يمثل الإفراط في التفكير مشكلة حقيقية.
لقد تحدثنا معاً عن عدة أشياء، ورجعنا بالكثير من أفكاره إلي الأساسيات. أنا أتذكره وهو يخبرني بمدي حبه رائحة العشب المجزوز حديثاً، وحبه اللعب في يوم صيفي دافئ، وصوت الطيور علي الأشجار، ورائحة المعدات والجلد والخشب.
لذا أخذ يلاحظ تلك الأشياء البسيطة بدلاً من التوجه للملعب مشغولاً بالتفكير في نصائح الجميع وتوقعاتهم. وأخذ يركز علي نفسه، ويثق بغرائزه مرة أخري، وهو الأمر الذي بدوره سمح له بأن يكون أكثر موضوعية في تأملاته، وأكبر قدرة علي استيعاب النصائح وفقاً لإحساسه الخاص بما يناسبه.
وشعر بالاسترخاء، وأخذ يشعر بالثقة في غرائزه مرة أخري، وبدأ إعادة التواصل مع موهبته الخاصة.
ولقد كان التأثير عميقاً؛ إذ لم يفده الأسلوب الجديد في تجديد عقده فقط، بل أصبح الآن في ذروة حياته المهنيه وقمة تألقه، وصار يبلي بلاءً حسناً في طريق تحقيق الإمكانات التي كان يُعرف بها وهو شاب.
يصبح نجاحنا أو تصورنا الخاص للنجاح مهيمناً للغاية علي أفكارنا. ولكن، هل توقفنا مرة للتفكير في مصدر هذه التصورات؟ وكم عدد المرات التي نفكر فيها فيما إذا كانت هذه التصورات خاصة بنا فعلياً؟
النجاح = السعادة؟
لديٌ قريبة أكبر مني سناً، ولدت في زمان ومكان مختلفين. وقد كانت موسيقية ومؤدية موهوبة، وتحلم بالعمل في التمثيل والغناء. وكان والدها، مثل غالبية الآباء والأمهات الشغوفين برؤية الأبناء يحققون نجاحاً في حياتهم، قلقين من طموحها، ويرجع ذلك بشكل جزئي إلي أن هذا الطموح لم يكن يناسب امرأة شابة من الطبقة الوسطي؛ فقد أراد والدها أن يرياها متزوجة من شاب ناجح ذي إمكانيات، حتي يتمكنا من بناء حياة ناجحة وسعيدة أيضاً.
وكانت هذه السيدة حسنة التربية؛ لذا فقد خضعت لقرار والديها، فتزوجت في سن صغيرة، واستقرت، وبأت تكوين أسرة. وكان لديها بيانو، وكثيراً ما كانت تعزف عليه، كما أنها ألفت الموسيقي الافتتاحية الخاصة بحفل زفافها.
ولكن لم تسر حياتها كما كانت تتمني؛ فقد أنجبت طفلين، وبعدها مضت في حياتها ولم تحظُ بالسعادة إلا حينما طُلقتْ وتزوجت من رجل آخر،ولكن دائماً ما كانت تحزن عندما تفكر فيما كان يمكن لها أن تحققه في حياتها.
وهي تستمد سعادتها من رؤية طفليها وهما يتبعان مساراتهما الخاصة، وكانت دائماً م تحمي بشغف حقهما في تحديد نجاحهما الخاص، وكانت دائماً ما تساندهما عند فشلهما، وهذا يتطلب شجاعة كبيرة من الأم.
أشكرك يا أمي!
ولا يعد الفشل والخوف منه موضوعاً جديداً لنناقشه، ومع ذلك، فلا يمكن تجاهله، فعندما كنا أطفالاً صغاراً. لم نكن نري أن الفشل شيء سيء، ولكننا كنا نعتبره مجرد شيء عادي؛ فنحن نسقط، ثم ننهض، ونحدث فوضي، ثم نرتب الفوضي، وكنا عندما نسيء نطق كلمة أو جملة، نضحك ونحاول مرة أخرى.
