في كتابها The Preacher and he Presidents، ذكر المؤلفان "نانسى جيبس" و "مايكل دافي" بالتفصيل مسار "بيلى جراهام" المحترم الذي بزغ نجمه على غير المتوقع، وتنامى تأثيره على نحو لا شبيه له في عهد سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى كل قائد عالمى تقريباً في العالم الغربى. ويشهر المؤلفان إلى أن هذا المسار لم يجد طريقا مفروشا بالورود، بل إنه واجه مقاومة قوية خاصة في بدايته. إن طريقة تعامل "جراهام" مع أحد خصومه الأقوياء تقدم نظرة عامة على المبدأ الأول الضرورى من أجل الفوز بثقة الآخرين.
كتب المؤلفان يقولان: "في فبراير من عام ١٩٥٤، كتب "هنرى لوس"
-حارس "جراهام" -إلى الكاتب الشهير بمجلة Time في لندن -المراسل الأسطورى "أندريه لاجير" -لكي يصبح مستعداً لما سيكون على وشك الحدوث عندما يهبط "جراهام" في لندن من أجل القيام بجولة دينية". كتب " لوس" ملاحظاً: "لقد كان الدين في بريطانيا يقترب من الاحتضار، ولذلك فإن تأثير "بيلى" يستحق المشاهدة... لا بد أنه سيلقى الازدراء من جميع الأشخاص الذين تعرفهم".
وكان أحد الذين قاموا بازدرائه - كما فسر "جيبس" و "دافي"- هو كاتب عمود صحفي بجريدة "ديلي ميرور"،"رجل يسمى "ويليام كونور"، وقد أطلق على "جراهام" لفظاً مثيراً للسخرية. وكما كان ”جراهام” يفعل كثيراً مع النقاد البارزين، فقد اقترح أن يتقابلا شخصياً، بينما اقترح "كونور" بخبث أن يتقابلا في مقهي يسمى "بابتيستس هوود"".
وكما اتضح فيما بعد، فلم يستطع " لوس" أو" لاجير" أو"كوذور" أن يقدروا التأثير الذي يمكن ل "جراهام" أن يحدثه على المدينة. يقول المؤلفان: " لقد توافد الكثير من الناس في الأسبوع الأول لدرجة أنه منذ ذلك الحين عقد ثلاثة لقاءات في إستاد "هارينجى" في أيام السبت من كل أسبوع... وليلة بعد أخرى، كان هناك أحد عشر ألفاً من الناس جلوس، وألف وقوف -سواء كان هناك مطر أوجليد أو صقيع- لكي يسمعوا موعظته ". وكان جمهوره يضم أعضاء من البرلمان، وعميداً بحرياً، ورئيس هيئة أركان الأسطول. ولم يستطع الصحفيون أن يقدروا مدى تأثير "جراهام" عليهم شخصياً - خاصة "ويليام كونور". فبعد طلب لقائه للتحدث في مقهي يحمل اسماً يدل على السخرية والاستخفاف، تحول "كونور الناقد" إلى "كونور المعجب".
أقر "كونور" وهو يتحدث عن "جراهام" في عمود لاحق: "إنني لم أعتقد أبداً أن الود له مثل هذه الشفرة الحادة الحاسمة، إنني لم أعتقد أبداً أن البساطة يمكنها أن تجتاحنا - نحن العصاة - بقوة هائلة، إننا نحيا ونتعلم".
ورغم أن "جراهام" كان يستطيع توظيف جبهة من العدوان السلبي عن طريق تجاهل الضربات الوقحة، أومحاربة الضربات بسخط مستحق في وسائل الإعلام، فإنه آثر أن يختار مساراً أفضل، وأكثر فاعلية.
لقد تجنب "جراهام" الجدال تماماً، واستمال منتقديه بالسماحة وحسن النية.
إن الجدال مع الآخرين نادراً ما سيصل بك إلى أي مكان، فعادة ما ينتهي بزيادة اقتناع كل طرف بأنه على صواب، ربما تكون على صواب، بل على صواب تماماً، ولكن الجدال العقيم يجعلك تبدو وكأنك مخطئ تماماً.
