في أوائل عام ٢٠٠٢، وضعت مجلة " تايم" صورة لحاسب آلي غريب الشكل على غلافها. لقد كان حاسدا صغير الحجم، ذا قاعدة مقببة، ورقبة من الكروم اللامع ترتبط بشاشة مسطحة يمكن دفعها، أو سحبها، أو لفها، أو خفضها، أو رفعها بنقرة إصبع، لقد كان هذا الجهاز يسمى” آى ماك"، وكانت الشركة المصنعة له-شركة " أبل كمبيوتر"-في أمس الحاجة إلى نجاحه حتى تستمر في ممارسة عملها.
ولطالما كانت شركة "أبل” قرة عين بيئة حاسوبية معينة -عادة ما نتضمن أنواعاً مبتكرة غير تقليدية، ولكن في المقال الذي صاحب قصة الغلاف، أعلن الرئيس التنفيذي للشركة -"ستيف جوبز"-عن رؤية جديدة للعلامات التجارية أمام المستهلكين.
حيث قال إنه يعتقد أن المستقبل يكمن في الحاسب الشخصي كـ " محور رقمي" يحتوي على كاميرا فيديو، وكاميرا رقمية، ومشغل "إم بى ثرى"، وأجهزة رقمية مساعدة صغيرة بحجم راحة اليد "بالم بى دى ايه "، وهاتف خلوي، ومشغل دى في دى. لقد كان يخاطر بمستقبل الشركة بناءً على رؤية لمكان يمكن أن تندمج فيه الحياة الرقمية بكاملها. وهكذا، صدر جهاز آى ماك" مع مجموعة برامج مجانية تعتبر اليوم مرادفاً للعصر الرقمي – " آى تيونز" و "آى فوتو" و"آى موفى".
سخر النقاد والمنافسون من "جوبرا"، وكان بعض من منافسي شركة "أبل" القدامى يقولون إن هذا الحاسب "أضحوكة" و "أحمق"، وأن تلك الرؤية "مفرطة في الخيال".
ماذا عن عامة الناس؟ لقد تبنوا هذه الرؤية والحياة التي تعد بها، ولقد شهدت شركة " أبل كمبيوتر"، والتي اقتصر اسمها على أبل فقط في الوقت الحالي، تزايد سعر سهمها بنسبة4856%، بينما حقق أقرب المنافسين زيادة تقدر بحوالي ١٤%.
لماذا؟
هل هذا يرجع إلى أن الشركات الأخرى للحاسبات كانت تفضل ألا يشترى أحد منتجاتها؟ بالطبع لا -فكل هذه الشركات تريد تحقيق النجاح، وكلها ترغب في أن تصبح محبوبة، إنها تسعى وراء المزيد والمزيد من التأثير في طريقة استهلاك الناس لمنتجاتها.
الفرق هو أن 'استيف جوبز" أدرك شيئا كان” ديل اكارنيجي” يدعمه باستمرار: لكي تؤثر على الآخرين وتدفعهم نحو التصرف، يجب أن تتواصل مع الرغبات الحقيقية الكامنة داخلهم.
وهذه حقيقة عالمية، سواء كنت تتعامل مع الأطفال، أو العملاء، أو حتى الحيوانات. ذات يوم كان الفيلسوف الشهير” رالف و|لدو إيمرسون" وابنه يحاولان أن يدخلا عجلاً في الحظيرة. وكان الموقف سيئا للغاية. فبينما كانا يدفعان، كان العجل يشد نفسه، وعندما كان يسدان، كانا العجل يدفع نفسه.
وفي هذه الأثناء، لاحظت خادمتهما المأزق الذي وقعا فيه، ورغم أنها لم تكن تستطيع أن تكتب مقالات أو تؤلف كتباً رائعة، فإنها كانت تمتلك فكرة اعتقدت أنها ربما تحل المشكلة، فقد مشت نحو العجل، ووضعت إصبعها في فمه. وبينما كان يمص إصبعها، سحبته برفق إلى داخل الحظيرة.
