السمكة المنتفخة (المتنمرة)
في المرحلة الابتدائية، تميل الفتيات إلى التنمر بشكل يختلف عن الأولاد. فالأولاد يستخدمون القوة البدنية، ثم يتغير ذلك إلى الإساءة بالألفاظ في المرحلة الثانوية. أما الفتيات فيتنمرن بالرفض والنبذ أو باستخدام الإساءة المعنوية أو النفسية. فمثلاً يحدث هذا "النبذ" عندما تتمكن الفتاة أو المرأة من منع الآخرين من مصادقة الضحية أو التعامل معها، وقد تدعو فتاة أو امرأة هذا النوع جميع الفتيات أو النساء الأخريات ما عدا ضحيتها لحضور حفل عيد ميلادها. هناك العديد من البرامج التليفزيونية في الولايات المتحدة عن تنمر الفتيات على بعضهن. کنت في برنامج مونتيل ويليامز Montel Williams ورأيت أبوين أصيبت ابنتهما بحالة اكتئاب شديدة بسبب تجنب أقرانها من الفتيات لها أو السخرية منها أو تهديدها. فالمراهقون (أولاداً وبناتاً) يمرون بمرحلة يكون فيها آراء أقرانهم فيهم أكثر أهمية حتى من آراء آبائهم. وكان في هذا البرنامج العديد من الفتيات اللاتي شاركن في نبذ الضحية التي أصيبت بالاكتئاب في النهاية. شرحن كيف كن يقللن من شأنه ويلقبونها بألقاب مهينة لدرجة أنها شعرت أن حياتها لا قيمة لها. ولأن فكرة إصابتها بمثل هذا الاكتئاب الشديد لم تكن في ذهنهن، فلم يتوقعن أبداً أن ذلك يمكن أن يحدث، فلم يكن ذلك يخطر ببالهن على الإطلاق.
بعض السيدات يفعلن نفس الشيء؛ إذ لا يستطعن تجاوزه والتخلص منه برغم مرور الزمن. كل ما في الأمر أنهن يفعلنه الآن بحنكة وتمرس وبشكل أكثر "احترافية". طلبت إحدى السيدات، وكانت تشغل وظيفة إشرافية، من موظفيها حضور دورة تدريبية، كانت هذه الدورة مخصصة للمبتدئين، وكان يمكن أن تدرك ذلك لو كانت قد قرأت النشرة الدعائية الخاصة بها. كان موظفوها قد تجاوزوا مرحلة المبتدئين، ولذلك لم يستفيدوا كثيراً من تلك الدورة. وبدلاً من أن تعترف بأنها قد ارتكبت خطأ وتسترد الرسوم التي قامت بدفعها لتعيدها للموظفين، لجأت إلى التقليل من شأن الدورة الدراسية وألقت باللوم على رئيسها. وأثناء الغداء، تحدثت مع عدة أشخاص عن الندوة وأوضحت كيف أنها كانت ضعيفة وسيئة المستوى، وكان الحاضرون بصفة عامة قد استمتعوا بهذه الندوة. وبعد الغداء، كان هناك انخفاض حاد في معنويات الحاضرين؛ فقد عادت إلى الندوة بموقف سلبي ملأ الحجرة، ووجهت إلى المتحدث أسئلة متقدمة. رفض المتحدث الإجابة عن أسئلتها لأنها كانت فوق مستوى معرفة معظم الحاضرين في الندوة، فلم يرد تشتيتهم. وطوال الندوة، ظلت هذه السيدة تتحدث إلى الأشخاص الآخرين وتلقي بملاحظات ساخرة. لقد استطاعت أن تحول موقف عدد كبير من الحاضرين إلى نبذ ورفض المتحدث، وفي النهاية، كان عليه أن يطلب منها بشكل مهذب أن تغادر القاعة. لقد كانت سيدة متعلمة ومثقفة وعلى قدر من النجاح المهني، ولكنها كانت لا تزال تستخدم أسلوب النبذ والرفض في التعامل مع المواقف المختلفة.
والفتاة الصغيرة تعتبر النبذ وسيلة لتخويف وتهديد الآخرين. والمرأة أو الفتاة التي تستخدم هذا الأسلوب" تحاول أن تكون الفائزة وأن تكون "على حق". فإذا حصلت على تأييد الجميع، فذلك يبرر تصرفاتها، ويغطي مخاوفها وقلقها. والنبذ أمر غير بناء وغير ضروري، إلا أنه قد يكون الحل الوحيد الذي يعرفه الشخص، وفي محيط الأسرة، حيث يكون من المهم أن يكون الفرد "على حق"، وأن يكون "الفائز"، يصبح النبذ مسألة سيطرة. أي أن الشخص المسيطر هو الشخص الذي "على حق". وعادة ما يكون الأب أو الأم هو الشخص الفائز أو من على حق. ويعتنق الأبناء هذه الطريقة الخاطئة للتعامل مع الأمور، وهذا يحل محل الصفو والتعاطف في التعاملات مع الآخرين، وفي هذه الأسر، إذا أخطأ أحد الأفراد، فسيتم التقليل من شأنه بدلاً من توجيهه أو إعطائه مقترحات تساعده على التحسن.
