كلما تحملت المزيد من المسئولية في العمل والحياة، زاد تكرار ما تواجهه من مشكلات المنطقة الضبابية، وهذه المشكلات تأتي في جميع الأشكال والأحجام- على سبيل المثال، بعضها كبير، ومعقد، وغير متكرر- في وقت لاحق في هذا الكتاب، سنبحث بالتفصيل موقفا واجهه الرئيس التنفيذي لشركة صغيرة للتكنولوجيا الحيوية عرف أن أحد الأدوية الجديدة الذي تشتد الحاجة إليه قد يكون متورطا في مرض دماغي نادر جدا، لكنه فتاك. كان عليه أن يقرر ما يجب القيام به، على الرغم من أنه افتقر إلى حقائق حرجة أو حتى تعريف واضح للمشكلة.
في المقابل، هناك مشكلات منطقة ضبابية أخرى تكون على نطاق صغير، لكن هذا لا يجعلها سهلة أو غير مهمة. في فصل لاحق، سنبحث موقفا واجه مديرة كبيرة في شركة متوسطة الحجم. كانت تشارك مساعدة تنفيذية مع ثلاثة مديرين. عملت المساعدة في الشركة لأكثر من ثلاثين عاما، وكان لديها سجل قوي، لكن عملها تراجع بشدة لعدة أشهر. لم يكن أحد يعرف السبب.
المديرون الآخرون الذين اعتمدوا عليها أرادوا السماح لها بالذهاب، لكن المديرة الكبيرة كانت لديها مخاوف جدية من أن نهج الموارد البشرية الاعتيادي -في منح المساعدة أسبوعين كإشعار وحزمة تعويض نهاية خدمة صغيرة- قد يسبب لها ضررا لا رجعة فيه. لكن تلك المخاوف لم تخبر المديرة الكبيرة شيئا عما يجب أن تفعله بخصوص المساعدة، والعمل الذي لا يتمإنجازه، أو بخصوص عدم موافقتها مع المديرين الآخرين.
ما تشترك فيه جميع المناطق الضبابية، سواء أكانت رئيسية أم ثانوية، هي الطريقة التي نعايشها بها. عندما تواجه مشكلة منطقة ضبابية، تكون قد قمت عادة بالكثير من العمل الصعب، بنفسك ومع أشخاص آخرين في الغالب، لفهم إحدى المشكلات أو المواقف. تكون قد جمعت كل البيانات، والمعلومات، ومشورة الخبراء التي يمكنك الحصول عليها بشكل معقول. وتكون قد طلت كل شيء بعناية. لكن هناك حقائق مهمة لا تزال مفقودة، وأشخاص تعرفهم وتثق بهم لا يوافقون على ما يجب فعله- وتظل تعيد في عقلك مرارا وتكرارا ما يحدث حقا، وتفكر في الخطوات التالية الصحيحة.
يمكن أن تكون هذه المواقف فخاخا خطيرة، نسخا تنظيمية من حفر القطران البدائية التي ابتلعت النمور المخيفة ذات الأسنان المسننة. يمكنك بسهولة أن تغوص في منطقة ضبابية بينما تحاول معرفة ما يجري. أو حتى أسوأ من ذلك، يمكنك أن تضيع أو يصيبك العجز أمام التعقيدات والشكوك. من ناحيةأخرى، إذا تصرفت بسرعة كبيرة جدا، يمكن أن ترتكب أخطاء لها عواقب وخيمة: ويتأذى أشخاص آخرون ويعاني الأداء، وتتعطل حياتك المهنية.
المناطق الضبابية اليوم محفوفة بالمخاطر بشكل خاص، بسبب قوة مغرية من التقنيات التحليلية. العديد من المشكلات الصعبة التي تواجه المديرين والشركات الآن تتطلب تقنيات متطورة لتحليل كميات هائلة من المعلومات. إنه من المغري التفكير في أنه إذا كنت تستطيع فقط الحصول على المعلومات الصحيحة واستخدام التحليلات الصحيحة، يمكنك اتخاذ القرار الصحيح.
ويمكن أيضا أن يكون من المغري أن تختبئ من القرارات الصعبة، أو تكتم ممارسة السلطة من خلال إخبار الآخرين أن الأرقام تحكي القصة كلها، وأنه لا يوجد أي خيار حول ما يجب التفكير به أو عمله. لكن المشكلات الخطيرة عادة ما تكون ضبابية. الأدوات والتقنيات وحدها لن تعطيك إجابات. عليك أن تستخدم حكمك وتتخذ الخيارات الصعبة.