ما الذي كانت تعرفه هذه الخادمة، وكان يجهله هذا الفيلسوف اللامع؟
لقد كانت تعرف أن إحدى الرغبات الأساسية لدى العجل هي تناول
الطعام، وحالما تواصلت مع هذه الرغبة، تبعها العجل عن طيب خاطر.
لقد كان " إيمرسون" وابنه يفكران فيما يرغبان فيه فحسب-وضع العجل في الحظيرة حتى يستطيعا تناول طعام الغداء، ولكن العجل الذي كان يأكل العشب الأخضر بسعادة، كان قليل الاهتمام بالرجوع الى حظيرة مظلمة، ضيقة، تقيد خياراته في الغداء، وهذا ما كان يحدث، حتى ظهرت الخادمة التي قدمت له إصبعها، وذكرته بأن هناك بعض اللبن في المستقبل.
إنه تشبيه ممتاز؛ لأنه يذكرنا بفكرتين أساسيتين كثيرا ما نتجاهلهما عند محاولة التأثير على الآخرين.
١. يتطلب التأثير حدساً أكثر من الذكاء. فالتناقض الحاد بين "إيمرسون" اللامع وخادمته المتواضعة لم يكن من ناحية اختلاف القدرة العقلية. ورغم أن "إيمرسون" كان أكثرهما تعلماً، فإن الاختلاف بينهما كان في الحدس. لقد كانت الخادمة تمتلك ما يفتقده "إيمرسون".
إن الرأي العام العالمي يميل إلى أن ينسب التأثير، صراحة، إلى الأشخاص الذين يحتلون المناصب الرفيعة التي تتطلب درجة أكبر من التعليم والأهلية -الرؤساء التنفيذيين، ورؤساء الأقسام، والأطباء، وأصحاب المليارات. إننا نفترض أن مثل هؤلاء الأشخاص يمكنهم تحريك جماعات من الناس بمجرد كلمة أو إشارة من إصبع، ولكن كما أشار "جاى كاواساكى"، أحد المبتكرين الرئيسيين السابقين في شركة "أبل": "إذا لم يكن الشخصي يتمتع بعلاقة قوية مع الناس، فلن يكون له كثير من التأثير عليهم".
والحقيقة هي أن مثل هؤلاء الأفراد الأجلاء يحظون فقط بظروف فوق متوسطة للتأثير، بينما لا تختلف طريقة الفوز بالتأثير لديهم عن أي شخص آخر. إن التأثير لا يكترث بالتعليم أو الخبرة؛ بل إنه يرافق فقعد الشخص الذي يضع مكانته جانبا-سواء كانت عالية وعظيمة، أم منخفضة ومتواضعة -ويضع نفسه مكان الشخص الآخر، ولكي يحدث هذا، يحتاج الأمر إلى قدرة فطرية وماهرة على قراءة ما تحت سطح التفاعل. كتب "أذطو١ن دوسانت أكسوبيرى" ذات مرة يقول:" إن الأمور الأساسية تختفي عن العين". وهذه حقيقة مهمة يجب وضعها في الاعتبار عند التعامل مع الأشخاص الذين ترغب في استمالتهم لصغك. إن التأثير على الآخرين لا يدور حول التفوق عليهم في الدهاء والحيلة، إنها مسألة إدراك لما يريده الآخرون بالفعل، وتقديمه إليهم في حزمة منافع متبادلة.
وقد قال "روبرت ماكفرلاين"، ثالث مستشاري الأمن القومي الستة للرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريجان"، متعجبا من رئيسه ذات مرة:” إنه يعرف القليل، وينجز الكثير". وعندما غادر "ريجان" "واشنطن كان أكثر شهرة وشعبية من الوقت الذي تولى فيه الرئاسة"، كتب "ريتشارد نورتون سميث" قائلاً: "لقد حقق شيدا لم يحدث منذ "دوايت أيزنهاور". كيف حدث هذا؟ حسبما يقول الرئيس "باراك أوباما": "أدرك ريجان حاج الشعب الأمريكي إلى المسئولية والتغيير.... لقد استفاد مما يشعر به الناس بالفعل".
