لا يقوم أي أحد بتأدية أي فعل دون أن تكون له عواقب. دعنا نر إن كان باستطاعتنا الكشف عن العواقب التي تبرهن على صحة عادة بذل المزيد من الجهد من خلال معاينة بعض ممن ألهمتهم هذه العادة.

منذ عدة سنوات، كانت هنالك سيدة مسنة تطوف في متجر بيتسبرج ديبارتمنت، وكان من الواضح أنها تمضي الوقت. ظلت تمر بطاولة عرض بعد أخرى دون أن

يوليها أحد اهتمامه: فقد ظنها البائعون "متفرجة" متسكعة ليست لديها نية للشراء، وكانوا يبعدون نظرهم عنها حينما تقف عند طاولاتهم.

  وفي النهاية، وصلت السيدة إلى طاولة عرض يشرف عليها بائع سألها بتأدب عما إذا كان باستطاعته خدمتها، فأجابت: "لا، إنني أمضي الوقت وحسب، منتظرة توقف المطر حتى يمكنني العودة إلى بيتي".

     رد الشاب وهو يبتسم: "حسناً يا سيدتي، هل أحضر لك مقعدا؟ ". وأحضره لها قبل أن ينتظر جوابها. وبعد انتهاء المطر، قاد الشاب السيدة آخذاً بذراعها، وعبر بها الشارع، وودعها. وعند مغادرتها، طلبت منه بطاقة التعريف الخاصة به.

   وبعد عدة أشهر، تلقى صاحب المتجر خطابا طلب فيه أن يرسل ذلك الشاب إلى أسكتلندا لتسلم طلب شراء أثاثات. وأرسل إليهم صاحب المتجر خطاباً يعتذر فيه ويقول إن الشاب المذكور لا يعمل في قسم المفروشات. ولكنه أوضح أن من دواعي سروره أن يرسل إليهم "خبيراً" لتأدية هذه المهمة.

     وجاءه الرد بأنهم لن يقبلوا بأحد سوى ذلك الشاب. وكانت تلك الخطابات موقعاً عليها باسم "أندرو كارنيجي"، والمنزل الذي يرغب في شراء الأثاثات له هو قلعة سكيبو في أسكتلندا، وكانت السيدة المسنة هي والدته. وقد تم إرسال الشاب إلى أسكتلندا، وتسلم طلب شراء أثاثات بقيمة مئات الآلاف من الدولارات، وحق في المشاركة في المتجر. وأصبح بعد ذلك مالكا لنصف أسهم المتجر.

   ومنذ عدة أعوام، دُعي محرر إحدى المجلات لإلقاء خطاب في إحدى كليات جامعة دافينبورت بولاية أيوا. وقد قبل الدعوة مقابل أجره المتواضع العادي، إضافة إلى تكاليف السفر. وفي أثناء تواجده في الكلية، حصل على عدد من الأفكار التي تصلح لكتابة عدة قصص كان يخطط لكتابتها لصالح مجلته. وعندما طلب منه أن يعود على نفقتهم، رفض قائلاً إنه قد حصل بالفعل على أجره من خلال تلك القصص التي أصبح قادراً على كتابتها. وقد استقل القطار عائداً إلى شيكاغو وهو يشعر بأنه حصل على جزاء أوفي نظير رحلته.

   ووصلت أنباء رفضه تلقي الأجر إلى طلاب قسم الصحافة الذين ألقي الخطاب على مسامعهم؛ فقد كان ذلك مثالأ من تجارب الحياة الصحفية الواقعية. وبدأ الأسبوع التالي يتلقى طلبات اشتراك في مجلته من جامعة دافينبورت. وبنهاية الأسبوع، حصل على آلاف الدولارات نظير طلبات الاشتراك. وتسلم بعدها خطاباً من رئيس الجامعة يبين له فيه أن هذه الاشتراكات تخص طلابه، وخلال العامين

عادة بذل المزيد من الجهد

التاليين، أرسل إليه الطلاب والخريجون ثمن اشتراكات في مجلته تزيد قيمتها على ۵۰۰۰۰ دولار. وكانت تلك القصة مثيرة للإعجاب جداً لدرجة أنها كتبت في مجلة تنشر في كل أنحاء العالم الناطق باللغة الانجليزية، مما زاد من عدد طلبات الاشتراك التي أصبحت ترد من عدة بلدان مختلفة.