وقد أوضح الساخر خفيف الظل "ديف بارى" هذه النقطة تماماً عندما قال: " إنني أجادل بشكل جيد للغاية، سل أياً من أصدقائى المتبقين. فباستطاعتي الفوز بالجدال في أي موضوع مع أي خصم، ويعرف الناس هذا، ولذا فإنهم يتجنبونني في الحفلات، وكإشارة على الاحترام العظيم الذي يكنونه لي، فإنهم لا يوجهون لي الدعوة للحفلات مطلقاً.
ونحن نقضي الكثير جداً من أوقاتنا على شبكة الإنترنت في الجدال، أو في تغذيته. لا تبحث بعيداً، ألق نظرة على التعليقات الموجودة في المدونات والمواقع الإخبارية الشهيرة، إنها تكاد تكون خيطاً مستمراً من القيل والقال، أومحاولات للمزايدات الأحادية، وفيما وراء ذلك، يبدو أن المزاج السياسي والمؤسسي الدائم والحديث يتضمن بشكل أساسى نقاطاً مؤكدة وقرارات محسومة، وليس أرضية مشتركة يمكن أن نبني عليها شيئاً ذا قيمة لكل الأطراف، فالمناقشات الجدلية التي تغير من آراء الناس قليلة، ولأن الجدال يستتر وراء وسائل التواصل الرقمية الحديثة، ويفتقر إلى التبعات واضحة المعالم للمواجهات المادية، يستطيع كل طرف أن يفلت من العقاب عن طريق الانتقال إلى هجمات شخصية جارحة أو اللجوء إلى الغموض السلبى - وهو أقل أدوات العلاقات البشرية فاعلية.
وهذا ما كانت عليه الحال عندما اتخذ "تونى هيوارد" -الرئيس التنفيذي السابق لشركة " بريتش بتروليوم" البريطانية -موقفاً متشدداً من تبرئة الذات واللامبالاة المغرورة رداً على الانفجار الهائل لمنصة "ديبووتر هورايزين" ، وتسرب زيت البترول الذي تبع ذلك، والذي تسبب في مقتل أحد عشر شخصاً، ثم إتلاف النظام البيئي في الولايات المطلة على الخليج، وتدمير حياة آلاف العاملين في أنحاء البلاد المطلة على خليج المكسيك.
وحسب مقال نشر في جريدة " ذا تايمز" ، فقد بدأ "هيوارد" بتنفيد الاكتشافات العلمية التي تتعلق بطبيعة وكمية التسرب النفطي ثم تحولت ادعاءاته بأن التسرب "ضئيل جداً" مقارنة بحجم المحيط، وأن التأثير البيئي لأكبر تسرب نغطي في الولايات المتحدة الأمريكية ل950000 جالون من المواد السامة التي استخدمت لعلاج هذا التسرب، سوف يكون "متواضعاً جدّاً، جدّاً" إلى بداية لسلسلة من الحماقات التي كان لايمكنه التبرؤ منها، بما في ذلك اعتذاره الأخرق إلى أهالي ولاية لويزيانا الذي أعلن فيه: "إنني أرغب في استعادة حياتي"
وعندما شوهد "هيوارد" في مدينة "كاوز" على الساحل الجنوبى لإنجلترا من أجل سباق لليخوت، والذي اشترك فيه قاربه "بوب"، بعد يومين من الأسئلة المراوغة وتجنب اللوم أمام المشرعين الأمريكيين، فقد أكد هذا الحدث على الأثر الذي رسخه "هيوارد" بالفعل: سواء كان على صواب أم لا، فإنه خسر كلاً من مصداقيته وقضيته أمام الرأي العام. وعندما يصبح التأثير والنفوذ في خطر، غالباً ما تكون المحكمة وحدها هي ما يهم.
وبعد سلسلة من الج ال ، لم يعد هناك إلا قليل من الناس الذين يستطيعون الوثوق به ، وكان يبدو أن ''هيوارد'' يهتم بشيئين فقط : نفسه وامبراطوريته.