٠٢ يحتاج التأثير إلى يد حانية، فقد تورط "إيمرسون" وابنه في لعبة شد الحبل مع عجل عنيد يتشبث بالبقاء في مكانه، ولم ثكن هناك من طريقة لسيطرة أي من الطرفين على الآخر. وفي هذا المشهد، وعلى النقيض مما يحدث، تأتى الخادمة وهي تمد إصبع السبابة على استقامته، وليس معقوفاً -يا للعجب -وفجأة وقف العجل الذي كان عنيداً، على حوافره بخفة، وأخذ يتبع الخادمة طواعية.
خشية أن ننسى، إن هذه صورة جديرة بالذكر لأية حركة صغيرة يجب علينا القيام بها من أجل حث شخص آخر على التصرف. وكتذكرة مستمرة على ذلك، فقد عرض الرئيس الأمريكي السابق "دوايت أيزنهاور" ثقالة للورق في المكتب البيضاوي مكتوا عليها باللاتينية: " لطيف الخصال، قوي الفعال". وليس هناك من شك في تأثير هذا الرئيس على العالم بأسره.
وقد كتب المؤلف "هارى أوفرستريت"، في كتابه Influencing Human Behavior يقول: "إن الأفعال تنبع من الأشياء التي نرغب فيها في الأساس. وأفضل نصيحة يمكن إسداؤها إلى الأشخاص المقنعين المحتملين، سواء في العمل، أوفي المنزل، أوفي المدرسة، أوفي السياسة، هي: عليك ألا أن تشعل في الشخص الآخر جذوة الرغبة الملحة، ومن يستطيع القيام بهذا يملك العالم كله بين يديه، ومن لا يستطيع ذلك، فإنه يعيش وحيداً".
إن ممارسة التواصل مع الرغبات الأساسية هي أمر عملي يتجاوز كل القطاعات والحدود الدولية، وهذا التواصل مهم بالنسبة لمدير تنفيذي في مجال الطاقة في هولندا، بدرجة أهميته نفسها بالنسبة لمنتج تنفيذي في هوليوود. وتصبح جهود العلاقات الشخصية، التي تنجح حتماً، هي التي يتوقف فيها الراسل عن الإملاء ويبدأ في اكتشاف ما يريده المتلقي، أما جهود العلاقات الشخصية التي تفشل حتماً-سواء كانت في شكل تعاون مؤسسي، أو تعاون شخصي، أو أداء فني -هي التي يحاول فيها الراسل أن يخبر المتلقي بما يريده، وربما يكون هذا الأمر أكثر وضوحاً في قطاع المبيعات، وهو قطاع نحن جميعا جزء منه بالمعنى الدلالي.
وفي كتأبه Killing the Sale، يصف " تود دانكان"-المؤلف صاحب أكثر الكتب مبيعا-الخطايا العشر القاتلة التي يقع فيها مندوبو المبيعات، وكان "دانكان" يطلق على إحداها اسم "الجدال”، وعندما نخفق في التواصل مع الحاجات الأساسية للشخص الآخر، فإننا نحمل نصيبنا من الذنب، سواء كنا ندعو للترويج لمهنتنا أم لا.
إن خطأ الجدال...يخاطر بنجاح مبيعاتك اعتماداً على قدرتك على تقديم موقفك البيعى بطريقة مقنعة، إنه إتقان الحديث الفردي، ثم التوقع بأن تقتنع هيئة التحكيم المتمثلة في عملائك المحتملين بأن تقف بجانبك ولكن... خلق مستوى أولى من الثقة يتطلب ما هو أكثر من حديث فردى متأنق، إنه يحتاج إلى حوار متبادل، إنه يحتاج إلى محادثة حقيقية، وليس أمامك طريقة أخرى لكي تعرف ما إذا كأن منتجك أو خدمتك سوف تلبى احتياجات الآخرين أم لا.
ثم استشهد"دانكان" بعد ذلك، بمؤلف كتاب Conversation، الدكتور"ثيودور زيلدن"، الذي عرض هذه النقطة ببراعة: "المحادثة الحقيقية نثير الحماس والاهتمام".
