انظر إلي الأمر بهذه الطريقة، عندما وُلدنا، كان معظمنا مغامرين يتسمون بالجرأة والمجازفة، ويجب أن نكون كذلك؛ فكل شيء كان مجهولاً ومحفوفاً بالمخاطر، ومهما كان ما نفعله، فهو بالتأكيد شيء جديد علينا ومملوء بالشك وعدم اليقين، فالحياة بمثابة مغامرة نخوضها، نتعرض فيها لمواقف غير متوقعة ويطلب منا التصرف واتخاذ قرارات تنقلنا إلي المرحلة التالية من تلك المغامرة، فخوض اختبار في المدرسة هو قرار، والتقدم إلي وظيفة قرار، وكذا اختيار مطعم لتناول العشاء في أول نزهة مع زوجتك. وعندما كنا أطفالاً، كانت القرارات مختلفة؛ حيث كانت تتضمن طريقة تكديس قطع المكعبات البلاستيكية، ومحاولة السير بدلاً من أن نحبو. وكنا أكثر جرأة وإقداماً علي المخاطر في تلك السن الصغيرة، فكنا نتخذ الكثير من القرارات في الكثير من الأمور. لماذا؟ لأننا لم نكن نخاف شيئاً ولم يكن لدينا ما نخسره، وكنا جاهزين لإثارة إعجاب الآخرين. وإذا كانت النتيجة لا ترضينا، فلا بأس في ذلك؛ لأننا يمكننا أن نحاول مرة أخري بكل بساطة.
وبينما نكبر يدرك الكثير منا إمكانية الخسارة والفشل، ولا يعجبنا ذلك كثيراً. وفي بعض الأحيان ينفد مخزون الشجاعة لدي البعض بدرجة بالغة؛ ما يجعلهم لا يقدمون علي المجازفة إلا فيما ندر، ويلتزمون بفعل الأشياء التي يعرفونها ويثقون بأنهم سيحققون فيها النجاح. وأنا أعرف الكثير ممن يشعرون بالإحباط لعدم قدرتهم علي المخاطرة، ويمكن أن يصيح هذا موهناً ومؤذياً لجوانب عدة في حياتهم، بدءاً من العلاقات الشخصية إلي قبول وظيفة، ومن الالتزام بحمية غذائية إلي شراء منزل. وعندما يبدأ مخزون الجرأة والشجاعة المتاحة في التقلص، يزداد خوفنا ونبدأ الإفراط في التفكير، والمبالغة في تعقيد الأمور، ما يؤدي في نهاية المطاف إلي شل حركتنا بسبب التعقيد المتزايد للأمور والأعذار غير المنطقية في بعض الأحيان، التي تجعلنا ننسب من المشاركة في مغامرة الحياة.
وبعد ذلك، يتحول الكثير منا إلي مشاهدين، نسترق النظر إلي مغامرة الحياة، وهذا هو الوقت الذي نبدأ فيه اعتقاد أنه من المؤكد أن الآخرين لديهم بعض الأسرار الاستثنائية، أو السمات الخارقة المحجوبة عنا؛ في حين أنه كثيراً ما يتضمن الأمر المجازفة فحسب.
كنت أستمع مؤخراً إلي السير" ريتشارد برانسون" وهو يتحدث عن حياته ونجاحاته وإخفاقاته. وأول شيء ستلاحظه عن " ريتشارد" هو حماسه الاستثنائي للحياة؛ فهو دون شك شخص متفائل بطبعه. وما أثار اهتمامي هو إدراكه الواضح لمسألة الفشل؛ وقد أبرز هذا الأمر عندما تحدث عن التراجع الذي تحول في النهاية إلي إفلاس لشركة فيرجين للموسيقي: فيرجين ميجا ستور . حيث سقطت في نهاية المطاف في الاختبار أمام آي تيونز ووسائل الاعلام الرقمي. وتحدث عن الكفاح للحفاظ علي استمرار الشركة بأقصي جهد أمكنه بذله هو وفريقه، حتي الدقيقة الأخيرة، وقيامهم بمنح أقصي طاقة ممكنة لذلك الأمر.