   وهكذا، من خلال تقديم خدمة دون الحصول على أجر عليها، كان المحرر قد بدأ يُعْمِلُ قانون زيادة العائد لصالحه، فأثمر له عائدا يزيد على خمسمائة ضعف ما استثمره. وعادة بذل المزيد من الجهد ليست محض أوهام؛ فهي تجزيك الثمن، وتجزيك إياه بسخاء!

   فضلا عن ذلك، فهي لا تنسى أبداً! وكبقية أنواع الاستثمار، عادة ما تثمر عادة بذل المزيد من الجهد إيراداتها طوال حياة المرء.

  ولننظر إلى ما حدث عندما أهمل أحدهم فرصة بذل المزيد من الجهد.

   في وقت الظهيرة، وبينما كانت الأمطار تنهمر، كان أحد بائعي السيارات جالساً على مكتبه في صالة العرض بفرع نيويورك التابع لإحدى شركات بيع السيارات الفاخرة الشهيرة. وانفتح الباب، ودخل رجل وهو يهز عصاه بأناقة.

     رفع رجل المبيعات بصره عن صحيفته المسائية التي كان يطالعها، وألقى نظرة سريعة على الرجل القادم، وظنه على الفور واحداً من أولئك المتفرجين الذين لا يفعلون شيئاً سوى إضاعة وقته الثمين. وعاود النظر في صحيفته، وأخذ رشفة أخرى من فنجان قهوته، ولم يكبد نفسه عناء النهوض عن مقعده.

   وجال الرجل ذو العصا في قاعة العرض وهو يلقي نظرات متفرقة على إحدى السيارات ثم على أخرى. وفي النهاية، توجه إلى حيث يجلس رجل المبيعات ويقرأ الصحيفة، ومال على عصاه، وسأله بهدوء عن أسعار ثلاث سيارات مختلفة. ودون أن يحول نظره عن صحيفته، تمتم له "رجل المبيعات" بأسعارها.

  وعاد الرجل ذو العصا إلى الثلاثة موديلات التي كان يتفحصها، وأخذ يركل إطارات كل سيارة منها، ثم رجع إلى رجل المبيعات غير المبالي وقال له :"حسناً،  لا أدري إن كنت سأخذ هذه، أم هذه، أم الثالثة التي هناك، أم آخذ الثلاثة".

   وتحول موظف المبيعات إلى الصفحة التالية من صحيفته، وابتسم بتكلف، وقال: "طبعاً".

   ثم قال الرجل ذو العصا:" حسناً، أظنني اتخذت قراري. دوّن لي قسيمة بيع للسيارة المكشوفة". وأخرج دفتر شيكاته، وحرر شيكاً، وسلمه إلى موظف المبيعات، الذي انتبه كثيراً الآن، ووضع صحيفته، وقام عن مقعده. وعندما رأي موظف المبيعات اسم صاحب الشيك، شحب وجهه وصعق، فقد كان الاسم المدون على الشيك هو نفسه الاسم المدون على المتحف الموجود في نهاية الشارع الراقي. وأدرك متأخراً أنه لو بذل المزيد من الجهد لباع السيارات الثلاث بسهولة إلى "هاري باين ويتني". إن تقديم أي شيء خلاف أفضل خدمة يمكن للمرء تقديمها هو شيء يكلفه كثيراً وهذه حقيقة يعرفها عديد من الناس بعد فوات الأوان.

منذ أربعين عاما، كان هناك موظف مبيعات شاب آخر يشغل وظيفة مشابهة في متجر لبيع الأدوات المنزلية. وفي يوم ممل، لاحظ أن المتجر يعج بأشياء غير مستخدمة قديمة الطراز ولا تباع. وعندما توفر له الوقت. قام بإعداد طاولة خاصة في وسط المتجر، وملأها ببعض من هذه البضائع الكاسدة، وعرضها مقابل أسعار زهيدة. ومما أثار دهشته ودهشة صاحب المتجر أنها بيعت سريعاً.

