هل تبدلت صورة الاكتئاب على مر العصور ؟
اي على سبيل المثال هل مريض الاكتتاب في أوربا اليوم يشبه ما كان عليه الحال قبل قرن او قرنين من الزمان ؟
لقد شغلت هذه الأسئلة علماء النفس ردحا من الزمان فراحوا يبحثون عن اوجه الشبه والاختلاف بين حالات الاكتئاب النفسي في بلدان العالم المختلفة ويعقدون بينها المقارنة، ثم يفتشون في ما كتب عن عصور مسابقة لمقارنته بما هو معروف في عالم اليوم .
وهل تختلف صورة الاكتئاب من مكان إلى آخر في بلدان العالم ؟ أو هل نتوقع أن يشكو مريض الاكتئاب في انجلترا من نفس المظاهر التي يشكو منها آخر في الهند وثالث من اليابان، وآخر في مصر، او احد افراد القبائل البدائية في افريقيا ؟
علاقة الاكتئاب بالزمان والمكان :
ومن الثابت أن الاكتئاب النفسي في اسبابه وطريقة التعبير عنه يرتبط ارتباطا وثيقا يعرف " بالثقافة " التي ينتمي اليها الفرد، ولا أعتقد أن استخدام تعبیر " ثقافة " يفي بمعنى الأصل الاجنبي للكلمة ( Cultre )، فهو أشمل ويعنی مجموعة التقاليد والقيم والمعتقدات، كما يتضمن السلوكيات المميزة للجماعة والصفات التي تنتقل عبر الأجيال، ومن هنا كان للثقافة ابعاد اجتماعية وانسانية عميقة، ولها تأثيرها الجوهرى على حياة الانسان وحالته النفسية في الصحة والمرض، وای تغيير او تبديل يعتريها لابد أن يؤثر في الأفراد الذين ينتمون اليها.
ولا خلاف على وجود تشابه كبير بين الناس حين يعبرون عن مشاعرهم الانسانية في المواقف المختلفة وفي اماكن العالم المتباعدة، فعلى س بيل المثال لا يمكن لأي منا أن يخطئ تعبير الوجه في حالة الكآبة والشعور بالألم لدى ای انسان، وذلك ينطبق على الاشارات والتعبيرات المختلفة مثل الامتنان والتحية والامتعاض، لكن الخلفية الثقافية لدى كل منا تختلف بإختلاف البيئة الزمانية والمكانية، واثرها موجود في كل الأحوال.
ونظرة على عصور سابقة وما كان من امر مرضى الاكتتاب نجد أن كلما تبدل هو طريقة التعبير عن مشاعر الكآبة، فقد لاحظ بعض الكتاب أن مريض الاكتئاب في اوربا في القرن الماضي كان يأتي الى طبيبه فيقول انه ارتكب خطأ لا يغتفر، ويشكو من أن قلبه قد تحول الى مايشبه الحجر الأصم، أو أن أمعاءه قد سدت، بينما يتحدث مريض الاكتئاب في عصرنا الحالي عن مصاعب العمل، أو خسائر مادية أصابته، أو تعثر في خططه الطموحة في الحياة !
الخلفية الثقافية والاجتماعية لمرضى الاكتئاب :
وتأكيد لعلاقة الثقافة بجوانب هامة في موضوع الاكتئاب نجد أنه بالنسبة الاسباب الاكتئاب الشائعة في كل المجتمعات مثل فقد احد الاعزاء بالوفاة، أو خسارة الثروة، لا يكون لهذه المواقف نفس الأثر المتوقع في بعض الثقافات، وقد تعجب إذا علمنا أنه في بعض البينات الاجتماعية ينظر الى الموت على انه مناسبة طيبة وليس كارثة كما يرى الغالبية، فهو يعنى الخير للمرء يتحرر روحه من قيود الجسد التي تكبلها، ويرون أن فقد الثروة لا يدعو للأسى بل هو مناسبة للسرور حيث أعفى الانسان من مسئولية ادارة المال وتبعاته وهمومها وعلى ما يبدو ذلك من الغرابة فإنه يذكرنا بحقيقة أن فهم الانسان منا وادراكه لموقف ما، والطريقة التي يفسر بها الأمور في صالحه او عكس ذلك مستدا الى خلفيته الثقافية والاجتماعية، هي الفيصل في نمط استجابته وتأثره، وليس طبيعة الموقف في حد ذاته، ودليل ذلك اننا اذا كنا في مجموعة من عدة اشخاص وحدث لنا موقف واحد فإن كل منا يكون له احيانا رد فعل خاص يختلف عن الآخرين .
وهناك بعض الأوضاع تتعلق بالخلفية الثقافية والاجتماية، وينتج عنها ضغوط نفسية قد تؤدي الى استجابة الفرد بالاكتئاب، من هذه الأوضاع اغتراب الفرد عن موطنه، وانفصاله عن الثقافة الأم، وعدم قدرته على التأقلم في المجتمع الجديد سواء كانت هجرته اختيارية أو رغما عنه، وقد يطرا التغيير الثقافي على الورد وهو في بيئته دون أن ينتقل، فتتبدل القيم والأعراف مثل ما يحدث في اعتلب الحروب، والكوارث الطبيعية، والاحتلال، ويكون لذلك آثار جماعية على الأفراد، ويحدث الاكتئاب، كذلك فإن الكثير من المجتمعات الشرقية قد حدث فيها تغيير حضاري سريع في الآونة الأخيرة كان له تأثير سلبي من الناحية النفسية لعدم قدرة الأفراد على مواجهة متطلبات هذا التغيير وتبعاته فصاروا اقل مناعة في مواجهة الاكتتاب.
