حينما كنت في الخامسة من عمري، قررت أن أهرب من المنزل. كنت متضايقة من والديً لسبب ما – لا يمكنني تذكره – لكن ما أذكره هو أنا التفكير في الهروب كان هو الأمر المنطقي الوحيد الذي كنت أري أنني عليً القيام به. حزمت حقيبة صغيرة بحرص وأخذت برطماناً من ذبدة الفول السوداني وبعض الخبز من حجرة المؤن، وارتديت حذائي المحبب والذي كان علي شكل خنفساء ملونة باللونين الأبيض والأحمر، وانطلقت في رحلة بحثي عن الحرية.
كنا نعيش بالقرب من طريق مزدحم في جوهانسبرج، ولقد اضطر والداي إلي نصحي دائماً بعدم عبور الشارع وحدي علي الإطلاق، ولا تحت أي ظرف. وحين اقتربت من منعطف الطريق، أدركت أن المضي قدماً في عالم واسع وكبير لم يكن خياراً بالنسبة لي. كنت أري عبور الشارع وقتها أمراً مستحيلاً، وغير قابل للنقاش أبداً؛ لذا قمت بما سيقوم به أي طفل يبلغ خمس سنوات وغير مسموح له بالخروج إلي الشارع: تجولت في الحي ذهاباً وإياباً. وأخيراً حين وصلت إلي منزلي بعد مغامرة هروبي الدرامية جداً، كنت قد تجولت في الحي ذاته مارة ببوابة منزلنا الأمامية ذهاباً وإياباً لساعات.
نحن جميعاً نقوم بأمور كهذه بطريقة أو بأخرى، فنحن نسير (أو نركض) في دروب حياتنا مراراً وتكراراً، منقادين خلف القواعد المكتوبة أو الضمنية أو المتوقعة ببساطة، مكبلين بالطرق التي تحدد ماهيتنا وأفعالنا والتي لا تكون مجدية لنا. غالباً ما أجد نفسي أقول إننا نتصرف كالألعاب التي تعمل بالزنبرك، حيث نصطدم دائماً بالحوائط ذاتها، ولا ندرك أنه قد يكون هناك باب مفتوح مباشرة علي اليسار أو اليمين.
وحتي إن أدركنا أننا عالقون وأننا نحتاج إلي بعض المساعدة، فإن الأشخاص الذين نلجأ –إليهم – العائلة والأصدقاء ورؤساء العمل المتفهمين والأطباء النفسيين – لا يكونون متعاونين دائماً؛ فهم لديهم مشكلاتهم وقيودهم ومشاغلهم الخاصة.
في الوقت نفسه، فإن ثقافتنا الاستهلاكية تعزز الحجة التي تقول إنه باستطاعتنا السيطرة علي أغلب الأمور التي تضايقنا ومعالجتها، وإننا يجب أن نتخلص من تلك الأمور التي لا نستطيع السيطرة عليها أو نستبدلها: هل أنت غير سعيد في علاقتك العاطفية؟ خض علاقة أخري. ألا تنتج بالقدر الكافي؟ هناك تطبيق إلكتروني لمعالجة ذلك. حين لا يعجبنا ما يجري في بيئتنا الداخلية، نطبق الأفكار ذاتها؛ إذ نذهب للتسوق أو نذهب إلي معالج جديد أو ننوي معالجة أحزاننا أو إحباطنا الشخصي و"نفكر بإيجابية" ببساطة.
للأسف، لا تنجح مثل تلك الأمور بما يكفي؛ فمحاولة تعديل الأفكار والمشاعر المزعجة تقودنا إلي الهوس بها بشكل غير مفيد، بل إن محاولة كبتها تقودنا إلي الإصابة بمجموعة من الاضطرابات بدءاً من إدمان العمل وحتي إدمان الحبوب المهدئة. أما محاولة تغييرها من كونها سلبية إلي إيجابية، فهي طريقة شبه مؤكدة للشعور بأننا صرنا أسوأ.
يلجأ العديد من الناس إلي كتب أو دورات التنمية البشرية لمعالجة مشاعرهم، لكن العديد من تلك البرامج تفهم التنمية البشرية بصورة خاطئة تماماً، فالبرامج التي تحث علي التفكير الإيجابي غالباً ما ثبت فشلها؛ فمحاولة فرض الأفكار السعيدة علي الفرد تعد أمراً غاية في الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً؛ لأن القليل من الناس يمكنهم كبح أفكارهم السلبية واستبدالها والإتيان بأفكار أكثر سعادة، كما تفشل هذه النصيحة في إدراك الحقيقة الأساسية التي تفيد بأن: مشاعرك السلبية المزعومة غالباً ما تعمل لصالحك في واقع الأمر.
في الحقيقة، السلبية أمر طبيعي، إنها حقيقية أساسية؛ فنحن مهيأون للشعور بالسلبية في أوقات معينة؛ حيث إنه ببساطة جزء من الطبيعة الإنسانية. أما اهتمامنا البالغ بالتمتع بالإيجابية فهو مجرد طريقة أخري تفرط من خلالها ثقافتنا في المعالجة الشكلية للتقلبات الطبيعية التي تطرأ علي مشاعرنا، وغالباً ما يستخدم المجتمع الطريقة ذاتها للإفراط في معالجة مشكلات الأطفال صعبي المراس والنساء ذوات التقلبات المزاجية.