وعندما يصبح هؤلاء الأبناء بالغين، لا يحاولون أن يكونوا سيئي الطبع، ولكنهم فقط يتعاملون مع الأمور بالطريقة التي تعلموها.
ويستخدم بعض السيدات (والرجال) طريقة النبذ عندما يختلفون مع الزوج فيعملن على تشويه صورة الأب أمام الأبناء. وقد لا يدركون الضرر الذي يسببه هذا السلوك لأبنائهم، فالأبناء سيدركون بأنفسهم كل شيء، (وإذا لم يكن الآن ففيما بعد). فليس أمراً طيباً أن يفكر الطفل بشكل سيئ في أحد أبويه (حتى ولو كانت به عيوب ضخمة). سيكتشف الأبناء هذه العيوب عندما يكونون مستعدين ولديهم القدرة للتعامل معها. فإبعاد الطفل عن أحد أبويه أمر له ضرر كبير. وتظهر الأبحاث أنه في حالة الطلاق، يتأثر الأبناء بالنزاع بين الوالدين أكثر من تأثرهم بالطلاق نفسه. وهذا هو السبب في أن معظم اتفاقات الطلاق تتضمن بنداً ينص على ألا يتم إبعاد الأطفال عن الطرف الآخر، بالطبع أحياناً ما يكون لدى بعض الأشخاص کره ومرارة وعداوة تجاه شريك الحياة (أو شريك الحياة السابق) مما يجعلهم لا يرون الصورة الأكبر ومدى تأثيرها على الأبناء. وكذلك هناك بعض الأشخاص الذين يعتقدون أن الأطفال ملجؤهم الوحيد للتحدث وتنفيس مشاعرهم. ورأيي أن عليهم إيجاد شخص ما للتحدث معه في هذه الأمور غير الأبناء. إن الإشارات والنظرات المحبطة قد يكون لها نفس التأثير السلبي لأساليب التحقير الشفوية. فأحياناً يصعب للغاية السيطرة على النفس وكبح المشاعر عندما يحدث الطلاق. فقد يرغب أحد الطرفين في التنمر على الطرف الآخر مثلما فعل الطرف الآخر معه، ولكن على كل منهما أن يتوخى الحذر ويراعي العيون والآذن الصغيرة التي ترى وتسمع ذلك. فالأطفال يتعلمون من القدوة، أكثر كثيرا من تعلمهم مما يقال لهم.
والتنمر أمر يتعلق بالسيطرة والمكانة، وقد يكون الطرف المتنمر ذكي لدرجة تجعله يلوم الضحية بشكل مقنع، ولكن عقلية المتنمر هي التي تظهر على السطح (أي أن المتنمر دائماً يلوم شخصاً آخر ويحتاج لكبش فداء). والأشخاص الذين
نشئوا في أسر سوية مترابطة قد تفاجئهم تلك التصرفات وتربكهم، ولا يفهمون عقلية السيطرة والهيمنة، وقد لا يدركون ما يحدث، وخصوصاً إذا كانت الشخصية المهيمنة بارعة في الإقناع واللوم، ولكن مهما أصبحت الصورة مشوشة، ستظهر دائماً في خلفيتها نقطة الهيمنة.
وفي عالم الكلاب، قد يتصرف كلب بشكل عدواني مع كلب آخر، وقد يظهر الكلب الآخر الخضوع والاستسلام بأن يرقد على الأرض رافعاً رقبته. وهنا لا يشعر الكلب الأول أنه مهدد، ولسوء الحظ، بعض البشر لا زالوا يتصرفون بهذه البدائية. وعلى أية حال، قد يكون ضرورية أن تكون بدائية، وهذا يعتمد على الشخص الذي تتعامل معه. ففي التعامل مع بعض الشخصيات، سيتعين أن يتحدد من سيكون الطرف المسيطر ومن سيكون الطرف الذي يخضع ويستسلم. في إحدى حلقات برنامج مونتيل ويليامز، استضاف مجموعة من الفتيات ولكن قائدة المجموعة لم تحضر. وظهرت بقية الفتيات اللاتي "استسلمن" للقائدة وكن في منتهى الندم عما فعلوه. وقد قلن جميعاً إنهن كن يحاولن فقط الاحتماء من خلال الانحياز لجائب القائدة، ولكن لم يكن قولهن هذا محاولة لإلقاء اللوم على القائدة، بل كن يحاولن تحمل المسئولية ويشرحن حقيقة الموقف، يمكنني أن أتخيل القائدة وهي تلقي باللوم على الضحية لأنها قد سلبتها حياتها، وتبرر ما فعلت، لأنها تخشى ما يمكن أن يحدث لها إذا ألقى الجميع باللوم عليها لما حدث. وهؤلاء الأشخاص (من هم مثل هذه القائدة) لا يخافون عادة من أي شيء، إلا مما قد يحدث لهم شخصياً إذا تم كشفهم.