هذه الخيارات غالبا ما تأتي مع مخاطر عاطفية ونفسية خطيرة. عندما تواجه قرارات صعبة حقا، لن تكون هناك وسيلة للهروب من المسئولية الشخصية للاختيار، والالتزام والتصرف والعيش مع النتائج المترتبة على ذلك. طالب ماجستير في إدارة الأعمال وصف هذا التحدي بقوله: لا أريد أن أكون رجل أعمال يدعي أنه إنسان محترم. أريد أن أكون إنسانا محترما يدعي أنه رجل أعمال"٠
من ناحية أخرى، عند مواجهة هذه التحديات وحل إحدى مشكلات المنطقة الضبابية بنجاح، فأنت تقدم إسهامات مهمة حقا لمنظمتك، ولأشخاص آخرين، ولمهنتك، ولإحساسك بنفسك. المشكلات الصعبة والفوضوية، وعالية المخاطر يتم تفويضها لمناصب أعلى في المنظمات، وينتهي بها الأمر على مكاتب المديرين. عد للحظة إلى موقف الموظفة الأكبر سنا، واسأل نفسك ماذا كنت ستفعل. عمل مساعدتك كان يتدهور لعدة أشهر، وأنت لا تعرف السبب، وربما هي أيضا لا تعرف. القوانين، واللوائح، وسياسات الشركة تضع معايير لما يمكنك القيام به، لكنك لا تزال تواجه بعض الأسئلة الصعبة للغاية.
هل تجد وظيفة أخرى لها، في مكان ما في المنظمة. أم عليك إنهاء عملها؟ ما المبلغ الذي سوف تحصل عليه كتعويض لنهاية الخدمة وما نوعه؟ هل يمكنك أن تتعامل معها باحترام، وتعاطف، بينما أنت تحرمها من رزقها؟ كل هذه الأسئلة تمثل أسئلة إدارة صعبة، ويجب عليك الإجابة عنها بطريقة أو بأخرى. ووراء هذه القرارات قرار اجتماعي عميق، فوضك المجتمع لاتخاذه: نظرا لعمر هذه الموظفة وتدهور أدائها، قد تتخذ قرارا بأن حياتها العملية قد وصلت لنهايتها . باختصار، عند القيام بعمل جيد في حل مشكلة منطقة ضبابية مثل هذه المشكلة، فأنت لا تقوم بمهمة صعبة لمنظمتك فقط، لكن لأناس آخرين وللمجتمع الذي تعيش فيه.
في الوقت نفسه، عند التعامل بنجاح مع مشكلة منطقة ضبابية، فأنت تختبر وتطور مهاراتك كمدير. إن الاختبار الأساسي الذي يوضح ما إذا كنت مستعدا للمزيد من المسئولية في منظمة لا يتعلق بمدى إجادتك لإدارة المواقف الروتينية؛ بل بمدى كفاءتك في التعامل مع التحديات المهمة، والصعبة للغاية، وغير المؤكدة. وذلك لأن مشكلات المنطقة الضبابية هي جوهر عمل المدير. عند مواجهة هذه التحديات، تقوم ببناء تجربتك وثقتك، وتضيف سطورا إلى السيرة الذاتية غير الرسمية وغير المكتوبة التي تعمم داخل المنظمات، وتحدد من يحصل على الترقيات- المديرون الجيدون يتعرفون على الناس الذين يتعاملون مع مشكلات المنطقة الضبابية الصعبة بشكل جيد. وعندما تواجه هذه التحديات أنت أيضا، فإنك تصبح مديرا جيدا أنت نفسك، من خلال كونك القدوة للناس الذين يعملون لديك.
المناطق الضبابية هي في الأساس نسخ تنظيمية من عقدة جورديان الكلاسيكية: أي أنها تشابك كثيف من أمور مهمة ومعقدة، وغير مؤكدة. على هذا النحو، فإنها يمكن أن تكون من أصعب الأعمال التي يمكنك القيام بها كمدير، ويمكن أن تبدو وكأنها عبء ثقيل. وفي الوقت نفسه، مثل عقدة جورديان يمكن أن تكون تحديات جذابة تظهر لك وللآخرين ما أنت قادر على فعله. وفقا للأسطورة، انزعج الاسكندر الأكبر من عقدة جورديان لدرجة أنه سحب سيفه وشرحها . لكنك، كمدير، ليس لديك هذا الخيار. إذن ما أفضل طريقة للتعامل مع مشكلات المنطقة الضبابية التي تواجهها؟
الأسئلة الخمسة
الإجابة، في أقصر شكل لها، يمكن أن تقال في جملة واحدة: عندما تواجه مشكلة منطقة ضبابية في العمل، يجب أن تعالجها كمدير وتحلها كإنسان.
