الأدب والفنون هي اشكال من التعبير عن الفكر الإنساني، وتحمل في طياتها على مر العصور انعكاسا للمشاعر الانسانية المختلفة التي تعبر عن مواقف الحياة بما تزخر به من احداث وصراعات وخبرات سارة، واخرى اليمة، وإحدى اهم هذه الخبرات واعمقها أثرا في النفوس هي حالة الحزن والكآبة التي تلبث تنتاب الانسان من حين إلى آخر منذ الخليقة وحتى يومنا هذا بدليل ما تركته من بصمات على نتاجه من تراث الآداب والفنون.
الاكتئاب في تراث القدماء :
إذا تتبعنا الفكر الإنساني منذ أقدم العصور نجد رنه الحزن والاكتئاب تشنيع في ثناياه حتى ليخيل إلى المرء أن الكآبة والياس ترتبط بالإنسان منذ يولد وحتی يستقر في قبره، ففي ما وصل الينا من التراث الحضاري لمصر القديمة نجد أن اساطيرهم تعبر عن ما متوعة، فقصة الصراع بين الخير والشر التي ترمز لها اسطورة " إيزيس واوزوريس " وارتباط نهر النيل بالدموع المنهمرة، وغير ذلك مما أرسى منذ ذلك الحين طبائع اكتئابية راسخة لا تزال قائمة في مصر حتی يومنا هذا حيث يشترك الشعب بأكمله في تقاليد عميقة للأحزان، بينما لا يوجد للأفراح لدينا عادات بنفس العميق والاتساع.
الاكتئاب في تراث القدماء :
في الكتابات التاريخية الإغريقية القديمة، ورد وصف الجنون، وحظيت حالات الاكتتاب بالذات بوصف لا يضفي عليها في الغالب منة المرض الشليه فنظر اليها على انها تغير في الوجدان والمشاعر استجابة لمآسي الحياة تارة، ونتيجة لغضب الآلهة تارة اخرى كما تذكر الأساطير، ومن اطرف هذه الأساطير ما يرجع آلام الانسان في هذا العالم إلى ما فعلته به الآلهة حين شطرته الي نصفين، الذكر والانثي، وصار على كل جزء أن يبحث شطره الآخر في كل العالم فلا يجد ای نصف آخر لا يتوافق معه، ويستمر العذاب .
وفي تراث بلاد ما وراء النهر تدل الأساطير الهندية القديمة على نفس الاتجاه، فقد طلب احد الملوك من علمائه أن يكتبوا له كل تاريخ حياة الإنسان، فاتوا له بمجلدات هائلة تضم ما اراد، لكنه كان يحتضر فطلب منهم تلخيص كل ما سجلوه عن حياة الانسان بإختصار شديد، فقال له كبيرهم : " الانسان يولد، ويتالم، ويموت " !
الاكتئاب في آداب الشرق والغرب :
ولقد رسم شكسبير في شخصياته نماذج تكاد تكون حية لحالات تعبر عن شتى المشاعر الإنسانية، ومنها حالة الحزن والكآبة، ولعل في شخصية " هاملت " مثالا لذلك حين يتحدث فيصف ياسه من كل العالم من حوله، وكيف انه قد فقد الاستمتاع بكل متع ومباهج الحياة، وفي كتاباته الأدبية يتحدث " شكسبير " عن الحزن الذي لا يجد متنفسا بالكلام، فيهمس الى القلب فيكسره ، وهذا هو نفس مضمون عبارة مأثورة ذات محتوى علمى للطبيب الشهير " مودزلی " يقول : " إن الحزن الذي لا نعبر عنه بالدموع، يتجه الى اعضاء الجسم ويحطمها" .
وقد ارتبط الاكتئاب بالمثالية لدى العديد من الأدباء والكتاب، ومنهم " شوبنهاور " الألماني الذي حدثت في وقته واقعة الانتحار الجماعي في المانيا في مطلع هذا القرن، ويذكر لنا التاريخ أن العديد من العظماء والمبدعين في الفن والأدب والسياسة قد اتصفوا بما يشبه الاكتئاب النفسي الذي كان يبدو عليهم في احوال من التطرف تصل الى الجنون أحيانا، من هؤلاء ابن الرومي الشاعر العربي المعروف الذي اشتهر بالتشاؤم وتوقع النحس، وشاعر فرنسا " بودلير " الذي كانت تنتابه الكأبة باستمرار، وفي السياسة هناك " تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أبان الحرب العظمى الأخيرة حيث كان يعاني من الاكتتاب ف ي اواخر ايامه وكان يتوهم عند وفاته انه مطارد من كلب اسود، و " فان جوخ " عرف بحالة الاضطراب النفسي الشديد التي تنتابه حتى لقد قطع اذنه اليسرى ذات مرة ليهديها الى امراة، ولعل من اشهر لوحاته ما تحمل اسم " المكتئب " ! كما يوجد لوحات اخرى من الفن العالمي تحمل عنوان " الاكتئاب" و "الصرخة" وغير ذلك من دلالات الاكتئاب .