إذن هذه هي اللعبة. فما الذي يفعله الرجل الذي يعيش مع امرأة من هذا النوع؟ إما أن يستسلم وإما أن يهيمن. فإذا اعتقد أن تلك المرأة ستكون قائداً عادة، فقد يخضع إذن ويستسلم. أما إذا كان لا يستطيع أن يتعايش مع تلك المرأة المتنمرة، فعليه أن يكون الطرف المسيطر أو يتحاشاها. وهناك بديل آخر، وهو الاحترام المتبادل، وهو يكون عندما يعرف كل طرف طبيعة الطرف الآخر وطريقة تفكيره، ويحاولان العمل معاً، وفي هذه الحالة، لن يحاول أن يسيطر عليها، ولن يسمح لها أن تسيطر عليه، ولكنه سيفعل ما يلي:
- يطالبها باحترامه.
- يعطيها الاحترام.
- يظهر أنه يحب المتنمرة (إذا كان ذلك ممكناً).
- يضعها في إطار إيجابي.
تحتاج هذه المرأة أن تشعر أنه يحترمها وأنه لا يمكن الهيمنة عليه. إذا شعرت بذلك، فستعامله بشكل يختلف عن معاملتها لهؤلاء الذين يمكنها السيطرة عليهم. قد تكون متخوفة بعض الشيء من أنه قد يحاول الهيمنة عليها، ولكنها تشعر بالارتياح لأنه يحبها. فالمرأة المتنمرة تحتاج وتستجيب بشكل جيد لمن يرعاها. لا ينبغي أبداً أن يرعاها بطريقة الاستعلاء، ولا ينبغي أبداً أن يحتقرها. عليه دائماً أن يجد الأسباب التي تجعله يحبها (بصدق)، ويؤيدها ويساندها. وإذا لم يستطع فعل ذلك، فعليه أن يحذر!
أتذكر عندما ذهبت ذات مرة للفلبين لمدة ثلاثة أسابيع. لم أستطع فهم لغتهم، لذلك تعلمت أن أقرأ وأفهم الناس بلغة غير شفوية، عن طريق رؤية تعبيراتهم وتصرفاتهم، وقد اعتدت على هذا الوضع عندما عدت إلى الولايات المتحدة وحضرت اجتماعاً تنفيذياً في إحدى الشركات. كانت هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها هؤلاء الأشخاص معاً، وما رأيته بعيداً عن التعبيرات الشفوية جعلني أضحك بيني وبين نفسي. كان هناك العديد من التنفيذيين يناورون للسيطرة على الباقين. من سيكون قائد القادة؟ الواحد تلو الآخر، كانوا يخضعون وينسحبون من الصراع (مثلا بالنظر لأسفل أو النظر بعيداً أو الهدوء أو الابتسامة المصطنعة)، إلى أن وصلنا إلى آخر اثنين، تری من سيكون الفائز؟ وأخيرا انتصر أحدهم، وكان هو الأكثر همجية، وكان هذا هو العامل الحاسم. وبالطبع لم يفز الأكثر تعقلاً ولا الأكثر عدة، بل الأكثر هيمنة وسيطرة. ربما الأعلى صوتاً هو من يفوز في مواقف كهذه. وعادة ما يصحح هذا الوضع نفسه مع الوقت، وذلك لأنه إذا اتضح أن الشخص المهيمن ظالم أو غير عقلاني، فإن القادة الذين يتمتعون بالاحترام المتبادل فيما بينهم سوف يتحدون ويطيحون بالعضو المسيطر الفاسد.
وبالرغم من أن المتنمرين قد يستخدمون أساليب مختلفة ويسعون لتحقيق غايات مختلفة، إلا أن الدوافع الأساسية واحدة: الهيمنة والتنافس. فالنقطة الجوهرية عند بعض الأشخاص لا تتمثل في العدل والأخلاق أو المثل العليا، ولكن في الهيمنة، سوف يفيدك أن تعرف اللعبة عندما تشاهدها تمارس أمامك.
