذا المنهج الاحصائي الجديد أن يتعرف الباحثون على معلومات دقيقة وقيمة في بحوثهم، مهما كان حجم مجتمع الدراسة، وذلك من خلال النتائج التي يحصلون عليها، ولقد كان لنجاح الدراسات النفسية والاجتماعية في توظيف أسلوب البحث العلمي لخدمتها أثر كبير في توجيه معظم الدراسات الإنسانية إلى الأخذ بهذا النهج[10].
[1] Newton, Isaac (1999). The Principia: Mathematical Principles of Natural Philosophy, 3rd edition (1726). Newly translated by I. Bernard Cohen and Anne Whitman. Berkeley: University of California Press.
[2] Peirce, Charles Sanders (1908). A Neglected Argument for the Reality of God. 7. Wikisource. Nola, Robert (2001). After Popper, Kuhn and Feyerabend. Recent Issues in Theories of Scientific Method. Springer Science & Business Media. Gauch, Hugh G. (2003). Scientific Method in Practice (Reprint ed.). Cambridge University Press. Garland, Jr., Theodore (20 March 2015). "The Scientific Method as an Ongoing Process". U C Riverside. Archived from the original on 19 August 2016.
[3] Babbie, Earl (1989). The Practice of Social Research. 5th ed., Belmont CA: Wadsworth. Karl R. Popper 2003. Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific Knowledge, Routledge.
[4] بدر، أحمد (1996)، أصول البحث العلمي ومناهجه، ط9، القاهرة: المكتبة الأكاديمية، ص74.
[5] منتصر، عبدالحكيم (1980). تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه، ص25.
[6] بدر، أحمد (1996)، أصول البحث العلمي ومناهجه، ص77.
[7] قاسم، محمود (1966). المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ص22.
[8] روزنتال, فرانتر (1983). مناهج العلماء المسلمين في البحث، ليبيا: دار العربية للكتاب.
[9] Weber, Ernst Heinrich, Jan (1967), Leipzig physiologist, Journal of the American Medical Association, 199 (4). pp.272–273.
[10] الحيزان، محمد عبد العزيز (2010). البحوث الإعلامية أسسها أساليبها مجالاتها، الرياض.