الاكتئاب .. في الشعر العربي :
الشعر وهو الكلمة المنظومة واحد من أرفع الأساليب التي يستخدمها الإنسان للتعبير عما يجيش في نفسه من مشاعر وخلجات، ولقد بقي الشعر على مر العصور ورغم ما حدث من تغيير في شكله ومضمونه - الوسيلة القادرة على التعبير اللفظى عن الشعور الإنساني في مواقف الحياة المختلفة بما فيها من أحداث وصراعات، وانفعالات، وخبرات سارة، واخرى اليمة .
ولعل الحزن والكآبة هي من أكثر التجارب الأليمة التي يمكن أن تتحول في خيال الشاعر الى تجربة شعورية توحى اليه بأشجي الاشعار، ولعل من فضل المصائب على الانسان انها تعيده بالألم إلى أنسانيته فإذا به يتحول الى قيثارة تعزف الحنا يفيض بالشجن، وتزدحم كتب الشعر العربي بأشعار تعبر عن هذه التجربة ف ي مناسبات مختلفة، وربما كان أهمها التأثر بفقد عزيز او حبيب حيث ترى من المرائی العديدة في كل العصور ما تضيق به المجلدات نسوق البعض منها .
يقول أبو العلاء المعري في رثاء صديق له :
غير مجد في ملتى واعتقادی نوح باك ولا ترنم شادی
ويقول :
ان حزنا في ساعة الموت اضعا ف سرور في ساعة الميلاد
ويقول جرير يبکی زوجته :
لولا الحياء لها جتى استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار
لا يلبث القرن اء أن يتفرقوا ليل يكر عليهم ونهار
ومالك بن الريب يرثي نفسه بأبيات من الشعر مؤثرة القاها وهو يحتضر:
الا ليت شعري هل ابيتن ليلة بجنب الغضا ازجي القلاص النولجيا فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه وليت الغضا ماشي الركاب لياليا
فهو يتمنى لو تأخر وفاته ليعود الي اهله ووطنه ولا تنتهي حياته بهذه الصورة.
وعلى زوجته ايضا بکی محمود سامي البارودي في منفاه :
هيهات بعدك أن تقر جوانحی اسفا لبعدك أو يلين مهادی ولهي عليك مصاحبا لمسيرتي والدمع فيك ملازم لوسادی
اسباب ومظاهر الاكتتاب في الشعر العربي:
ويقول شوقی امير الشعراء في تأملات عن الحياة والموت :
خلقنا للحياة وللممات ومن هذين كل الحادثات
ومهد المرء في أيدي الرواقي كنعسن المرء بين النائحات
وما سلم الوليد من اشتكاء فهل يخلو المعمر من اذاة
ومن مشاعر الكآبة ما يرتبط بتقدم العمر حين يتذكر المرء الشباب وياسي على ما آل اليه، وهذا الشاعر يصف لنا في ابيات مرض الاكتئاب في السن المتقدم يقول :
سلني انبئك بايات الكبر نوم العشاء وسعال بالسحر
وقلة النوم إذا الليل أعتكر وقلة الطعم إذا الزاد حضر
وسرعة الطرف وتدقيق النظر وتركك الحسناء في قبل الطهر
والناس يبلون كما يبلى الشجر
ويقول زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
ويقول أبو العتاهية يبكى الشباب ويتمنى لو تعود ايامه :
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيب
ويبدو أن هذا الموضوع اثير الى نفوس الشعراء ففيه يقول الياس فرحات :
بكيت فقال اصحابی : أتبكي ؟ فقلت مضى الشباب فهل أغنى ؟
دعوا دمعي يسيل فما لمتلی شعور المستريح المطمئن
والذي يلفت الانتباه هو تفوق الشعراء في وصف تجربتهم مع الاكتئاب ،حتى ليكاد المرء يعيش ما يعانونه من حزن واسی عمیق، ويقول شاعر في وصف حالة الكأبة الشديدة التي يعانيها:
وفوقی سحاب يمطر الهم والأسى وتحئی بحار بالاسي تتدفق
ويقول أبو نواس ينعى حظه :
فثوبی مثل شعري مثل حظى سواد في سواد في سواد
وله ايضا :
ولو عرضت على الموتی حياة بعيش مثل عيشي لم يريدوا
ويقول الياس فرحات :