هناك فشل، وهناك فشل " جسيم "
عندما كنا نقترف خطأ ما، ونحن صغار جداً، كان الناس يضحكون علينا ، وكنا نحن ايضاً نضحك، وكان الأمر ممتعاً؛ وكنا نشعر بالراحة، فلم تكن ثمة وصمة عار في الأمر؛ لذلك كنا نستمتع ونتعلم، ونفكر في إستراتيجية أخري، ونحاول مجدداً.
وعندما كبرنا قليلاً والتحقنا بالمدرسة، كنا لا نزال محتفظين بالعقلية نفسها؛ فكنا نتحين الفرص لنجرب فعل الأشياء، ونندمج في التجارب الجديدة، ونجيب عن الأسئلة.
وبعد ذلك بوقت قليل، أصبحنا نأخذ مكافآت علي فعل الأشياء الصحيحة، ونُعاقب في بعض الأحيان علي فعل أشياء خاطئة؛ حيث يحصل المتميزون في اختبار المدرسة علي الثناء والمدح، ويحصدون الشهادات واللصقات، ويتولون مسئوليات داخل الفصل الدراسي؛ ومن ناحية أخرى، كانت هناك تلك الأيام التي يتم فيها استدعاء أحد الوالدين لتشاور حول مستواك المتدني في الدراسة، حيث كان يتم عرض كتب التمرينات الخالية تماماً من الإجابات للدلالة علي عملك غير الجاد مطقاً.
ويستطيع الأذكياء منا تعلم قواعد اللعبة بسرعة شديدة؛ حيث يجب أن نكون "صائبين" لأن الصواب هو دلالة الذكاء، ولكن فعل الأشياء بشكل خاطيء يعد شيئاً غير جيد، ويجب تجنبه بأي ثمن.
وبينما نستمر في النمو، يقل اندماجنا في المدرسة في الأشياء التي لا نشعر بثقة حول درجة إتقانها، ونختبىء خلف زملائنا في الدروس والمواد الدراسية التي لا نفهمها تماماً، ونترك " المتفوقين" يجيبون عن الأسئلة، ويتلقون ميداليات المجد. ونشعر بأنه لا بأس في ذلك أيضاً؛ لأننا علي الأقل لم نحاول ونفشل. وفي النهاية، نجتاز فترة الدراسة في المدرسة، التي كانت تتضمن الأسئلة المستمرة، والقلق المرتبط باحتمالية تلقي المهانة بشكل يومي، لكن تبقي ندوب تلك المرحلة محفورة فينا. ولن تشفي هذه الندوب بسرعة، وهناك الكثيرون ممن لا يتخلصون من تلك الندوب أبداً.
وبعد أن نبدأ العمل، ونغرق أنفسنا فيه، ونؤدي وظائفنا وفقاً لأقصي ما تتيحه قدراتنا، ثم نجد أنفسنا في اجتماعات يرأسها مشرفونا، ونجد أنهم يسعون إلي معرفة آرائنا بخصوص أفكار وإستراتيجيات جديدة، أو تدفقات البيانات؛ لكن الكثير منا تعلم كيف يلعب لعبة النجاة بشكل جيد جداً؛ فقد تعلمنا ونحن صغار أنه عندما توجه إلينا أسئلة، فإن مهمتنا هي إيجاد الإيجابات الموجودة بداخل رأس المعلم. ومثلما يفعل الدجالون والمشعوذون، نتفحصهم، ونراقب تعبيرات الوجوه، ولغة الأجساد، وننتظر الأدلة حتي نتوصل إلي الإجابات التي تدور في رءوسهم، ويمكننا حينها أن ننطق بالجواب الصواب. وها نحن في غرفة الاجتماعات، بعد أن صرنا في تمام النضج، ما زلنا نفعل الشيء نفسه. والمثير للسخرية هو أننا نشعر نحن والقائمون علي الاجتماع بالإحباط من نقص الأمانة والافتقار إلي الحيوية. والأمر المحزن أنه كثيراً ما نمارس الألعاب نفسها في حياتنا الشخصة.