هناك سبب منطقي للغاية وراء قدرة الوعي التام على المساعدة على انتشالنا من بئر الاكتئاب؛ فعندما نشعر بالاكتئاب، تدفعنا فطرتنا إلى تجاهله أو إلى التفكير في طريقة للخروج منه. وفي أثناء محاولة التفكير في هذا، ينتهي بنا المطاف باسترجاع أحداث الماضي مرارا وتكرارا، أو القلق بشأن المستقبل، وكل هذا هو محاولة لتخليصنا من المشاعر المؤلمة التي تنتابنا الآن. وطبعاً، لا تنجح أي من هذه الوسائل؛ لذا ينتهي بنا الأمر شاعرين بأننا أكثر انغماسا في اكتئابنا، فنبدأ بجلد ذاتنا لفشلنا في إيجاد حل للخروج من هذا الاكتئاب. وبينما يحتدم الحوار الذي يدور في داخلنا، ننشغل بالمعركة الدائرة في رؤوسنا، ونفقد تواصلنا مع الواقع، والبشر من حولنا، ويد العون التي قد تأخذ بأيدينا؛ فنبدأ الشعور باليأس. وبناء عليه، يسيطر علينا الشعور بالاكتئاب، ولا نجد مخرجاً منه، ويبدأ الإحباط في التسلل إلى أعماقنا.
وبإمكان تقنية الوعي التام كسر هذه الدائرة المفرغة عن طريق مساعدتنا على استخدام منهجية جديدة كلية، وهي طريقة لمساعدتنا على إيقاف استحواذ القلق بشأن الماضي والمستقبل على عقولنا. ولعل القيمة الحقيقية التي تقدمها إلينا هذه التقنية هي منحنا القدرة على التراجع عن اتخاذ ردة فعل معينة في موقف محدد؛ وهو ما يحدث عادة بشكل تلقائي أو لا إرادي؛ ومن ثم يكون بإمكاننا عمل شيء مختلف وتغيير مسار الأحداث. وقد أوضحت الدراسات أنه بممارسة الوعي التام بشكل منتظم، من الممكن لك التحكم نوعاً ما في عقلك الذي يعج بالأفكار، والتوقف عن التركيز على أحداث الماضي التي تستدعي الشعور بالندم، والتوقف عن القلق بشأن المستقبل.
العلاج المعرفي القائم على الوعي التام إن العلاج المعرفي القائم على الوعي التام، أو (mbct) ، هو منهجية علاجية نفسية تم وضعها في الآونة الأخيرة لمساعدة مرضى الاكتئاب خصوصاً، وذلك عن طريق استخدام أساليب علاجية تقليدية، بدمجها مع تقنيات الوعي التام، والتأمل، والتقبل، كما يتضمن الجزء المعرفي منه البحث في معرفة أسباب اكتئابنا، والإسهام في تثقيفنا. وتقول النظرية التي يستند إليها هذا الأسلوب العلاجي إنه عندما يصاب بالقلق من لهم تاريخ سابق للإصابة بالاكتئاب، فإنهم يعودون إلى العمليات التلقائية التي من شأنها استثارة نوبة اكتئاب؛ لذا يهدف العلاج المعرفي القائم على الوعي التام إلى الوقوف حائلاً بين المريض وبين هذه العمليات التلقائية التي تدفعنا إلى الوراء باتجاه السلوك الافتراضي الذي تعلمه المريض. وبعد ذلك، يعلمنا تقليل التركيز على الاستجابة للمثيرات والمحفزات الواردة، وبدلاً من ذلك، علينا تقبلها ومراقبتها دون إصدار الأحكام عليها. أما الجزء الخاص بالوعي التام، فإنه يسمح لنا بملاحظة العمليات التلقائية التي تحدث، وتغيير طرق استجابتنا؛ كي تكون مدروسة بشكل أكبر.
وهذا ينطبق علي وعلى آلاف غيري ممن لجأوا إلى الأساليب التقليدية، مثل:جلسات العلاج الجماعية، أو تناول مضادات الاكتئاب، واكتشفوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعاً. ومع أنه يمكن لأساليب أخرى أن تنجح، فإن فاعليتها لا تتحقق بالسرعة الكافية في كل الأحوال، كما لا يدوم تأثيرها. وقبل أن أستخدم تقنية الوعي التام، وجدت أنه لو لم يكن لدى شخص أهاتفه متى انتابتني الأفكار والمشاعر السلبية، ما استطعت التصرف بشكل طبيعي، فإن فكرة مهاتفة شخص باستمرار لم تكن منطقية مطلقاً؛ ومن ثم، كنت أعود تلقائياً إلى وضعي الافتراضي عندما تتأزم الأمور. وبمجرد أن بدأت ممارسة الوعي التام، تغير مسار الأمور؛ فصرت الآن أعرف أنني أتمتع بنظام دعم جوهري متين في داخلي يمكنني اللجوء إليه في أي وقت أريد! وهو ما يعتبر، بالنسبة إلى مريض عانى الاكتئاب مدة طويلة، أمراً عظيم الفائدة؛ لأنني أشعر بالثقة، للمرة الأولى، بقدرتي على معايشة أية انفعالات أشعر بها وتقبلها؛ ولعل هذه المعرفة وحدها كافية في بعض الأيام لجعلي أشعر بالسعادة المفرطة؛ وهذا أمر محفز فعلاً! والبديل لمعالجة الأحداث السلبية أو تضخيمها هو أن أتشاغل عنها، وذلك بعمل شيء مختلف لمحاولة الهرب منها. ولعل المشكلة في هذا، وفقاً للدراسات التي أجريت عن هذا الموضوع، هي كلما تجنبنا الأفكار والأحداث السلبية، وحاولنا الهرب منها بشكل أكبر، سيطرت وهيمنت على تفكيرنا أكثر.
