إن تمريض المرضى واحدة من اللحظات التي يحب صناع الأفلام التركيز عليها للتأكيد على قوة الأمل والإيمان والحب والعقيدة. شاهدنا جميعا تلك اللحظات على الشاشة، حيث تتكشف الأحداث المؤثرة التي تتصاعد ببطء، حتى تنساب دمعة وحيدة على خد شاحب. السهاد، والحمى، واليأس. تظن أن كل شيء قد ضاع حتى... تتوقف الموسيقى، ثم تتحرك إحدى الأصابع...
ويبدأ التنفس، وبعدها تأتي الغبطة، والراحة، والحب من أول نظرة غائمة. لا شك في أن الأشخاص الذين يسهرون بجوار أسرة الغرباء ربما يكونون كرماء ونبلاء وغير أنانيين، ولكن في أوقات الأوبئة وتفشي الأمراض لا تكاد تعد تلك استراتيجية البقاء المثلى.
لنتحل بالصراحة حيال الأمر، أفضل استراتيجية في تلك الظروف تنطوي على الأنانية والحجر الصحي والابتعاد مسافة كبيرة، ويفضل وجود قدر هائل من المياه، أو نطاق حصين من الجبال يصعب اختراقه.
على مر التاريخ ظل معنى الإيثار مرادفا للفناء. انظر إلى التجسيد النهائي لمعنى الإيثار. الشهيد. سواء كان الشهداء من المتحمسين دينيا أو سياسيا توجد بينهم بعض القواسم المشتركة، وهي أنهم آخر من يفكر في نفسه،
ولديهم عقيدة لا تتزعزع، وشجرة عائلة تبدو أنها قد تعرضت لتشذيب حاد للغاية.
يرجع جانب كبير من نجاحنا كجنس إلى نزوعنا الفطري إلى حماية حياتنا وحياة أحبائنا أولأ. يظل نكران الذات في التعامل مع الغرباء أو الأنواع الأضى التي ربما تهدد رفاهنا (أو ربما تساهم في نظامنا الغذائي) ليس من شيم طبيعتنا البدائية للغاية.
تلك هي إحدى المشكلات التي تواجهها المؤسسات الخيرية، فرسائلها الأساسية تتمحور حول إقناع بقيتنا برعاية فقير أو مساعدة روح بائسة ليس لها أدنى علاقة برفاهنا، ومع أنها رسالة تمس شغاف القلب وملهمة، ولكنها تخالف الموروث الجيني الذي يرجع تاريخه إلى ألاف السنين.
لذا ليس مما يثير الدهشة أن المنظمات التي تنشد مساعدتنا عن طريق استدرار عطفنا، أو مواجهتنا بصور يكون الهدف منها إشعارنا بالذنب أو بالشفقة حيال أشخاص غرباء عنا تماما، تثير فينا الرغبة في تغيير القناة أو النقر أو الضغط بأناملنا للانتقال إلى الصفحة التالية.
يميل الأفراد للنظر إلى المؤسسات الخيرية على أنها بمنزلة منظمات يقوم عملها على معاني العطف والإحسان، وباعثها الرغبة في خدمة الصالح العام،
وهذا صحيح إلى حد كبير -على الأقل على مستوى النية المتعمدة- حتى يتعلق الأمر، بالطبع، بالمنافسة مع قضايا الخير الأخرى للحصول على القليل من الدعم والاهتمام.
هناك أكثر من 2 مليون مؤسسة خيرية مسجلة في الولايات المتحدة، وما يزيد على 1.7 مليون في بريطانيا، و 60 ألف مؤسسة في أستراليا، مع تزايد أعدادها بسرعة. إن المنافسة في عالم المؤسسات الخيرية تضاهي المنافسة في فيلم The Hunger Games، وكرم الناس محدود. إنها غابة، ولكى تنجح في عبورها تحتاج إلى منجل. ورغم القسوة التي ربما يبدو عليها الأمر فإن الجود فيما يبذل من عون أو يقدم من دعم لا تناله إلا القضايا التي تستحق ذلك.
