"إن أي شخص يمتلك قدراً من الذكاء يمكنه أن يدفع الأمور لتبدو أكبر حجماً، وأكثر تعقيداً، وأشد عنفاً، بينما يتطلب الأمر لمسة من العبقرية – وكثيراً من الشجاعة – لدفعها إلي الاتجاه المعاكس".
إرنست إف. شوماخر
كنت مؤخراً في سياتل لإنجاز بعض مهمات العمل، وفي يوم العطلة، زرت أشهر متاجر القهوة: متجر ستاربكس الرئيسي بجوار سوق بايك بلايس. وصلت في منتصف فترة بعد الظهر، عندما كان الطابور طويلاً، ويمتد إلي خارج الباب، ولا ينتهي إلا بعد بنايتين علي الأقل. وفي الخارج، كان هناك أحد الرجال يلعب علي آلة البانجو، وكانت رائحة القهوة المحمصة الطازجة المتزجة مع روائح السوق الأخرى تكاد تذهب بالعقل. وكلما تحرك الطابور إلي الأمام، واقترب أكثر من المتجر، يزداد قلقي. الأمر ببساطة هو أنني لست ذوقاً للقهوة؛ ومع أنني أحبها، فإنني أشربها سوداء ودون سكر: قهوة بسيطة. وعندما انتهبت إلي المحادثات التي تدور حولي، سمعت الناس يناقشون الطلبات التي سيأخذونها من المحل التاريخي. ولم تكن لديً أية فكرة عما يتحدثون عنه:" كوب موكا فينتي رباعي نصفه عادي، والنصف الآخر منزوع الكافيين، دون رغوة، ومخفوق بقطعتي سكر حمية، وثلاث دفقات خفيفة من النعناع".
هل هم جادون؟
ما المشكلة في تناول كوب بسيط من ... القهوة؟
لقد وُلدنا بُسطاء؛ فكنا نعتمد علي الفطرة وكانت تصرفاتنا عفوية وغير معقدة، وهذا ما يبعث علي السرور، كما أننا أيضاً كائنات بدائية. وتنطوي احتياجاتنا علي الحصول علي الغذاء وتلقي الرعاية. وعندما ولدنا بشكل إعجازي وتفتحت عيوننا علي الحياة، كنا لا نعرف أي شيء.
ولكن عندما تتخيل مدي تعقيد تلك الأيام، والأسابيع، والشهور القليلة الأولي، ستجدها حقاً مذهلة للغاية؛ فنحن نضطر إلي فهم كل شيء، ويتعلم أغلبنا بمعدل مدهش، بدءاً من لغة الجسد وصولاً إلي التناغم الصوتي، وتعبيرات الوجه والأصوات والمشاهد والروائح. ونتعلم في وقت لاحق كيف نتحدث ونمشي. هل نحن ناجحون أم ماذا؟ نحن مذهلون.
لقد قضيت معظم أيام حياتي بين الأطفال منذ وصلت إلي مرحلة النضج، حيث إن لدي طفلين وحظيت، لأكثر من 15 عاماً، بشرف التدريس في المدارس التي تحتشد بالصغار الذين تتراوح أعمارهم بين ثلاثة أعوام وأحد عشر عاماً.
وعلي مدار السنوات العشر الأخيرة أو نحو ذلك، قضيت الكثير من وقتي في "عالم الكبار" في بعض المؤسسات، والشركات، والفرق الرياضية الكبيرة جداً. وعندما تركت عالم التدريس للمرة الأولي، كنت أري أن هذه الأماكن الكبيرة جداً. وهي أماكن مروعة ومخيفة للغاية. وكنت دائماً مغموراً بالشعور بعدم الأهلية؛ أعتقد أنني كنت أمر بفترة من افتقاد الثقة بالنفس، وكنت أشعر بما يشبه شعور الطفل الذي خرج فجأة إلي العالم، وفارق دفء وأمان رحم أمه المتمثل في الفصول الدراسية وبوابات الملاعب. إنه عالم مملوء بالضوضاء والسلوكيات التي تبدو غريبة في ظاهرها. وشعرت فترة من الوقت بالقلق علي صحتي العقلية ووجاهة الرؤي ووجهات النظر الخاصة بي، وأخذت أتساءل ما إذا كنت افضل حالاً في صحبة الأطفال الصغار، وحينها بدأت أطرح أنواعاً مختلفة من الأسئلة. وبدأت استكشاف كم من الأشياء التي نحتفظ بها حولنا، كبالغين، يساعدنا حقاً علي المضي في حياتنا، وكم منها يشكل عبئاً علينا، وما مدي تأثير ضغط الأقران وتصوراتنا عن الذكاء والتسلسلات الهرمية في الطريقة التي نري بها أنفسنا، وإمكاناتنا، والعالم المحيط بنا.
