من السمات الغريبة ل "الإيمان بمفهومه الصحيح" أنه يظهر بوجه عام نتيجة بعض الحالات الطارئة التي تجبر الناس على التطلع بعيداً عن قوة التفكير العادي إلى حلول لمشكلاتهم. وخلال هذه الحالات الطارئة نتوصل إلى تلك القوة السرية الداخلية التي لا يمكن لأية صعوبات قوية أن تقهرها.

 ولتتأمل المثال الرائع لقائدة الحركة المناصرة للديمقراطية بميانمار                ( المعروفة سابقاً ب بورما) "أون سان سوتشي" السجينة، والتي شاركت في سياسات بلدها. وكان هناك اعتقاد بأن والدها، "أونج سان"، هو مؤسس بورما الحديثة، وتم اغتياله خلال تمرد سياسي عندما كانت "أون سان" في الثانية من عمرها، ثم غادرت البلاد بعدها للدراسة في الخارج.

     وما إن أتمت "أون سان" دراستها الجامعية ب أوكسفورد وتزوجت برجل انجليزي وأنجبت منه حتى عادت إلى وطنها لتجد بورما في حالة من الفوضى وتموج بالفساد السياسي. وبدأت تتحدث علانية عن الديمقراطية وعدم العنف، واجتذبت عدداً كبيراً من التابعين. وبمجرد أن شعرت الحكومة بتهديد من شعبيتها، وحنقت الانتصار حزب "أون سان" السياسي في انتخابات ديمقراطية وطنية، وضعتها قيد الإقامة الجبرية، ومنعتها من رؤية أي أحد من أفراد عائلتها أو أصدقائها.

وكان إيمانها هو ما منعها من التخلي عن معتقداتها أو الاستسلام لمطالب حکومتها الديكتاتورية، إلى أن نالت جائزة نوبل للسلام لشجاعتها. وفي ذلك  الحين، عرف العالم كله دفاعها عن الحقوق المدنية، وكانت هذه الشهرة العالمية في ما حمتها من التعرض لمزيد من الأذى من قبل المجلس العسكري الذي

الفصل التاسع

كان يحكم المنطقة. ولعدة سنوات، ظلت تحتجز قيد الإقامة الجبرية من حين إلى آخر. وكانت هناك شائعة دائمة تفيد بأنه سيتم إطلاق سراحها قريبا ويعاد تأسيس الديمقراطية.

والإيمان بلا مخاطرة إيمان خامل، وهو كما قالت "هيلين كيلر": "ليس أقوى من حاسة البصر في عين لا تنظر أو تبحث في الخارج".

ولتفحص سجلات بعض القادة العظام، فهم أيضاً اكتشفوا تلك القوة السرية النابعة من الداخل، وتوصلوا إليها، واستعملوها، وحولوا البرية الشاسعة إلى "مهد للديمقراطية".

اختيار طريق الإيمان، لا الخوف

  جميعنا يعلم عن إنجازات أولئك القادة العظام. ونعرف قواعد قيادتهم؛ فنعي طبيعة أعمالهم ومدى النعم التي منحتها لشعب هذه الأمة، وبفضل رؤية "أندرو كارنيجي"، حفظنا للشعب فلسفة الإنجاز الفردي التي ساعدت أولئك القادة على جعل هذا البلد أكثر بلدان العالم ثراء وحرية.

ولكن من المحزن أننا لسنا جميعاً نعي المعوقات التي عمل أولئك القادة تحت وطأتها، والعقبات التي تغلبوا عليها ، وروح الإيمان الفعال التي استمروا في أداء عملهم به. ورغم هذا، فقد نكون واثقين بأن إنجازاتهم كانت على قدر المواقف الطارئة التي تغلبوا عليها بالضبط. وقد قوبلوا بمعارضة من أولئك الذين قدر لهم أن ينالوا أكثر استفادة من كفاحهم - الأناس الذين كانوا دائماً ما ينظرون بارتياب - بسبب افتقارهم للإيمان الفعال - ويشكون في كل ما هو جديد وغير مألوف.

  وغالباً ما تقود المواقف الطارئة في الحياة الناس إلى مفترق الطرق، حيث يكونون مجبرين على اختيار وجهاتهم، ومكتوب على أحد الطرق كلمة "الإيمان"، ومكتوب على آخر كلمة "الخوف"!

ما الذي يحمل الغالبية العظمى من الناس على اتخاذ طريق الخوف؟ يتعلق الاختبار بالتوجه العقلي للمرة.

  والشخص الذي اتخذ طريق الإيمان قد هيأ عقله للإيمان: وقد هيأه بقدر بسيط في كل مرة من خلال اتخاذ قرارات عاجلة وشجاعة بناءً على تفاصيل الخبرات اليومية. أما الشخص الذي اتخذ طريق الخوف فقد أهمل تهيئة عقله لأن يكون إيجابياً.