ومما يثير الحيرة أنه رغم ما ينفق من ملايين الدولارات في كل عام على الترويج للعلامات التجارية والتسويق، فإن الجزء الأكبر منه ينفق على احتياجات المدير أو نزواته، وليس الرغبات الأساسية للمتلقي، إننا نفكر جيداً حول الماهية التي نريد أن نصبح عليها، أو الكيفية التي نريد من الآخرين أن يروا بها عروضنا، وننفق الكثير من الوقت في تشكيل وصقل هذه الصورة أكثر من اهتمامنا بالتحقق مما إذ ا كانت هذه الصورة تثير الاهتمام بالفعل لدى الأشخاص الذين يجب أن تثير اهتمامهم أم لا٠
إن معظم الأفراد والمؤسسات يقومون باستثمار الموارد في حملاتهم التسويقية أكثر من التواصل، بينما يجب السير عكس هذا الاتجاه تماماً.
والآن تأمل مخطط المقارنة الذي يقدم فيه "دانكان" الأمور التي يقولها عنك شكلا التواصل مع الآخرين، جندا إلى جنب:
الحوار الثنائى
الحديث الفردى
يراعى مشاعر الآخرين
مغرور
جدير بالثقة
زائف
يتسم بالشفافية
مخادع
مطمئن
وضيع
يهتم بتلبية الاحتياجات
يهتم بجمع المال
يبنى الثقة
يبنى التوتر
وبالطبع لا يعنى التواصل مع الرغبات الأساسية للآخرين أن العالم سيصبح الدجاجة التي تبيض لك ذهباً، ويكفي القول إنه بدون هذا الأسلوب، سيصبح الفوز بالآخرين أمراً صعب المنال، فسوف تغلق أذانهم، وتنظر عيونهم إلى مكان آخر بجدا عن شيء أو شخص أكثر انخراطاً واهتماماً باحتياجاتهم، وسوف يجدون أمامهم خيارات لا نهاية لها في العالم نفسه الذي رآه "ستيف جوبز" في عام٠٢٠٠٢
ولحسن الحظ، فإن معظم الرسائل الإلكترونية المؤسسية، وتغريدات الشركات على موقع تويتر، ومواد مدونات العلامات التجارية، والحملات الإعلانية عبارة عن أحاديث فردية تهدف إلى نشر الآراء، وتمييز العلامات التجارية، وإطلاق المنتجات، وبناء الشخصيات. وهذا بالتجديد هو سبب سير هذه الأمور على هذا النحو. أما الشخص الذي يتحدث بروح الحوار واكتشاف احتياجات الآخرين فيحصل على فوائد جمة.
كيف تعرف أنك تتمتع بهذه الميزة؟
إن القيام بجرد مباشر لتأثيرك سيكون كافيا في العادة، هل يضاعف موظفوك جهودهم بالفعل، أم هل يقعون في دوامة التأرجح بين الاضطراب تارة والسكون والهدوء تارة أخري؟ فقد تشعر بالثقة بأن زواجك يحقق تحسناً ملحوظاً، ولكن ما الذي يمكن أن تقوله زوجتك؟ وقد تصر على أن منتجاتك الجديدة أثرت بالإيجاب على العملاء؛ فهل تؤيد إيرادات المبيعات هذا الرأي؟ وقد. تتحدث عن أن علامتك التجارية تجتاح الأمة، ولكن ما هو المعيار الذي سيس به شعبية علامتك التجارية؟
في كتابه The Seven Arts of Change، يوضح "ديفيد شانر" إن الاختلاف بين الأشخاص الذين يتواصلون بالفعل مع الرغبات الأساسية، والأشخاص الذين يتظاهرون بالتأثير، يأتي على غرار الأطفال الذين يتظاهرون بأنهم أطباء. وقد كتب يقول:
إن كل دراسة تقريباً أجريت عن التغيير المؤسسي خلال العقدين الماضيين تشير إلى أن الشركات تفشل في إحداث التغيير الذي كانت تنوي القيام به في سبعين بالمائة. من الوقت تقريباً، وقبل أن يتعكن التغيير المؤسسي من تحقيق النجاح، يجب أن يحدث هذ ا النجاح على المستوى الروحي اللطيف مع الأفراد العاملين في المؤسسة، ويجب على كل التحولات الدائمة أن تبدأ من هنا، لأن المحركات الأساسية لكل سلوكياتنا -في النهاية -تتمثل فينا كأشخاص.