وفي ظل أسلوه الجدالي، تحولت شركة "بريتش بتروليوم" البريطانية من التشكيك إلى الرفض، بغض النظر عن القصة التي كانت تكشفها الحقائق. وبدأت المقاطعة لمنتجات الشركة من قبل العملاء، في أي مكان كانت تباع فيه. لماذا أملأ خزان السيارة بالبنزين في محطة تابعة لشركة "بريتش بتروليوم" وهناك عشرات من المحطات الأخرى التي تنتمي إلى شركات لا يترأسها قادة يتسمون بالوقاحة وعدم الاكتراث، ولا يعترفون بأخطائهم؟
بالطبع كانت بعض ردود الأفعال تعتمد على التصور، ولكن التصور يصبح واقعاً عندما لا تكون الحقائق واضحة. وعندما تُعرض القضية في مملكة العلاقات البشرية، فغالباً ما يكون التصور قوياً لدرجة أن الحقائق الدامغة تصبح غير كافية لإزاحة موجة من الإعلام السيئ الذي يسبقها.
وفي دفاع "هيوارد" - بعد إقالته من شركة "بريتش بتروليوم" - وهو اليوم الذي أطلق عليه أكثر يوم أثار الحزن في حياته - كان أكثر إحساساً ليس بدور شركته في التسرب النفطي فحسب، بل وبأسلوبه اتجاه المأساة أيضاً، ولقد أشاد الأصدقاء ب "هيوارد" كشخص طيب، ورجل عائلي كريم، وليس هناك شك في أن لديهم أسباباً مقنعة لذلك، علاوة على ذلك، فلطالما كانت شركة "بريتش بتروليوم" شركة قوية تحظى بالاحترام لعقود من الزمان، ويستحق كل من الرجل والشركة كل التقدير نظير كل اللحظات الجيدة، بما لا يقل عن أي واحد منا، لو أصبح أسلوبه الجدلي مع زوجته، أو زميله، أو عميله هو محور وسائل الإعلام على نطاق عريض، ومن المحتمل أن يظل كل من "هيوارد" و"بريتش بتروليوم" في بؤرة الأضواء في الفترة القادمة أيضاً، ولكن لماذا لم يتم تجنب هذه الأمور منذ البداية؟
إننا نواجه الصراعات في كل يوم من أيام حياتنا تقريباً. إذن، كيف يمكننا أن نمنع تحول مناقشة لبقة إلى جدل عدواني؟ في النهاية، يجب عليك تقدير الاعتماد المتبادل أكثر من الاستقلالية، ويجب عليك أن تفهم أن التفاوض الذي يتسم بمراعاة الآخرين، هو أكثر فاعلية على المدى الطويل من شن حملة شعواء من الجدال الذي لا طائل منه.
ولقد أثبت أحد القادة في قارة أمريكا الجنوبية جدارة هذا المبدأ رغم التناقضات الشخصية والتاريخية الكبيرة له. فبالنسبة لرجل ذاق مرارة الفقر، وقاد اتحاد العمال في بلد لا يُعرف عنه الاهتمام بحقوق العمال، وشاهد زوجته وهي تموت في الشهر الثامن من حملها، لأنهما لم يستطيعا توفير الرعاية الصحية اللازمة، وأسس حزبه السياسى، فمن الممكن أن يتوقع المرء أنه رجل محارب. ولكن "لويس إيناسيولولا دى سيلفا" -الذي يدعوه الجميع "لولا" - تحدي التوقعات على جميع المستويات.
وقد صرح "لولا" في حديث له مع أحد الصحفيين قائلا: "كانت أمي تقول لى دائماً إن الناس لا يستطيعون القتال إذا كان هناك شخص واحد لا يريد ذلك". وهكذا، لم يقاتل "لولا"، وهو أسلوب ساعده على أن يصبح رئيساً للبرازيل، وأن يبقى في هذا المنصب لمدة تقترب من العشر سنوات. وعندما خسر حزبه الاشتراكي الناشئ حديثاً الانتخابات - عاماً بعد عام -قام "لولا" بالتحالف مع أحد أحزاب اليمين، وتودد إلى رجال الأعمال -رغم أهدافه الاجتماعية، وعندما أصبح رئيساً بسبب وعد قطعه على نفسه بمنح الأولوية للفقراء، قام بإنشاء تحالفات مع الطبقة العليا الضخمة والثرية من أجل التركيز على تنمية الاقتصاد.