معالجة مشكلات المنطقة الضبابية كمدير لا تعني التصرف كرئيس أو موظف روتيني. ولا يعني امتلاك وظيفة معينة في هيكل تنظيمي. الإدارة هي بشكل أساسي طريقة استثنائية فعالة لإنجاز الأشياء، داخل وخارج المنظمات. إن الإدارة في جوهرها تعني ببساطة أن تعمل مع، ومن خلال، الآخرين لتحقيق شيء ما. الاقتراب من إحدى المناطق الضبابية كمدير يعني عادة العمل مع آخرين للحصول على المعلومات الصحيحة عن مشكلة ما، وتحليل البيانات بشكل مدروس وبدقة، والبحث عن حلول عملية للمشكلات.
لكن، مع المناطق الضبابية، هذه الخطوة الأولى ليست كافية. جمع المعلومات، والتحليل، والمناقشة لا يحل المشكلة. فما زلت لا تعرف ما عليك فعله. عندما يحدث هذا الأمر، سيكون عليك أن تقوم بخطوة ثانية: يجب أن تحل المشكلة كإنسان. هذا يعني التعامل مع المشكلة، ليس فقط كمحلل أو مدير أو قائد، بل كشخص. هذا يعني اتخاذ القرارات بناء على حكمك - ما يعني الاعتماد على ذكائك، ومشاعرك، وخيالك، وخبراتك الحياتية، وعلى مستوى أعمق، وحسك بما يهم بالفعل في العمل والحياة.
هذه الخطوة الثانية قد تبدو بسيطة، لكنها ليست كذلك. عادة ما نسمع أنه، عندما نواجه قرارات صعبة، يجب أن نتبع بوصلتنا الأخلاقية، أو نقلد قدوتنا الأعلى، أو نتبع التوجيه في بيان مهمة منظمتنا، أو نفعل ما ينجح في اختبار الصحيفة، ونسأل ما إذا كنا سنشعر بالراحة عند رؤية أفعالنا منشورة في الصحيفة، أو نفعل الشيء الصحيح ببساطة. لكن ليست هناك حلول سريعة لمشكلات المنطقة الضبابية. إذا كانت هناك، كنا سنضعها في بطاقات مغلفة في محافظنا.
لا تستطيع اللوغاريتمات حل مشكلات الإنسان الصعبة في الحياة والعمل.
المديرون الذين يواجهون هذه المشكلات يجب عليهم تعلم كل ما يستطيعونه من المعلومات، والبيانات، والخبرة، والتحليل الدقيق. ثم يجب عليهم أيضا التفكير بعمق -كبشر- عما يجب عليهم فعله حقا. حل مشكلات المنطقة الضبابية كبشر يعني أن تسأل نفسك الأسئلة الصحيحة، وتعمل بجهد على تطوير إجاباتك الخاصة. هذه الأسئلة هي الأدوات الضرورية للتشاور والحكم. هناك خمسة منها، وهذا الكتاب يشرحها بعمق.
لماذا تساعد هذه الأسئلة، وماذا يجعلها بهذه الأهمية؟ الأسئلة، في .جوهرها، اعتمد عليها المفكرون من الرجال والنساء لقرون عديدة، وعبر الكثير من الحضارات، عندما كان عليهم التعامل مع مشكلات عملية صعبة، ومعقدة، وغير مؤكدة. تعكس الأسئلة نظرة عميقة عن الطبيعة البشرية، وحياتنا العامة معا، وما تعنيه الحياة الجيدة. عند فهم الأسئلة بشكل كامل واستخدامها معا، تصبح الأسئلة أدوات قيمة لتوجيه حكمك عندما يجب عليك اتخاذ قرار بخصوص مشكلة منطقة ضبابية.
قد تتساءل إذا كانت هناك حقا بضعة أسئلة فقط تصل إلى مركن المشكلات الصعبة حقا. لماذا يجب أن يكون الأمر على هذا الحال؟ ليست هناك إجابة مؤكدة، لكن، كما سترى في الفصول التالية، هناك تفسير معقول، حتى ولو كان مثيرا للجدل. إنه يقول شيئين. أحدهما هو أننا كبشر لدينا طبيعة بشرية مشتركة. والشيء الآخر هو أن جميع المجتمعات البشرية قد واجهت نفس الأسئلة الأساسية عن المسئولية، والسلطة، والقيم المشتركة، واتخاذ القرار " واجتمعت على نفس المناهج الأساسية.
ليست هناك طريقة واحدة صحيحة للتعبير عن الأسئلة الخمسة. لقد قضيت أغلبية العشرين سنة الأخيرة محاولاً تطوير أدوات مفيدة عملية يمكن أن يستخدمها المديرون عندما يواجهون مشكلات صعبة في القيادة والمسئولية.