ولكن جهودهم فشلت في نهاية المطاف، وقد قال الرجل ذلك، وقال إن الأمر الأكثر أهمية هو معرفة متي يجب التوقف عن المحاولة، ويجب حينئذ أن تبتكر شيئاً جديداً، وتنفض الغبار عن نفسك، وتكرر المحاولة مجدداً. وقال إنه لم يحبس نفسه عند الفشل، بل بذل طاقته علي الفور في تأسيس شركتي فيرجين موبايل وفيرجين ميديا . ومن الواضح الآن أن" برانسون" يتسم بالشجاعة والقدرة الكبيرة علي المجازفة. ويمكن للبعض أن يقولوا: حسناً، من الطبيعي أن يجازف، أليس كذلك؟ فهو مليونير، ورمز عالمي. ولكنه لم يولد هكذا علي الرغم من ذلك ، واستغرق الأمر الكثير والكثير من المحاولات والمجازفات لكي يبدأ مسيرة النجاح ويواصلها. ما حجم المجازفة التي تطلبها الأمر ليستأجر أول طائرة، ومقدار الثقة بأنه قادر علي توفير العملاء ليجعل الأمر مربحاً؟ أو حجم المجازفة ومقدار الثقة لشراء أول طائرة مستعملة من طراز بوينج747، وإيمانه بأنه يستطيع منافسة شركة بريتيش آيروايز العملاقة، وتأسيس شركة طيران ناجحة من الصفر بينما فشل الآخرون في تحقيق ذلك مؤخراً؟
الكثيرون الذين يقابلون" برانسون" يصفونه بأنه متحمس " كالأطفال ،وهذا حقيقي، إنه يتمتع بحماس طفولي وهذا يعني امتلاكه صفة المجازفة.
وبشكل رمزي، تعلمنا منذ أن كنا صغاراً جداً أنه لكي نظهر بمظهر ذوي السلطة والأشخاص الناجحين، يجب أن نرتدي ملابس رسمية: بذلة وقميصاً مكوياً وربطة عنق.
ولكن" برانسون" لا يفعل ذلك؛ إذ يبدو أنه يخرق هذه العادة؛ ولكنني أعتقد أنه يتجاهل الكثير من الحواجز والتعقيدات التي نقيمها حولنا، ويتجاهل المفهوم الشائع عن النجاح وطبيعته.
وعندما سئل عن نجاح شركته، كانت أفكاره رائعة من حيث بساطتها، ويمكن تلخيصها علي النحو التالي:
يجب أن تكون لديك فكرة عن خدمة أو منتج، علي ان تكون الفكرة أو المنتج أفضل بشكل ملحوظ مقارنة بأي شيء موجود بالفعل في السوق .
ويجب أن تجمع الأشخاص المناسبين حولك؛ وهم الأشخاص الذين يتمتعون بالسمات المناسبة، وبالمهارات التي لا تتمتع أنت بها . ويجب أن تهيئ أجواء يشعر فيها الناس بالثقة، والرعايةن والقدرة علي الاسترخاء والتحلي بالصدق.
(من المثير للاهتمام أن يكون السبب الذي جعله يرفض عروض تقديم البرنامج التليفزيوني المشهور عدة مرات هو ببساطة أنه لا يؤمن بعقلية التعيين والفصل، أو بمفهوم القيادة عن طريق الخوف ) The Apprentice
وأخيراً: يجب أن تحرص علي أن يكون المال الذي تجنيه أكثر من المال الذي تنفقيه.
أنا أحب مراقبة الناس ، وعندما كنت في منتدي أعمال لندن الذي سمعت فيه السير" ريتشارد" وهو يتحدث للمرة الأولي كان هناك الكثير جداً من خبراء الأعمال بين الحضور؛ بعضهم من أساتذة الجامعات التي تقدم دورات تعليمية عن الاعمال التجارية وريادة الأعمال، وبعضهم من مدربي الأعمال التجارية وعدد من المديرين في المناصب الادارية الوسطي. وعندما كان يتحدث، بدا الارتباك الشديد علي بعض هؤلاء الحاضرين؛ حيث شعر البطن بالإحباط فمنهم من شعر بذلك لنقص التفاصيل والتحليل، ومنهم من كان شعوره دافعه هو افتقار" ريتشارد" للصرامة الواضحة وللتعقيد؛ نعم، التعقيد!
والمؤسف، أن تلك السمات صارت السمات الاعتيادية أو الافتراضية؛ حيث يجب أن تكون الأمور معقدة، ولا يمكن أبداً أن تكون واضحة وبسيطة!
وربما لا تكون هذه السمات هي السمات الإفتراضية دائماً، ولكن الأمر يستحق التفكير فيه علي الرغم من ذلك، اليس كذلك؟ وربما يملك الأطفال الصغار الجواب بالفعل؛ فالطفولة، بلا شك، هي الجزء الأكثر نجاحاً في حياتنا، حيث نتعلم، وننمو، ونتطور بمعدلات هائلة. وأما معظمنا فكثيراً ما يحنوُن إلي هذه الأوقات، ونتذكر الأوقات السعيدة، والضحك، والتعلم، واللعب. وهناك كثيراً منا يرون هذه الفترة هي الأقل ضغوطاً والأكثر بساطةٌ...