وعلي مدار الأعوام العشرين الماضية ومن خلال قيامي بتقديم الاستشارات، والتدريب، وإجراء الأبحاث، اختبرت مبادئ المرونة العاطفية وعدلتها بما يساعد كثيراً من العملاء علي تحقيق إنجازات مهمة في حياتهم. ومن بين هؤلاء العملاء جاءتني أمهات كن يشعرون بأنهن مكبلات ويكافحن في تسيير الأمور متنقلات بين متطلبات العائلة والعمل؛ وسفراء من الأمم المتحدة كانوا يكافحون لحماية الأطفال في البلدان التي تعاني الاضطرابات؛ ومديرون لشركات كبري متعددة الجنسيات؛ وأشخاص كانوا يشعرون ببساطة بأن الحياة لديها الكثير لتمنحهم إياها . منذ فترة ليست بالبعيدة، نشرت بعضاً من استنتاجاتي التي توصلت إليها من خلال ما سبق في مقالة ظهرت في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو ، ووصفت فيها ميل معظم عملائي تقريباً – وأنا من ضمنهم – إلي أن نكبل أنفسنا بأنماط جامدة وسلبية. بعدها وضعت نموذجاً لتطوير المزيد من المرونة العاطفية للتخلص من مثل هذه الأنماط وإحداث تغييرات ناجحة ودائمة. ظلت هذه المقالة قائمة المقالات الأكثر قراءة بالمجلة لشهور، وخلال فترة قصيرة حملٌ نسختها الإلكترونية حوالي ربع مليون شخص – وهو يساوي القدر نفسه من معدل شراء النسخ المطبوعة لهذه المجلة. وقد أعلنت المجلة مقالي بمثابة "الفكرة الأكثر براعة لذلك العام"، واختارتها العديد من المطبوعات مثل وول ستريت باعتبارها "الذكاء العاطفي المتطور"، فهي فكرة عظيمة ستغير من طريقة تفكير المجتمع بشأن المشاعر. إنني لا أذكر ذلك للتباهي، بل لأن رد الفعل علي تلك المقالة جعلني أدرك أن الفكرة لمست وتراً حساساً؛ فملايين الناس، علي ما يبدو، يبحثون عن مسار أفضل.
يحتويي هذا الكتاب علي نسخة أكثر تفصيلاً وإسهاباً من البحث والنصائح التي قدمتها في مقالي بتلك المجلة؛ لكن قبل أن أبدأ بذكر التفاصيل الجوهرية، دعني أُعطكَ نظرة عامة علي الصورة الشاملة كي تري الطريق الذي نحن بصدده.
المرونة العاطفية هي العملية التي تسمح لك بالتواجد في اللحظة المناسبة وأن تغير سلوكياتك أو تبقي عليها للعيش بما يتوافق مع نياتك وقيمتك. لا تتعلق العملية بتجاهل المشاعر والأفكار المعقدة، بل تتعلق بالاستمرار في تحرير هذه المشاعر والأفكار، ومواجهتها بشجاعة وتعاطف، ثم تخطيها لتحقيق الإنجازات الكبري في حياتك.
تتلخص عملية اكتساب المرونة العاطفية في أربع نواح أساسية:
الحضور
قال وودي ألات ذات مرة إن 80% من النجاح يكمن ببساطة في الحضور، وفي سياق هذا الكتاب، تعني كلمة "الحضور" مواجهة أفكارك ومشاعرك وسلوكياتك طواعية وباهتمام وبشعور من التعاطف. بعض هذه الأفكار والمشاعر يكون وليد اللحظة، بينما يكون بعضها الآخر مجرد أفكار ومشاعر قديمة تسيطر علي عقلك مثل أغنية للمغنية بيونسيه تحاول إخراجها من ذهنك. علي أية حال، سواء كانت هذه تأملات دقيقة من الواقع أم مجرد ضلالات، فإن هذه الأفكار والمشاعر هي جزء من ماهيتنا، ويمكننا أن نتعلم التعامل معها والمضي قدماً.
المراقبة من بعد
العنصر التالي، بعد مواجهة أفكارك ومشاعرك، هو مراقبتها والانفصال عنها لتراها علي طبيعتها – وهي أنها مجرد أفكار ومشاعر. وبقيامنا بذلك، نضع المسافة المفتوح والمحايدة التى ذكرها فرانكل بين مشاعرنا وطريقة الاستجابة لها، كما يمكننا أيضاً تمييز مشاعرنا المعقدة كوننا نمر بها، وكذلك العثور علي العديد من الطرق الملائمة للستجابة لها. تحمينا المراقبة من بعد من سيطرة تجاربنا العقلية العابرة علينا.
تعني النظرة الشاملة التي نكتسبها عبر المراقبة من بعد، أننا نتعلم النظر إلي أنفسنا كما ننظر إلي رقعة شطرنج مليئة بالاحتمالات، بدلاً من النظر إلي كل قطعة شطرنج في الرقعة علي حدة، مقتصرين علي حركات شائعة بعينها.