يقول"لولا":"إنني أعتبر نفسي مفاوضاً. فإذا أردنا السلام والديمقراطية، فيجب علينا أن نتحلى بالصبر، وأن نقوم بالمزيد من التفاوض". ولقد ساعدت قدرة "لولا" على الصبر و التفاوض في تحقيق أشياء رائعة خلال فترة توليه الرئاسة. وعبر بناء التحالفات داخل البرازيل وخارجها على المستوى الدولي، استطاع "لولا" أن يشرع برامج اجتماعية أسهمت في انتشال أكثرمن 20 مليون شخص من دائرة الفقر إلى الطبقة المتوسطة، مع خلق فترة من النمو والاستقرار الاقتصادي القوي، وفي بلد يشتهر بالفروق الشاسعة ما بين الغنى والفقير، فإن مهارات "لولا" في التعامل مع الآخرين وضعت البرازيل على مسار تغيير هذا التفاوت التاريخي.
لقد تعرض مفهوم التواصل إلى الكثير من سوء التفسير كما توضح ذلك اخصائية السلوكيات المؤسسية، "إيستر جيليز"، قائلة: "لقد وصلنا إلى الاعتقاد بأن الأمر كله يدور حول توصيل الرسالة، وعندما لا نحسن القيام به، فإننا نخسر عادة جميع الإمكانيات المحتملة التي يمكننا الفوز بها عبر تفاعلاتنا مع بعضنا".
وهي تُذكر المديرين التنفيذيين وموظفي شركات العملاء المتعاملين معها -مثل شركة "توينتث سينشرى فوكس" ، وشركة "ليوبورنيت" وشركة "هاربو" - بأن هناك سبباً مهماً لكل أساليب التنمية الشخصية التي تنبع من الاستماع إلى صوت الحكمة الداخلي لديك. وعلى حد قول "جيليز"، فإنه يوجد بداخلنا جميعا: "قبو يتضمن فهماً أفضل للذات، ومعرفة أكبر، وأفكاراً أعظم، ويحدث التوتر والصراع عندما تقوم أنت - أومن معك - برفض فكرة أن الآخرين أيضاً يتمتعون بالحكمة الداخلية التي يجب الاستماع إليها".
إذن، كيف نقوم ببناء ممارسات تعمل على تجنب الجدال؟ انظر إلى الفائدة الوحيدة للعمل بشكل تبادلي.
تقول"جيليز": "يحدث هذا الأمر عندما تعترف بأن فرص الحصول على نتائج أفضل جراء التعامل مع الآخرين دائماً ما تزداد عندما تلتقي خبراتك وأفكارك مع خبرات الآخرين وأفكارهم".
وبغض النظر عن مدى قدرتك على التعبير أو الإقناع، فإن هذا لا يحدث عندما يتفوق شخص على الآخر، إنه يحدث عندما تكون النتيجة النهائية للتوتر عبارة عن اتساع النطاق المشترك للأفكار والنمو الشخصى، وإذا أمكنك أن ترى تفاعلاتك بوضوح -رغم التوترات والصراعات-فستقل الأمور التي من الممكن أن تعجز عن تحقيقها عند التعاون مع الآخرين.
تقول "جيليز" مؤكدة: " إننا جميعاً نعلم كيفية جذب الانتباه إلينا، ولكن القليلين منا هم من يعرفون كيفية جذب الانتباه واكتساب الاحترام في الوقت نفسه". كن مميزاً وكن واحداً من هؤلاء الذين يتجنبون الجدال ويسارع إليهم معظم الناس بكل ما أوتوا من قوة.