إن علاقة العقل الباطن بالأقسام الستة الأخرى من العقل، والمشار إليها في العرض التوضيحي رقم ۲، متشابهة في أوجه عديدة مع علاقة المزارع بقوانين الطبيعة التي تنمو بها محاصيله.

 فعلى المزارع أداء واجبات معينة ثابتة، مثل إعداد التربة، وزراعة البذور في الموسم المناسب، والتخلص من الأعشاب الضارة، وبعدها ينتهي عمله. ومنذ تلك المرحلة فصاعدا، تتولى الطبيعة أمر البذور، وتبتها، وتصل بها إلى مرحلة النضج، وتنتج المحاصيل.

  ويمكن تشبيه العقل الواعي بالمزارع في كونه يمهد السبيل بوضع الخطط والأهداف، تحت توجيه ملكة الإرادة. وإذا أدي هذا العمل على نحو صحيح، وأنشئت صورة واضحة لما هو مرغوب (تمثل الصورة بذرة الغاية المرغوبة )، فسوف يقوم العقل الباطن بتناول الصورة، والاستعانة بقوة الذكاء المطلق - لأنها مطلوبة لتحويل هذه الصورة - والحصول على المعلومات الضرورية، وتقديمها للعقل الواعي في صورة خطة عملية للأمر.

الانضباط الذاتي

وعلى النقيض لقوانين الطبيعة، التي تنبت البذور وتنتج المحاصيل للمزارع في مدة زمنية محددة ومقررة مسبقا، يتولى العقل الباطن أمر بذور الأفكار أو الغايات التي تقدم إليه، ويحدد وقت توصله لخطة لتحقيقها.

وقوة الإرادة - المعبر عنها بالرغبة المتقدة - هي الأداة الوحيدة التي يمكن بها تسريع عمل العقل الباطن. وهكذا، فمن خلال امتلاك المرء لزمام عقله بممارسة قوة الإرادة، سوف يمتلك قوة هائلة. وسيادة قوة الإرادة - حتى يمكن توجيهها نحو تحقيق أي غاية منشودة - هي الانضباط الذاتي في أسمى صوره. والتحكم في الإرادة يتطلب المثابرة، والإيمان، وغاية محددة.

وفي مجال المبيعات، مثلا، من الحقائق المعروفة لدى كل مندوبي المبيعات المتفوقين أن مندوب المبيعات المثابر يتصدر القائمة في عمليات البيع. وفي بعض مجالات البيع - مثل التأمين على الحياة - تعد المثابرة ممتلكا ذا أهمية أساسية لمندوب المبيعات. والمثابرة، سواء في مجال المبيعات أو أية مهنة أخرى، مسألة انضباط ذاتي بحت.

وتنطبق القاعدة ذاتها على مجال الإعلان، فأكثر العاملين في هذا المجال نجاحا يعملون بمثابرة قوية، ويكررون جهودهم شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، بانتظام لا ينقطع، وخبراء الإعلان المحترفون لديهم دلیل مقنع على أن هذه هي السياسة الوحيدة التي تجلب نتائج مرضية.

والرواد الذين أسسوا الولايات المتحدة الأمريكية أظهروا ما يمكن تحقيقه عند فرض قوة الإرادة من خلال المثابرة.

وفي فترة متأخرة من تاريخ بلادنا، أثبت "جورج واشنطن" وجنوده القليلون المزودين بقليل من المؤن، وملابس رثة، وعتاد قليل مرة أخرى أن قوة الإرادة المدعومة بالمثابرة لا تقهر.

ورواد الصناعة الأمريكية - مثل "هنري فورد"، و"توماس إيه. إديسون"، و"أندرو كارنيجي" العظماء - أظهروا لنا أيضا منافع قوة الإرادة المدعومة بالمثابرة. وهؤلاء الرواد، وكل من على شاكلتهم ممن قدموا إسهامات عظيمة الطريقة الحياة الأمريكية، تمتعوا بالانضباط الذاتي، وقد اكتسبوه أيضا من خلال قوة الإرادة المدعومة بالمثابرة.

والمسيرة المهنية الخاصة ب "كارنيجي" تقدم مثالا رائعا عن المنافع التي يحققها الانضباط الذاتي. وقد قدم إلى أمريكا عندما كان فتى صغيرا جدا وبدأ حياته العملية كعامل. وكان لديه القليل من الأصدقاء، ولم يكن من بينهم أحد ثري أو ذو نفوذ ، ولكن كانت لديه قدرة هائلة على التعبير عن قوة إرادته.

      ومن خلال اشتغاله بالعمل اليدوي نهارا والدراسة ليلا، تعلم استخدام التلغراف، وشق طريقه حتى وصل في النهاية إلى منصب العامل الخاص بقسم المراقبة في شركة السكك الحديدية بولاية بنسلفانيا. وخلال اشتغاله بهذا المنصب، قام بتطبيق فعال لبعض مبادئ هذه النظرية، ومن بينها مبدأ الانضباط الذاتي، لدرجة أنه جذب انتباه رجال ذوي ثراء ونفوذ شغلوا مناصب استطاعوا منها مساعدته على تحقيق غايته الكبرى في الحياة.

وعند هذه المرحلة من مسيرته المهنية، كان يتمتع بالمميزات التي يتمتع بها المئات من عمال التلغراف الآخرين، لا أكثر، ولكنه كان يملك شيئا لم يكن يملكه غيره من العمال، ألا وهو إرادة الفوز وفكرة واضحة عما كان بريد، إضافة إلى المثابرة على تنفيذها إلى أن حققها.

وكان هذا أيضا حصيلة الانضباط الذاتي!

     وكانت الصفات الرائعة التي تمتع بها السيد "كارنيجي" هي قوة الإرادة والمثابرة، علاوة على الانضباط الذاتي الحازم الذي كان يتحكم به في هاتين الصفتين ويوجههما نحو تحقيق غايته المحددة. وبخلاف تلك الصفات لم تكن لديه صفات بارزة لا يملكها غيره من الأشخاص ذوي الذكاء العادي. وبممارسته     لقوة إرادته، تبنى غاية كبرى محددة وتشبث بها إلى أن جعلته أعظم قائد من قادة الصناعة الأمريكية، ناهيك عن مقدار الثروة الضخمة التي جمعها. وبدافع من قوة إرادته، المنضبطة ذاتيا على نحو صحيح والموجهة نحو تحقيق غاية محددة، أسس شركة الصلب الأمريكية العظيمة، والتي أشعلت ثورة في صناعة الصلب ووفرت فرص عمل لجيش ضخم من العمال المهرة وغير المهرة.

وهكذا، نرى أن الشخص الناجح يبدأ بتطبيق الانضباط الذاتي، سعيا لتحقيق غاية محددة، ومواصلة هذا السعي إلى أن يحقق غايته تلك بمساعدة ذلك المبدأ  ذاته.