وهكذا، ومنذ تلك اللحظة، ابتكر الشاب "فرانك دبليو، وولورث" الفكرة الأسطورية الأمريكية الخالصة الخاصة بإنشاء متجر للسلع التي يبلغ سعرها من خمسة لعشرة سنتات. وكل ما كان يفعله هو بذل المزيد من الجهد، وقد أكسبته فكرته هذه ثروة ومكانة كبيرتين في تاريخ الأعمال الأمريكية، فضلاً عن ذلك، جعلت هذه الفكرة ذاتها عديداً من الناس أثرياء، والصور المختلفة لها هي جوهر عديد من الأنظمة التجارية الأكثر ربحاً في أمريكا.

ولم يقم أحد بإخبار الشاب "وولورث" بأن يمارس حقه في المبادرة الشخصية، ولم يدفع له أحد ثمن القيام بذلك، ولكن فعله ذلك أدى إلى إثمار جهوده عن عائدات متزايدة.

      وهناك سمة مميزة لعادة القيام بأشياء تفوق ما يتقاضاه المرء نظيرها وهي أنها تعمل لصالحه حتى عند نومه. ومتى تبدأ عملها، تكدس للمرء الثروات سريعاً على نحو يبدو كالسحر، وتجلب له - كمصباح علاء الدين - جيشا من الجن يأتي وبيد كل واحد منهم حقائب مليئة بالذهب.

  ذات يوم، تم إرسال مراسل صحفي شاب لإجراء حوار مع "أندرو كارنيجي" ليكتب قصة عن إنجازاته الهائلة في عالم الصناعة.

عادة بذل المزيد من الجهد

 وخلال الحوار، أشار "كارنيجي" إلى أنه لو تبنى المراسل رؤية بذل المزيد من الجهد - لمدة عشرين عاماً من العمل غير المربح - لاكتسب ثروة تماثل ثروة ذلك السيد العظيم في صناعة الصلب، فقبل المراسل ذلك التحدي وذهب ليحققه. وبعد عشرين عاماً من هذا العمل "غير المربح"، حتى ذلك اليوم تقريباً، قدم المراسل للعالم النتائج الخالصة لما علمه عن طرق "أندرو كارنيجي" لجمع الثروات، وكذلك لما علمه عن الطرق الخاصة بخمسمائة شخص آخر ممن جمعوا ثروات عظيمة بوسيلة بذل المزيد من الجهد البسيطة.

واليوم، تنشر هذه المعلومة في صورة كتاب في كل البلدان الناطقة باللغة الانجليزية، حيث تخدم ملايين عديدة من الأشخاص الذين يتمنون تعلم أسرار تحقيق الإنجازات من خلال ممارسة المبادرة الشخصية. وقد تمت ترجمته إلى كثير من اللغات الأجنبية، وهو مصمم لمساعدة من لا يخشون القيام بأعمال تزيد على ما يتقاضونه نظيرها ، ومن يرغبون في تحويل نصيبهم من الفرص الأمريكية إلى شكل ما من أشكال الثروات.

والتعويض الذي يناله ذلك المراسل الصحفي الآن نظير العشرين عاماً من العمل "غير المربح" التي قضاها منحه ثروات تلبي كل احتياجاته. ومن بين أعظم تلك الثروات، ثروة راحة البال، وصداقات لا تقدر بثمن في كل أنحاء العالم، وصورة من صور السعادة الدائمة التي ينالها كل من وجد عملا مرغوباً، وأحبه، وانهمك في أدائه.

وسوف تذكر أن "تشارلز إم. شواب" بدأ كعامل لا يخشى بذل مزيد من الجهد. وبعد بضع سنوات، كانت عربته الخاصة تسير على القضبان في أحد جوانب مصنع الصلب الذي يمتلكه في بنسلفانيا. كان صباحا شديد البرودة، وعندما خرج من عربته، التقاه شاب يحمل في يده مفكرة، والذي سرعان ما أوضح له أنه يعمل كمساعد في المكتب العام لشركة الصلب، وأنه أتى ليرى إن كان السيد "شواب" بحاجة إلى كتابة أية مذكرات، أو إبلاغ رسائل، أو ما شابه ذلك.

سأله السيد "شواب": "من طلب منك أن تأتي إليَّ؟".

أجابه الشاب: "لا أحد، فقد رأيت الإشارة التي تعلن عن وصولك، لذا أتيت إليك آملا أن يكون باستطاعتي تقديم بعض الخدمات".

ولتفكر في هذا! فقد جاء إليه آملا أن يكون باستطاعته تقديم خدمات لا ينال عليها أجراً إضافياً. وجاء بمبادرة منه هو، دون أن يطلب منه ذلك.