إن التغيير الحقيقي يولد نتيجة التواصل مع الآخرين، وهذا التواصل هو الذي يحدث على مستوي أكثر أجزاء الفرد عمقاً، إن تفسير "شانر" دقيق للغاية، ولا بد أنه يعرف ذلك، لقد ساعدت شركته "كونيكت كونسلتينج" على مدار ثلاثين عاماً شركات متعددة الجنسيات -مثل "دوراسيل" و" رويبى "و'امارك يوإس إيه" و"إس في بى” -على أن تقوم بجهود تغيير مؤسسي ناجحة. إن كلماته تذكرنا بأنه لا يمكن لأية استراتيجية للحملات الواسعة، أو للتواصل الفردي أن تكتسب التأثير، إلى أن نتواصل هذه الاستراتيجية مع جوهر الناس، إنه مبدأ أساسي في كل الجهود التي تبذلها من أجل التأثير على الآخرين، سواء كان جمهورك يتمثل في طفل يبلغ الخامسة من العمر، أو خمسة آلاف موظف.
ذات مرة روى وزير سابق للتعليم في الولايات المتحدة الأمريكية كيف أنه لم يتعلم هذا المبدأ الأساسي للانخراط إلا بعد عامه الأول في العمل.
لقد كان يشعر بالارتياح حيال ما يحرزه من تقدم، لقد كان جريئاً، يخرج ويلقى الخطب وكان الناس يصفقون له ويبتسمون، وكان يحضر العديد من حفلات العشاء، والاجتماعات المترفة، وكان يبدو أن كل الأمور تسير سلسة بلا أية مشاكل. ولكن إلى أين؟
بينما كان هذا الوزير في منزله في أعياد رأس السنة ولديه بعض الوقت للتفكير، أدرك أنه رغم ما حققه من ظهور، وما أبداه من إنجازات واعدة، فإن إدارته ظلت على حالها، دون أي تغيير حقيقي. فهناك خمسة آلاف موظف يأتون في مواعيدهم، وينجزون الأعمال المنوطة بهم، ويعودون إلى منازلهم. لقد كان هناك حركة، ولكنها كانت حركة لا تكاد تذكر؛ هذا إن تحرك أي شخص داخل أو خارج جدران المكاتب في الأساس.
وأراد الوزير أن يفهم السبب. وعلى مدار أول شهرين في السنة التالية، قضى الكثير من الوقت مع المسئولين الذين يديرون وزارة التعليم بالفعل -العاملين في مجال الخدمات المدنية المهنية، الذين يمضون في طريقهم إلى الأمام بغض النظر عن نوعية الحزب السياسي الذي يقيم بالبيت الأبيض. لقد أدرك الوزير أنه رغم جلوسه في حجرة قيادة السفينة، وقيامه بإدارة الدفة، فإن الدفة لم تكن مرتبطة بأي شيء في الأسفل، وبما أنه لا يمتلك سلطة توظيف أو إقالة أي شخص من مناصب الخدمة المدنية، يصبح الطريق الوحيد الذي يستطيع من خلاله التأثير نحو إحداث تقدم إيجابي في إدارته هو بجذب الموظفين إلى صفه، وكانت المشكلة هي أنهم يرون السياسيين يأتون ويذهبون مما تسبب في تنامي الشعور بالتعب والسخرية فيما بينهم، حتى إنهم تخلوا عن استلهام الأفكار من القيادات العليا.
ولقد اقترحت زوجة الوزير طريقة لكي يفوز بهم إلى جانبه عن طريق تذكيرهم بأنه يشتعل حماساً نحو التعليم، وأن يقوم بذلك باستخدام أفعال جديدة، وليس كلمات جديدة. قالت الزوجة: "اذهب إلى المدارس، واقض وقتاً مع الأطفال، قم بأعمال صغيرة، وسوف يلاحظ كل شخص ما تقوم به؛ لأن هذه الأشياء هي التي تهمهم حقاُ".