وفي المتنمرين (ذكوراً أو إناثاً) تجد هذه الثلاثية المكونة من: الذات، والتكبر، والإحساس بالاستحقاق. مثل القطة التي تواجه عدواً. هل شاهدت من قبل القطة في هذا الموقف وهي تنفخ فراءها وتقوس ظهرها حتى تبدو أكبر حجما؟ بل إن القطة قد تقف على قدميها الخلفيتين لتبدو أكبر وتصدر صوتاً بغيضاً مزعجاً.
كان لدينا قط مسالم للغاية، ولكنه كان كبير الحجم. وكان لدى جار لنا کلبان أسودان. كانا كبيرين في الحجم ولكنهما كانا صغيري السن ولا يزال لهما عقلية الجرو الصغير، وكانا أحياناً يأتيان لشرفتنا الخلفية، فإذا شاهدهما القط، كان يغضب ويرفع فراءه ويصدر مواءً مرتفعاً، ويجري نحو المطبخ بسرعة بالغةً، ويتوجه نحو الباب المؤدي إلى الفناء ويظل يضرب عليه بكفه محدث صوتاً مرتفعاً فيهتز الزجاج ويخاف الكلبان وينصرفان بعيداً. ثم يمشي القط بعد ذلك في خيلاء وكأنه ملك الغابة. وفي أحد أيام الصيف، نسي أحد أبنائي هذا الباب مفتوحاً. كنت منهمكا في شيء ما وأجلس على مائدة المطبخ ثم جاء الكلبان نحو الباب. ثم حدث ودخل القط إلى المطبخ ورأى الكلبين، فبدأ الخطوات المعتادة، فرفع فراءه، وأصدر مواءه العالي، وتوجه مسرعاً نحو الباب، ووقف على أرجله الخلفية وتوجه للقرع على زجاجه، ولكنه لم يجد الزجاج، فسقط بالخارج عند الكلاب، فتجمد مكانه في الفناء، أخذ الكليان يلعقانه، ولك أن تتخيل منظر فرائه مبتلا فوق رأسه في المناطق التي لعقها الكلبان. وقد كانت صدمة كبيرة له، وبعدها تحرك بحذر مبتعداً عنهما وعاد للمطبخ، ثم استدار وهرول بعيداً، ونظر للخلف عدة مرات وعلى وجهه نظرة خزي. ورمقني بنظرة وهو يستدير، وبدا أنه في غاية الخزي وضحكت بشدة حتى كدت أسقط من فوق الكرسي.
إن الذات مثل البالون، وخزة بسيطة وتتلاشى. أما في حالة تقدير الذات المحمود، فالوخزة البسيطة ليست إلا وخزة بسيطة. تذكرت أنني رأيت ذلك من قبل مع بعض التنفيذيين. أذكر امرأة كانت تحظى بقبول كبير وأصبحت نائبة الرئيس، سمعت أكثر من مرة مديراً تنفيذياً يقول: "سأضعها في حجمها الصحيح". كانت هذه السيدة ناجحة للغاية في الحفاظ على منصبها، حتى إن جميع محاولات هذا الشخص كانت تبوء بالفشل، وكانت تجعله يبدو سيئاً كحقيقته، وكانت تحظى باحترام جميع مدیریها (عکس العمل في خوف)، وكانت متعاونة (عكس الأنانية)، وواثقة في نفسها (عکس الغرور، ولها هدف (عکس الشعور بالاستحقاق)، ومتحمسة (عكس الغضب). وكانت تبادر بالتقصي بدلاً من أن تأخذ موقف الدفاع. كانت تبالي بالآخرين بدون استعلاء أو تقمص شخصية القائد. لم تكن مسيطرة لدرجة كبيرة كما لم يكن من الممكن أن تقع تحت سيطرة أحد. إنها لم تتورط في تلك اللعبة. كان في شخصيتها سحر حقيقي، وهذا ما جعلها قائدة. لم يكن ما يهم هو الحيل التي تعرفها ولا أساليب الخداع النفسية، ولكن ما كان له الأثر الكبير هو شخصيتها الحقيقية. لم تكن تسمح أن يتنمر عليها أحد، يغلب على الرجال التوحد مع حقيقتهم ومع ما يفعلون، أما النساء فيملن للانجذاب نحو "كينونة" مختلفة عن "الفعل". ويمكن أن ينجح هذا بشكل كبير. هل أنت فعلا في أفضل صورة يمكن أن تكون عليها؟ ليس معنی کلامي هذا أنني أقترح أن نغير شخصياتنا، ولكن ننقلها فقط للمستوى التالي. سنرى ذلك بوضوح أكثر تحت عنوان "الحل الشامل" في نهاية الكتاب (لا تسبق الأحداث، فكما قلت لك من قبل : هذا الكتاب هو عملية متدرجة).