الايمان العملي

في واشنطن. كان هناك رجل يجلس على مقعد متحرك وبيديه علبة من الصفيح ومجموعة من أقلام الرصاص، ويكسب القليل من الرزق بالشحاذة. وكان عذره للشحاذة هو أنه فقد القدرة على استخدام ساقيه. ولم يكن عقله مصاباً . وكان قوياً صحيح البدن، ولكن اختياره قاده إلى قبول طريق الخوف عندما أصابه مرض مروع، بينما ضعف عقله بسبب قلة استخدامه.

وفي موضع آخر من المدينة ذاتها، كان هناك رجل آخر مصاب بالنوع ذاته من الإعاقة. وقد فقد هو أيضا القدرة على استخدام ساقيه، ولكن رد فعله نحو ذلك كان مختلفاً جداً. فعندما وصل إلى مفترق الطرق حيث كان مجبراً على الاختيار، اختار طريق الإيمان، وقد أوصله مباشرة إلى البيت الأبيض واعتلاء أرفع وظيفة بين الشعب الأمريكي.

      وإنني أتحدث بالطبع عن "فرانكلين ديلان روزفلت". ففي اللحظة التي فقد فيها القدرة على استخدام طرفيه نال القدرة على استخدام عقله وإرادته، ومن المعروف أن هذا المرض لم يعقه أن يصبح من أكثر الرجال الذين تقلدوا منصب الرئيس فاعلية.

وكان الفارق بين موقفي هذين الرجلين عظيماً جداً. ولكن لا تنخدع بسبب هذا الفارق، فما هو إلا فارق في التوجهات العقلية، فأحدهما اختار الخوف کمرشد له، أما الآخر فاختار الإيمان.

  وعندما تعاين الظروف التي ترفع بعض الأشخاص إلى منازل عليا في الحياة تحكم على الآخرين بالفقر، فمن الراجح أن تجد أن منازلهم الشديدة الاختلاف في انعكاس لتوجهاتهم العقلية الخاصة بكل منهم. فمن رفعوا إلى المنازل العليا   إختاروا طريق الإيمان العالي، بينما اختار الأخرون طريق الخوف المنخفض، تاركين التعليم، والخبرة، والمهارات الشخصية كأمور ذات أهمية ثانوية.

   عندما قام معلم "توماس إيه. إديسون" بإرساله إلى المنزل، في نهاية الثلاثة أشهر الأولى من التحاقه بالمدرسة، مع رسالة إلى والديه تقول إن لديه عقلا مشوشاً" ولا يمكنه التعلم، كان لديه أفضل الأعذار ليصبح منبوذاً، وعاطلاً،       تافهاً، وهذا بالضبط ما كان سيصير عليه في ذلك الوقت. وكان يشتغل بأعمال غربية، ويبيع الصحف، ويعمل بأدوات ومواد كيميائية إلى أن أصبح ما يعرف بـ صاحب كل الحرف" ولا يتقن أياً منها.

   ثم بزغ شيء ما في عقل "توماس إيه. إديسون" قدر له أن يجعل اسمه خالدا، فمن خلال عملية ما غريبة لم يكشفها للعالم بشكل تام قط، اكتشف القوة السرية الداخلية، وتولى زمامها، ونظمها. وفجأة، وبدلا من أن يصبح رجلاً ذا عقل "مشوش"، أصبح العبقري الرائع صاحب الاختراعات لكل العصور.

     والآن، وأينما رأينا ضوءاً كهربياً، أو سمعنا موسيقى تسجيلية، أو شاهدنا   أحد الأفلام، ينبغي علينا أن نتذكر أننا نشاهد نتاج تلك القوة السرية الداخلية، والمتاحة لنا مثلما كانت متاحة ل "إديسون" العظيم. فضلاً عن ذلك، ينبغي علينا أن نشعر بالخزي الشديد إذا لم نستخدم هذه القوة العظيمة، من خلال التجاهل أو اللامبالاة.

   ومن أكثر سمات هذه القوة السرية الداخلية غرابة هي أنها تساعد الناس على نيل كل ما يوجهون قلوبهم نحوه، أي أنها تترجم الأفكار المهيمنة على المرء إلى واقع.

ويمكن أن يمتد المثال ليشمل كل مهنة ومسعى إنساني. ففي كل مهنة، هناك القليلون ممن يصعدون إلى القمة في حين أن جميع من حولهم لا يتعدون المراتب المتوسطة.

   ومن ينجحون عادة ما يسمون ب "المحظوظين". وبالتأكيد هم محظوظون. ولكن تعرف على الحقائق وسوف تكتشف أن "حظهم" يكمن في القوة السرية الداخلية التي استعملوها من خلال توجه عقلي إيجابي وعزم على اتباع طريق الإيمان بدلاً من طريق الخوف والتقييد الذاتي.