كتاب حياة البائسين فصول تليها حواش للأسى ونيول
وما العمر الادمعة وابتسامة وما زاد عن هذي وتلك فضول
وعن مشاعر الأسي التي تستبد بالمكتئب فتحرمه النوم في ليلة ، فإذا استيقظ كانت حالته اشد سوءا، وهذا ما تصفه الخنساء في احدى قصائدها في رثاء اخيها صخر مطلعها :
يورقنى التذكر حين امسى فاصبح قد بليت يفرط نكس
وفي هذا يقول المتنبي
أرق على أرق ومثلي يارق وجوی يزيد وعبرة تترقرق
جهد الصبابة أن تكون كما لری عین مسهدة وقلب يخفق
ويقول آخر في نفس المعنى :
نفي النوم عن عيني فالفؤاد كئيب نوانب هم ماتزال تتوب
وإني لأرعى النجم حتى كأنني على كل نجم في السماء رقيب
وعن تلك الفئة من مرضى الكآبة الذين يخفون حقيقة مشاعرهم خلف قناع حتی ليحسب المرء أنهم ينعمون بالراحة، والواقع أنهم في معاناة طاغية داخل نفوسهم،
عن ذلك يقول المتنبي :
رب کئيب ليس تندي جفونه ورب كثير الدم غير كئيب
ويقول ابراهيم ناجي في " الأطلال " :
انظري ضحکی ورقصی فرحا وأنا أحمل قلبا ذبحا
ويراني الناس روحا طائرا والجوى يطحنني طحن الرحی
يحاول الشعر النفاذ إلى ابعاد اعمق تتصف بالتأمل في أحوال النفس الانسانية، ولعل في هذه الابيات تأكيدا لما تعرضنا له حول مفهوم النفس وطبائعها،
ويقول الشاعر ابو الفتح البستي:
لكل امرئ منا نفوس ثلاثة يعارض بعضها بعضا بالمقاصد
فنفس تمنيه واخرى تلومه وثالثة تهديه نحو المراشد
ويقول شوقی :
والنفس من خيرها في خير عافية والنفس من شرها في مرتع وخم
الشعراء يصفون العلاج للاكتئاب :
كان مجال التداوي من الكآبة والتخلص منها أحد الأمور الأثيرة لكثير من الشعراء، فكانت بضائعهم بمثابة علاج نفسي وتذكرة دواء تتمثل في ابيات من الشعر، يقول ايليا أبو ماضي:
ايها ذا الشاكي وما بك داء كن جميلا ترى الوجود جميلا
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا
احكم الناس في الحياة اناس عللوها فأحسنوا التعليلا
هو عبء على الحياة ثقيل من يظن الحياة عبئا ثقيلا
نصيحة اخرى من المتنبي هذه المرة :
لا تلق دهرك الا غير مكترث ما دام يصحب فيه روحك البدن
فما يدوم سرور ما سررت به ولا يرد عليك الغائب الحزن
وشاعر اخر يصف العلاج فيقول :
واطرح همومك خلف ظهرك انها نبع التعاسة مهد اسقام الوری
وفي مقابل من يدعون الى التفاؤل ويصفون الحل والعلاج هناك من يفوقهم عددا ويدعو الى عكس ذلك بما يشيع في أبياتهم من روح الياس والتشاؤم، وهذه أمثلة لذلك :
تعست هذه الحياة فما يسعد فيها الا الجهول ويرئع
هي دنيا في كل يوما ترينا من جديد الآلام ما هو أوجع
والمعري ينكر علينا أن نبقي بدون أن نواصل الشعور بالاكتئاب، يقول :
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطمنا ريب الزمان كاننا زجاج ولكن لا يعادله سبك
والبحتري يتذكر التشاؤم حتى في أوقات السعادة، يقول :
إذا عاجل الدنيا الم بمفرح فمن خلفه فجع سيتلوه عاجل
وفي ختام هذه الرحلة مع الشعر العربي، وهذه الجولة القصيرة مع بعض أبياته التي تناولت جوانب متعددة تتعلق بالاكتتاب موضوع حديثنا، فقد راينا نماذج شعرية تصف وتحلل وتعالج تجربة الكآبة الإنسانية، وهذه يذكرنا بمطلع معلقة عنترة الشهيرة هل غادر الشعراء من متردم ؟ اي ان الشعراء لم يتركوا مجالا او موضوعا الا طرقوه للإصلاح، فكان للاكتتاب - تلك التجربة الشعورية الإنسانية المتميزة - هذا النصيب في الشعر العربي.