الثقافة وصورة الاكتئاب :
هناك اثر عميق للثقافة على صورة الاكتئاب من اعراض ومظاهر ف ی المجتمعات المختلفة، فالواقع أن وصف الاكتتاب كما يحدث في بلاد الغرب يتضمن عدة مظاهر نفسية وبدنية، ولكن دراسات أجريت في بلاد العالم الثالث اكدت أن غالبية المرضى يشكون من اعراض بدنية فقط، ولتوضيح ذلك فإن مريض الاكتئاب البريطاني او الامريكي حين يذهب الى الطبيب النفسي فإنه يصف له كيف يشعر بالحزن، ويتخيل انه قد اقترف خطيئته، وما يجده من صعوبات في التكيف في عمله وفي انشطته، بينما مريض الاكتئاب في الهند او في مصر مثلا لا يتحدث عن اي شئ من ذلك، بل يخبر الطبيب بأنه يعاني من آلام في جسده، ولا ينام جيدة، ولم تعد قدرته الجنسية كسابق عهدها ! والتعليل لذلك التباين والاختلاف في صورة الاكتتاب بين المجتمعات المختلفة في الشرق والغرب هو من وجهة نظرنا أن المرضى لدينا يعتقدون بأن الأطباء لا يعالجون الا الأمراض البدنية، ولا يتوقعون الا سماع شكاوى واقعية ملموسة من المرضى مهما كانت حالتهم، أما في الغرب فيختلف الحال حيث يمكن للمرضى وصف مشاعرهم وأحاسيسهم بطريقة دقيقة .
وهناك نقاط اخرى للتباين في صورة الاكتئاب بين الشرق والغرب، فالشعور بالأثم يكثر في الثقافات الغربية، وكذلك الانتحار حيث تزيد نسبته بصورة كبيرة في دول الغرب بصفة عامة وان تفاوتت فيما بينها، ويقل حدوث الانتحار بصفة خاصة في المجتمعات الإسلامية، ويرجع ذلك الى تعاليم الإسلام الحنيف بخصوص قتل النفس، كما يعود بصورة غير مباشرة الى تحريم الخمر حيث يشكل الإدمان على الخمور ثانی اسباب الانتحار في الغرب بعد الاكتئاب النفسي، ولا يفهم من ذلك أن المرضى لدينا ليس لديهم الرغبة الداخلية في الانتحار، لكنهم يترددون كثيرا عن تنفيذ المحاولة .
الاكتئاب في الغرب والشرق :
ويتخذ الاكتتاب اشكالا مختلفة تتباين من بيئة إلى أخرى، ومن خصائص الاكتئاب في معظم المجتمعات العربية انه يختفى دائما خلف اعراض بدنية فنواجه حالات الاكتئاب المقنع، حتى ليخيل إلى المريض والطبيب معا أن الحالة ليست اكتئاب بل هي علة عضوية، وما يميز المرضى من الرجال انهم لا ينفسون عن أنفسهم بالبكاء مهما اشتدت بهم مشاعر الكأبة !
وفي اليابان يتميز المجتمع بخصائص فريدة، فالثقافة اليابانية متماسكة تفرض على المجتمع مثاليات وسلوكيات لا مجال للخروج عليها، وانكر هنا ما ورد في الصحف مؤخرا من أن عدد كبير من الطلاب في اليابان قد انتحروا لعدم انجازهم للواجبات المدرسية خلال الإجازة ! وهذا يدل على ما يشعر به اليابانيون تجاه العمل و الواجب، وربما كان ذلك وراء زيادة انتشار الاكتئاب هناك .
وفي افريقيا يعزى العامة حدوث الاكتئاب إلى الأرواح الشريرة والسحر الأسود، ويقل انتشار الاكتئاب مقارنة بالهوس، ويكون مصحوبا في العادة بميول عدوانية، وفي بعض القبائل البدائية التي لا زالت تعيش في مجتمعات مغلقة في ولاية بنسلفانيا الأمريكية وجد انهم يتميزون بان الرجال أكثر إصابة بالاكتئاب من النساء على عكس القاعدة المعروفة في كل بلدان العالم من ازدياد انتشار الكآبة لدى المراة اضعاف حدوثها في الرجال، ويعزى ذلك إلى قيام النساء في هذه القبائل بكل مسئوليات الرجال وسيادتهم المطلقة في هذا المجتمع !
وبعد هذا العرض الذي تجولنا فيه مع الاكتتاب في انحاء مختلفة من العالم، وتعرفنا ونحن نجوب مختلف البيئات الثقافية والاجتماعية على مظاهر الكآبة للإنسان في انحاء شتی من عالمنا، فقد يبدو لنا أن لكل مجتمع خصائصه التي تؤثر في افراده حتى حين يعانون الاكتئاب، ولكن الصورة في مجملها ليست كلها أوجه خلاف وتباین، بل يغلب عليها التشابه بين الانسان في أي من هذه الأماكن خصوصا حين يصيبه الاكتئاب، وهذا ما أكدته دراسة واسعة اجرتها مؤخرا منظمة الصحة العالمية في عدة بلدان في وقت واحد وباستخدام نفس منهج دراسة حالات الاكتتاب في كل هذه المجتمعات من الشرق والغرب، وجاءت النتائج لتؤكد انه لا فرق يذكر بين مظاهر الاكتتاب في هذه الأماكن المتباعدة، ومهما حدثت إختلافات في التفاصيل الدقيقة، فإن الاكتئاب هو الاكتئاب .