ويوصف العلاج المعرفي القائم على الوعي التام بأنه الموجة الثالثة من العلاجات السلوكية؛ فهناك موجة خاصة بالعقل، وأخرى خاصة بالانفعالات، وها هي ذي الموجة الثالثة الخاصة بالحكمة؛ ويقصد بها إفساح المجال للأحداث، والأفكار، والانفعالات بدلاً من إبداء ردود أفعال تجاهها. والاتجاه السائد بين ممارسي العلاج المعرفي السلوكي هو استخدامهم مصطلح تضخيم ، الذي يشير إلى وضع أفكارنا في قالب أكبر مما هي عليه فعلياً؛ لذلك فإننا في العلاج المعرفي القائم على الوعي التام نستحضر العقل الحكيم، الذي يسمح للأفكار، والانفعالات، والأحداث بأن تبدو بحجمها الذي هي عليه في الواقع؛ وهوما يعرقل السبيل أمام التضخيم والصراع الداخلي.
التقبل
التقبل هو الإقرار بما يجري في داخلنا، والرغبة في معايشته في اللحظة الحالية، ويمكن اختصار الطريقة البسيطة لفهم التقبل في عبارة الإقرار بالأمر والتسليم به . ويساعدنا التقبل على الإحساس بأنفسنا بدرجة أعمق، نعجز عن الوصول إليها عندما تعج عقولنا بالأفكار السلبية، أو عندما نحاول تجاهل شعورنا باليأس. وتعرف الذات العميقة بالذات السامية، وهي ذلك الجزء الموجود في داخلنا ويضم الحكمة؛ تلك التي تستشعر وجود شيء ما خارج حدود مشاعرنا، وأفكارنا، واكتئابنا.
وليس بالضرورة أن تنال تجربة ما رضانا كي نتقبلها، لكن مقاومتها ستجعلها تبدو أكبر من حجمها الطبيعي؛ وعلى سبيل المثال، الحكم على موقف معين بأنه سيئ أو بغيض ، قد يجعله أكبر من اللازم. وهناك حكمة شهيرة تقول: ما تقاومه يستمر في ملاحقتك. وتشبه المقاومة محاولة دفع صخرة ثقيلة؛ فهو أمر مرهق ولا جدوى منه مطلقاً، كذلك يمكن تشبيه الفكرة بالمعادلة التالية: ألم *مقاومة = معاناة؛ وهوما يتضمن أننا إذا أردنا تخفيف المعاناة التي نشعر بها، فعلينا تقليل حدة الألم، أو تقليل حدة المقاومة. وها هو ذا الطريق المختصر لتلك المعادلة: تحل بالتقبل لتخفيف
الألم! وإليك هذا المثال، إذا ألغى شخص ما موعداً وشعرت بالإحباط، يمكنني أن أطلق العنان لعقلي لتكوين رأي سلبي، أو أن أشتت نفسي عن ذلك بتحديد موعد لمقابلة شخص آخر فورا؛ وهي محاولة للهرب من السلبية بـ إصلاحها ، أو بدلاً من ذلك، يمكنني تقبل الأمر؛ وبهذا سأجعل الصراع الداخلي في نفشي يتلاشى، كما يتطاير الدخان في الهواء.
وليس معنى تقبلنا شعوراً يصعب احتماله أن نفعل ذلك إلى الأبد، أو أننا سلبيون، ولا نتخذ القرارات التي قد تكون ضرورية، بل يعني التقبل أن نكون أكثر دراية بحقيقة ما يجري في الحاضر؛ ذلك لأن كونك أكثر انفتاحاً وصدقاً مع حاضرك يوجد احتمالية خروجك من دائرة الأفكار السلبية على نحو أسرع، وكذلك بتقبل الأمر، فمثلاً سيساعدك تقبل الشعور بالاكتئاب، وربما الكتابة عنه، بدلاُ من محاولة صرفه بكل قوتك، على التخفيف من وطأة الاكتئاب، وجعله شعوراً يمكن احتماله بشكل أكبر.
ويشبه التقبل تفريغ ضغط الهواء من إطار سيارة منتفخ للغاية بالهواء؛ فتصبح القيادة أكثر سلاسة، ويقل ارتجاج السيارة؛ فيسهل التحكم في الرحلة بدرجة أكبر. وبالمثل، سيقلل التقبل من إصدار الأحكام على الذات؛ وهو ما سيرفع عنك تلقائياً الشعور بالخجل من أخطاء الماضي.
كذلك، يساعدنا التحلي بالقدرة على التقبل على بناء ملاذ آمن يمكننا اللجوء إليه؛ ومن ثم، نستطيع في كل مرة نمر فيها بموقف عصيب أن نتخلص من الشعور بالاكتئاب وما يصاحبها من شعور باليأس. وإن أجلاً أم عاجلاً، ستنمو في داخلك مشاعر الحب والوعي الذاتي لمنحك الحرية الشخصية