ورغم التناقض الذي قد يبدو عليه الأمر، تحتاج المؤسسات الخيرية إلى التفكير على نحو أناني، وبدلاً من التحرك من منطلق من هم الأشخاص الذين يريدون مساعدتهم؟ ، ربما تكون الاستراتيجية الأكثر فاعلية هي: لماذا قد يريد الأشخاص الذين يريدون منهم المشاركة أن يساعدوا؟ بمعنى آخر: فهم البواعث التي تحرك الرغبة في العطاء داخل الإنسان من البداية.
إن الأفراد يعطون للمؤسسات لجميع الأسباب المختلفة، ولكن عندما نلخص الأمر حقا سوف نجد عند مرحلة ما أن بذل العطاء يمنحنا شعورا أفضل، ويحصل طرفا المعادلة على مكافأة بشكل أو بآخر. لذا بينما ننظر إلى التبرع للمؤسسات الخيرية على أنه نوع من الإحسان، ربما نفعل ذلك لكي يمنحنا ذلك شعورا طيبا (أو نفعل بين الفينة والفينة بدافع من خوفنا من أن نلقى عقابا ما بسبب إحجامنا عن مساعدة أخ لنا في الإنسانية).
إننا نحب أن ننظر إلى أنفسنا كأشخاص أخيار. فعلى سبيل المثال، لا أحد يجيب على استطلاع الرأي بقوله أنا شخص سيئ في قرارة نفسي ، أولا يميل الأفراد إلى وصف أنفسهم بأنهم أنانيون، أو يقولون إنهم يقيمون بقية البشر على مقياس يتربعون هم وأسرهم بلا منازع على أعلى قمة فيه وأن هذا موضوع غير مفتوح لأي ديمقراطية أو نقاش. يعد ذلك أحد قيود البحث غير المتطور الذي يخفق في تنقيح الإجابات للوصول إلى الحقائق الأساسية.
تطرح أسئلة على عينة الاستطلاع مثل: هل تعتبر نفسك واسع الأفق؟ ولا يجيب أي منهم بقوله: لا. أنت تعلم أنني ضيق الأفق، وأتمسك تماما بأساليبي وعجزي الكامل عن الاقتناع بأية وجهة نظر أخرى غير وجهة نظري.
فمن المحتمل أن يجيب الجميع: نعم، نعم أنا كذلك. إننا نحب جميعا أن نشعر وكأننا غير متعصبين أو متمسكين بآرائنا على حساب آراء غيرنا. إننا نريد أن نشعر جميعا بشعور طيب حيال الشخص الذي نراه في المرآة كل صباح. لقد نشأنا اجتماعيا على الاعتقاد بأن التضحية بالنفس والطبيعة المحبة للإحسان من الفضائل التي نفخر بها، وهي عادة ما تكون كذلك.
ولكن بدأت حاليا غالبية المؤسسات الخيرية في فهم ما يحرك مشاعرنا، ومن ثم دخلت صناعة التجزئة. كان يطلب منا فيما مضى التبرع بالأموال لإظهار تأييدنا، أما اليوم فيطلب منا شراء شيء ما: من الشرائط من كل لون يمكن تخيله، وحتى الأنوف حمراء اللون والتيشيرتات والدمى على شكل دببة المربوطة بضمادات وورود. وفي بعض البلدان في شهر نوفمبر من كل عام -أو كما يطلق عليه شهر إطلاق الشارب” يطلب من الرجال بجميع أنحاء العالم دفع ثمن متعة إطلاق الشارب.
يدرك البائعون العاملون في المؤسسات الخيرية الآن أن البيع، بما ينطوي عليه بطبيعته من تحقيق مكسب، أشد جاذبية من مجرد دفع الأموال، ولكن السؤال المهم هو لماذا؟ . لماذا الشريط الأحمر أشد جاذبية من استدرار مريض يعاني من الإيدز يرقد على فراش المرض بأحد المستشفيات لعطفنا؟
سنؤكد خلال هذا الكتاب أن السبب في ذلك يرجع إلى أن أحد المنهجين يطلب منا التحلي بالكرم دون أي شعور بتحقيق مكسب شخصي، بينما المنهج الآخر لا يمنحنا شيئا ماديا في المقابل فحسب، بل يمنحنا شيئا غير مادي أيضا، شيئا يظهر حقيقتنا للعالم ويسبغ علينا مكانة اجتماعية ومالاً.
أي ما زال التفكير الأناني استراتيجية حيوية من أجل البقاء وتحقيق النجاح وبذل العطاء والجود في النهاية.