والقوة السرية الداخلية لا تعرف ما يسمى بالعقبات الدائمة.

وهي تحول الإخفاق إلى تحد ببذل جهد أعظم.

ونزيل القيود المفروضة ذاتيا مثل الخوف والشكوك.

وفوق كل شيء آخر، تتيح لنا تذكر أنها لا تضع علامات سوداء في تاريخ أي أحد لا يمكن محوها.

      وإذا تحركت من منطلق القوة الداخلية، فكل يوم سوف يجلب لك فرصة جديدة لتحقيق الإنجازات الفردية، والتي لا تحتاج بأية حال من الأحوال إلى أن تنقل بإخفاقات الأمس.

  وهي لا تميز عنصراً من أخر أو مذهباً عن غيره، ولا ترتبط بأي رباط ظالم يجبر المرء على البقاء في الفقر لكونه ولد فيه. والقوة الداخلية هي الوسط الذي

الإيمان العملي

يمكن خلاله تغيير أثار قوة العادة الكونية من تطبيق سلبي الى ايجابي على الفور. ولا علاقة لها بالحوادث السابقة، ولا تتبع أية قواعد صعبة وسريعة، وتقدم السبيل السريع الوحيد لنيل الحرية الشخصية والتحرر.

وكانت هي الملهمة للشاعر "آر. ال. شارب"، الذي قال في قصيدته "A Bag

"of Tools

أليس من الغريب أن الأمراء والملوك

والمهرجين الذين يتراقصون في حلقات،

والأناس العاديين مثلي ومثلك،

جميعنا بناة للأبد.

وكل منا يعطي كتاب قواعد،

ومجموعة من الكتل الحجرية وحقيبة أدوات،

ويجب على كل منا أن يشكل بها قبل انتهاء الوقت

عائقاً أو حجر عبور.

 ولتبحث إلى أن تكتشف المغزى من التوصل إلى هذه القوة السرية الداخلية، وعندما تكتشفه ستكون قد اكتشفت نفسك الحقيقية، أي "نفسك الأخرى" التي تستفيد بكل خبرة من خبراتك الحياتية.

وحينها، سواء أصنعت مصيدة فئران أفضل، أم ألفت كتاباً أنفع، أم ألقيت خطبة أبلغ، فسوف يأتي العالم إلى بابك، ويقدر قيمتك، ويكافئك، مهما كان شخصك أو طبيعة ومدى إخفاقاتك السابقة.

ماذا لو أخفقت في الماضي؟

كذلك فعل "إديسون"، و"فورد، والأخوان "رايت"، و"أندرو كارنيجي"، وكل القادة الأمريكيين العظماء الذين ساعدوا على تأسيس أسلوب الحياة الأمريكي. وقد لاقى جميعهم الفشل بصورة ما أو أخرى، ولكنهم لم يسموه فشلاً، بل سموه "إخفاقاً مؤقتاً".

ويمكن لأي أحد الانسحاب حينما يصبح المسعى صعبا!.

ويمكن لأي أحد أن يشعر بالأسف على نفسه حينما يواجه إخفاقاً مؤقتاً، ولكن الملاطفة الذاتية لم تكن من شيم من ألفهم العالم أناسا عظماء.

والتوصل إلى تلك القوة الداخلية لا يمكن تحقيقه بالرثاء على الذات، ولا بالخوف والجبن، ولا بالحسد والكراهية، ولا بالبخل والطمع.

لا، في نفسك الأخرى" لا تنتبه لأي من هذه السلبيات، وإنما تظهر نفسها من خلال العقل الذي نقي من كل التوجهات العقلية السلبية. وتزدهر في العقل الذي يرشده الإيمان!

وهي ليست فلسفة جديدة لإنجاز يحتاج إليها العالم، بل هي تفانٍ جديد للقديم وتجربة المبادئ التي تقود إلى اكتشاف تلك القوة الداخلية التي "تحرك الجبال" .

والقوة التي أنتجت قادة عظاماً في كل دروب الحياة ومن كل جيل لا تزال متاحة. وأصحاب الرؤى والإيمان، الذين تصدوا للجهل والخرافة والخوف، قد قدموا للعالم كل ما نعرفه بـ الحضارة.

ولا تكتسي هذه القوة بأي غموض ولا تصنع أية معجزات، ولكنها تُفَعَّل من خلال أعمالنا اليومية، وتعكس ذاتها في كل خدمة تقدم لصالح البشرية.

ويطلق عليها عدد لا حصر له من الأسماء، ولكن طبيعتها لا تتغير أبداً، مهما كان اسمها التي تعرف به. وهي تعبر عن نفسها من خلال التأملات، والأفكار، والخطط، والغايات. وأعظم ما يمكننا قوله عنها هو أنها مجانية كالهواء الذي نتنفسه، وواسعة كالفضاء الكوني.