رد غاضباُ:” إنني لا أقوم بالأشياء الصغيرة، إنني وزير التعليم، إنني أقوم بالأشياء الكبيرة”.
فردت الزوجة -وهي إبنة مندوب للمبيعات -مبتسمة: "عزيزي، إذا لم تستطع أن تقوم بالأشياء الصغيرة، فلن تقوم بالأشياء الكبيرة".
لقد كانت الزوجة على حق، وكان الوزير يدرك ذلك.
وخلال العام التالي له في العمل، جاب الوزير الولايات المتحدة الأمريكية، وشمر عن ساعديه، وقرأ القصص للأطفال، واستمع إلى المدرسين، وكان الناس يذكرون مدى حبه للعملية التعليمية، لقد كان هذا انتصارا شخصياً. ورغم هذا، كان الأهم من ذلك تأثير أفعاله على موظفيه. حيث استعاد الموظفون حماسهم -فتحمسوا من أجل أداء المهام اليومية، ومن أجل الوصول إلى مستوى أفضل للتعليم، ومن أجل توفير المزيد من الفرص أمام المزيد من العائلات. لقد استمدوا الإلهام من عمل الوزير؛ لأن أفعاله حققت شيئا لم تستطع الخطب والاجتماعات المترفة تحقيقه، لقد مست رغبة أساسية لدى العاملين في وزارة التعليم الأمريكية الذين لا يكلون ولا يملون: الهدف. لقد كانوا يريدون أن يستعيدوا الإيمان بالهدف من عملهم مرة أخرى، لقد كانوا بحاجة لمن يذكرهم بأن عملهم لا يزال مهماً، ولقد قام الوزير بذلك مما أدى الى تحويل دفة الأمور تماما. وفي هذا العالم السريح المحموم، من السهل أن نجد الصمت على تحليل مستوى الوزير. فالكثير من وسائل الاتصالات الرقمية تسير في اتجاه واحد، لدرجة أننا نعتقد أن فرصنا محدودة في اكتشاف وجهة نظر الآخرين. ورغم أننا نتواصل مع المزيد والمزيد من الناس في كل يوم، الا أن أسلوبنا يصبح أكثر انعزالا. فنحن نصبح أكثر ميلاً نحو التركيز على أفضل طريقة نبث من خلالها أهدافنا من وجهة نظرنا، على نحو سريع أو كبير أو كليهما معاً. أليس هذا هو ما نشهده في كل مكان حولنا؟ إن من السهل أن ننشغل بالصراع لدرجة أن ننسى ما كنا نستهدفه: الترابط، التأثير، الاتفاق، التعاون.
وربما نبدأ في الاعتقاد بأننا فزنا بالمعركة عن طريق التكرار والابداع العرضي فحسب -وهي استراتيجيات مفيدة عندما توضع في الإطار الصحيح، ولكنها غير كافية لتصبح استراتيجياتك الوحيدة للتأثير.
ورغم ذلك، فهناك جانب جيد لهذا الوابل المتواصل من الإذاعة الأحادية الجانب التي تغطي طائفة عريضة من المواقف والمؤسسات والمشاهير، وفي الوقت الحالي، ومع الضغط على بعض المفاتيح، يمكننا أن نعرف وجهات نظر وأهداف الآخرين على نحو أفضل.
ولقد ناقشنا في وقت سابق أخطار استخدام الفضاء الرقمي في إطلاق شكواك، فمعظمنا أكثر إدراكاً لما نفشيه من أسرار، فإننا نكشف الأمور المهمة بالنسبة لنا، وهي الأمور التي نفكر فيها كثيرا، والأمور التي نحبها ونأمل في رؤيتها تحدث في القريب العاجل، فهذه المعلومات التي تضاف إلى جسد المعرفة تقدم دلائل أو نوافذ واضحة تطل على رغباتنا الأساسية، وتزداد قيمة هذه المعرفة حيثما يكون هناك اهتمام بالتأثير، لأننا مثل العجل الذي كان يرغب في تناول المزيد من الطعام فحسب، نتحرنحومايحفزنافقط.