لقد كنت مذهولاً بسبب التصور الذي يحملة البالغون عن النجاح، والأهم من ذلك، الأعتقاد بأن النجاح يجب أن يكون معقداً بطريقة ما، وأن يقتصر تحقيقه فقط علي بضعة أناس خارقين ونادرين.
ويبدو أن البساطة هي شعار عصر ما بعد الأزمة الاقتصادية، ويبدو أن الأزمة التي حدثت في بداية هذه الألفية أجبرت الناس علي الخروج إلي الهواء، واستنشاقه وإلقاء نظرة متفحصة حولهم قبل أن يعود الكثيرون إلي الهواء، واستنشاقه وإلقاء نظرة متفحصة حولهم قبل أن يعود الكثيرون إلي النظر تحت أقدامهم، ويسلموا للاعتقاد القائل إنه من الأفضل لهم أن يتمسكوا بما يعرفونه ويفعلونه؛ في حين أنني أريد أن نأخذ فكرة التفكير البسيط علي محمل الجد.
بالنسبة إلي طفل صغير، النجاح هو تناول الطعام عند الشعور بالجوع، وتغيير الحافاضات عند اتساخها، وتعلم كيفية الذهاب إلي هذا الجسم الغريب الموجود في الجانب الآخر من عرفة المعيشة الذي يشعر بفضول تجاهه. ثم يصبح النجاح هو بناء برج من المكعبات وعندما ينهار يجعل الناس يضحكون، وبعد أن ينهار يعود ليبني آخر بحيث يظل ثابتاً، أو تلوين صورة كان قد رسمها وهو مستمتع جداً، وتم لصقها بفخر علي باب الثلاجة. كان النجاح سهلاً حينها، فنحن بدأنا بتلقائية في فعل الأشياء، ولم نكن نعرف أن هناك شيئاً لا يمكن فعله، أو ينبغي فعله. ولم نكن نعرف أنه لا يمكننا أن نرسم ببراعة مثل جارتنا "جيني" ، أو مثل " بيكاسو"؛ ولم نكن نعرف أنه لا يمكننا أن نغني ببراعة صديقنا "سام " ، أو مثل المطرية "باربرا سترايساند"، وعندما تعلمنا المشي، لم يخبرنا أحد بأننا لا نستطيع التحرك برشاقة العداء الأسطوري "يوسين بولت" أو سرعته، أو برشاقة "سيلفي جيليم" .وعندما بدأنا تعلم الأرقام، من كان يعلم أننا لسنا ففي براعة عالمة الرياضيات " أدالافليس" نفسها، أو العالم " آلان تورينج"؟
إن تصوراتنا عن النجاح وعن تعقيده يمكن أن تعوق تطويرنا لإمكاناتنا وإمكانية أن نتحسن ، والأهم من ذلك، هو أن هذه التصورات يمكن أن تقف في طريق سعادتنا، فبينما ننمو ونتطور، يحدث شيء ما علي طول الطريق يملأ الكثيرين منا بالشك؛ لقد التقيت بأناس كثيرين شعروا بأن الإحساس الشخصي بعدم الأهلية دفعهم إلي عدم السعي أبدً نحو تحقيق أحلامهم، وطموحاتهم، وإمكاناتهم. ولقد كنت واحداً من هؤلاء الناس لسنوات عديدة؛ فقد ارتدت مدرسة رفيعة المستوي، وتتمتع بسمعة جيدة فيما يخص مستوي التحصيل الأكاديمي والتميز الرياضي لطلابها. ولسوء الحظ، لم يكن مستواي الأكاديمي جيداً، ولم أكن متميزاً رياضياً. وعندما بلغت الثامنة عشرة من عمري، بدأت رحلتي في العالم، وهناك شعور عميق يصاحبني بأنني " متوسط وعادي القدرات " ، ولم يكن لديً قدر كبير من تقدير الذات؛ حيث كان مظهري متواضعاً، وذكائي متوسطاً، وكنت شخصاً عادياً، وغير مميز. وكنت أرهب المحيطين بي بسهولة، ولم يكن الأمر يتطلب الكثير من الجهد لجعلي أشعر بالرهبة؛ فالطريقة التي يتحدث بها الناس، والملابس التي يرتدونها، والسيارات التي يقودونها، والوظائف وأنماط الحياة، والكلمات التي يستخدمونها، والناس الذين يقضون الوقت معهم، كل هذا كان كافياً لجعلي أشعر بالرهبة. وحتي الآن، وعلي الرغم من عمري، وخبرتي، وإنجازاتي، فإنني أشعر بأنه يمكن لنجاح ومكانة الآخرين أن يجعلاني أشعر بالرهبة؛ ففي كل مرة أخطو باتجاه منصة لأتحدث، أو أمسك قلماً لكتابة شيء ما ، أتوقع من الخبراء أن يخبروني بأنني محتال، كما أن المواقف الجديدة التي تثير التحدي حتي إن كانت في بيئات عادية يمكن أن تشعرني بالتذبذب.