وقد نقحت نسخة الأسئلة الخمسة في هذا الكتاب، واختبرت من خلال عدد لا يحصى من الدورات التنفيذية ودورات الماجستير في إدارة الأعمال، والمقابلات البحثية، والجلسات الاستشارية مع مديرين مميزين، ومن خلال البحث والقراءة. متأثرا بروح الفيلسوف الأمريكي العظيم النفعي، ويليام جيمس، حاولت تطوير أدوات مفيدة يومية بدلاً من الحقائق العالمية، كما يمتد الحياد العملي على طول هذا الكتاب.
الأسئلة الخمسة هي:
ما صافي العواقب الفعلية؟
ما التزاماتي الأساسية؟
ما الذي سينجح في العالم على وضعه الحالي؟
من نحن؟
ما الذي يمكنني أن أعيش معه؟ من الطبيعي أن تتساءل لماذا قد تكون هذه الأسئلة مفيدة بشكل ملحوظ.
الإجابة هي أنها قد اجتازت اختبارا صعبا. اختبار يسأل إذا كانت هناك طرق للتفكير بخصوص القرارات الصعبة التي، على مر الزمن، شغلت العديد من العقول الأكثر حدة والقلوب الأكثر شغفا عندما كانوا يبحثون عن الطريقة الصحيحة لحل مشكلات صعبة للغاية. كما سترى، الأسئلة الخمسة، التي تم التعبير عنها بأشكال متنوعة، قد شغلت الفلاسفة، بداية من أرسطو إلى نيتشه، وكونفوشيوس، والمفكرين السياسيين، مثل مكيافيللي وجيفرسون‘ بالإضافة إلى الشعراء وحتى الفنانين.
لأكون واضحا، هذا الاختبار لا يسأل ما إذا كان هناك اتفاق جماعي هائل يمكن أن يقبله جميع المفكرين العظماء في التاريخ. سيكون هذا ادعاء منافيا للعقل. السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت هناك بعض المناهج التي شغلت باستمرار العديد من هذه العقول القوية والحادة والشغوفة، عندما حاولت فهم ما هي المناهج الأنسب للوصول لقرارات جيدة وحياة جيدة. إذا اجتازت بعض طرق التفكير اختبار التاريخ والحضارة ذاك، فهي تستحق بالتالي وقتنا وانتباهنا المتعمق.
الأسئلة الخمسة هي، في الواقع، أصوات مهمة في محادثة طويلة عن كيفية عمل العالم، وما يجعلنا بشرا بحق، وأفضل طريقة لاتخاذ قرارات صعبة مهمة. ليس هناك صوت فردي في المحادثة الطويلة يعطينا حقيقة عالمية، لكن كل صوت من الأصوات يعطينا رؤى قيمة لاتخاذ قرارات غير مؤكدة عالية المخاطر. لذلك هذه الأسئلة هي أدوات قوية لاختبار، وتوسيع، وصقل حكمك عندما تواجه مشكلات منطقة ضبابية.
أي نوع من الأدوات هي؟ يستطيع الفلاسفة، والمحامون، والمفكرون السياسيون صقل كل سؤال من الأسئلة ليصبح شفرة حادة، ومن ثم يستخدمون هذه المشارط المعرفية بذكاء. لكن يحتاج المديرون لشيء مختلف: يحتاجون لأدوات متينة يومية موثوقة - مثل الأدوات الموجودة في صناديق العدة وأدراج المطبخ. هذه المقارنة بالأدوات قد تبدو كمجاز عابر، لكنها تعكس بالفعل تقليدا معرفيا قديما في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، التي سعت، على مدار أكثر من قرن، إلى تطوير أفكار مهمة ومفيدة للمديرين. آمن الأستاذ الجامعي فريتز هندرسون، واحد من الرواد المعرفيين للكلية، أن أكثر النظريات فائدة للمديرين لم تكن نظرية فلسفية، ولا جهدا كبيرا للتخيل، بل مسألة تافهة متواضعة، أو ربما الأفضل أن أقول، عصا مشي مفيدة للمساعدة في الطريق . 1
سيريك الباقي من هذا الكتاب التطبيقات العملية البسيطة للأسئلة الخمسة.
كل فصل يركز على سؤال، ويبدأ بشرح أهمية السؤال لفهم الأبعاد البشرية الكاملة لمشكلات المنطقة الضبابية في الواقع. وبقية كل فصل بعد ذلك تشرح الإرشادات العملية الراسخة أيضا في الرؤى طويلة الأمد، المشتركة على نطاق واسع في طبيعتنا البشرية العامة؛ لاستخدام كل سؤال عندما تواجه مشكلة منطقة ضبابية .