كل هذه دلالات علي ما أريد استعراضه في هذا الكتاب؛ وهو بشكل أساسي أمران، الأول هو الاعتقاد بأنك يجب أن تعرف كل شيء لكي تكون جديراً بحق، والثاني هو أنك إن لم تكن تعرف كل شيء، فليس لديك فرصة علي الإطلاق.
فلنعُد مرة أخري إلي ستاربكس دقيقة واحدة؛ إذ من المثير للإهتمام أن قصة تطور ستاربكس رائعة وبسيطة؛ حيث أسسه ثلاثة أصدقاء عام1971 ، وهما معلمان سابقان:" جيري بالدوين "و" زيف سيجل" بالاشتراك مع الكاتب " جوردون بوكر" ، وتمت تسميته ستاربكس باسم إحدي شخصيات رواية موبي ديك، وتم فتح المتجرلبيع حبوب القهوة عالية الجودة، ومعدات إعداد القهوة. وفي عام 1987، تم بيع المتجر إلي موظف سابق في الشركة وصاحب مقهي يدعى" هوارد سولتز" ،الذي رأي أن تنشيط سوق القهوة المتراجعة لن يكون عن طريق بيع حبوب القهوة ومعداتها، بل عن طريق بيع مشروب القهوة جاهزاً في الفنجان. وباقي القصة معروف كما يُقال؛ فلقد أدرك " هوارد" أنه في عالم يزداد تعقيداً، ويزداد الناس فيه انشغالاً، يريد الناس كوباً من القهوة يمكنهم تناوله في أي مكان ببساطة. وهذا هو موضوع هذا الكتاب؛ إنه يدور حول تطويرالذات الذي يمكنك الاستفادة منه في أي مكان علي غرار القهوة.
وأنا لا أدعي امتلاك جميع الإجابات والحلول لمشكلاتك، ولن أدعي ذلك؛ ولن أشوش عليك بذكر التجارب والأبحاث العلمية، ولا الكثير من الحقائق والأرقام؛ فأنا أريدك أن تفكر في نفسك، من أنت، وكيف تعمل، ومدي التعقيد الذي أحدثته في رحلتك. وأريد أن أكون بمنزلة العقار المطهر لعقلك عن طريق إثارة تفكيرك وتأملاتك؛ حتي تتمكن في نهاية المطاف من رؤية الأشياء ببساطة أكثر، وتجعل رؤيتك للنجاح أقرب منالاً من خلال إزالة الشوائب من الطريق. وفي صفحات هذا الكتاب، سوف أشارككم الأفكار والقصص والتأملات الخاصة بي، وسأقترح نقاطاً للتفكير والتطوير.
كان من عاداتي أن أقول لتلاميذي السابقين إن الفرق بين الحلم والطموح هو أن الطموح لديه سلم يساعدك علي الصعود إليه، بينما الحلم جميل ولكنه بعيد المنال دائماً.
وسوف أستكشف السلوكيات وأساليب التفكير التي سوف تساعدكم علي صنع السلم درجة بعد أخري. وسوف آخذكم في رحلة نعود فيها إلي استكشاف سمات الطفولة المبكرة، ونحتفل بالبدائية، ونحتفي بالأيام التي كنا نتصرف فيها بشكل غريزي، التي كنا دائماً ما نشعر فيها بالدهشة والتعجب، والفضول، وكنا فيها دائمي الاستكشاف، وكنا نخاطر، ولم نكن نشعر فيها بالخوف؛ تلك السمات البسيطة التي شهدت مرورنا بأعظم لحظات التطور في حياتنا. وسوف أريكم كيف يمكنكم استغلال إمكاناتكم، وتحقيق نجاح أعظم في حياتكم، من خلال إعادة اكتشاف تلك السمات هيا بنا نبدأ.