      شكره السيد "شواب" بلطف على اهتمامه، ولكن أخبره بأنه ليس بحاجة إلى أية مساعدة من هذا القبيل حالياً. وبعد أن حفظ جيدا اسم ذلك الشاب، طلب منه العودة إلى مكتبه.

  وفي تلك الليلة، عندما ثبتت عربة شواب " الخاصة بقطار المساء ليعود إلى نيويورك، حملت معها ذلك الشاب الواعد؛ فقد تم تعيينه بناءً على طلب السيد "شواب" للعمل في نيويورك كمساعد شخصي لأحد أقطاب صناعة الصلب. وكان اسم الشاب هو "ويليامز"، وظل يعمل لدى السيد "شواب" لعدة سنوات، وخلال تلك الفترة ظلت فرص الترقي تتوافد عليه طواعية.

  ومن المثير للدهشة أن لمثل هذه الفرص طريقة في تعقب من يجعلون بذل المزيد من الجهد هو شغلهم الشاغل، ولكنها دائماً ما تفعل ذلك، وعلى نحو واضح جدا. وفي النهاية، جاءت إلى الشاب "ويليامز" فرصة لم يستطع تجاهلها، فقد تم تعيينه رئيساً وكبير مساهمين في واحدة من كبرى شركات الأدوية في الولايات المتحدة، وهي وظيفة أثمرت له ثروة تفوق احتياجاته.

  وهذه الحادثة دليل واضح على ما يمكن أن يحدث، وما كان يحدث على مدار الأعوام وفق أسلوب الحياة الأمريكي.

وهذا هو الوقت المناسب لأذكرك بأمر مهم بشأن عادة بذل المزيد من الجهد المتمثلة في تقديم خدمات أكثر مما يتقاضاه المرء نظيرها، ألا وهو التأثير الغريب الذي تحدثه في نفوس من يمارسها، فالمنفعة الأعظم من هذه العادة لا ينالها من تؤدي إليهم تلك الخدمات، بل ينالها من يؤدونها في صورة "توجه عقلي" مختلف، والذي يمنحهم تأثيراً أكبر في الآخرين، ومزيداً من الاعتماد على الذات، ومبادرة أعظم، وحماساً أكبر، ومزيدا من البصيرة، وغاية أكثر وضوحاً. وهذه هي صفات تحقيق الإنجازات الناجحة.

    وقال "إميرسون": "قم بالأمر وستنال السلطة". آه نعم، السلطة! ما الذي يمكننا فعله في عالمنا هذا دون سلطة؟ ولكن يجب أن تكون من نوعية السلطة التي تجذب الناس بدلاً من تنفيرهم. ويجب أن تكون من النوع الذي يستمد القوة الدافعة من قانون زيادة العوائد، ومن خلال عملية تعود فيها أفعال المرء عليه مضاعفة على نحو عظيم.

  ويجب عليك يا من تعمل نظير أجر أن تعلم المزيد عن مهنة الزراعة والحصاد هذه، وبعدها ستفهم لمَ لا يمكن لأي أحد الاستمرار دائماً في زراعة بذور خدمة

عادة بذل المزيد من الجهد

غير كافية وحصاد محصول تام النضج. وسوف تعلم أنه لا بد من توقفك عن ممارسة عادة طلب أجر كامل نظير عمل سيئ.

  وأنت يا من لا تعمل نظير أجر، ولكنك تتمنى الحصول على مزيد من الأشياء الأفضل في الحياة! دعنا نقل لك كلمة. لمَ لا تكن حكيماً وتبدأ في الحصول على ما تتمناه بالطريقة اليسيرة المؤكدة؟ نعم، هناك طريقة يسيرة مؤكدة تعزز بها نفسك للحصول على أي شيء ترغب فيه من الحياة، وقد أصبح سرها معروفاً لكل من جعلوا شغلهم الشاغل هو بذل المزيد من الجهد. ولا يمكن أن ينكشف سرها بطريقة أخرى؛ لأنه مغلف بمزيد من الجهد.

   والجرة المملوءة بالذهب الموجودة عند "نهاية قوس قزح" ليست مجرد قصة خيالية، فبعد بذل الجهد الزائد المبذول توجد النقطة التي عندها قوس قزح، وهو المكان الذي خُبئت فيه جرة الذهب.

   وقليل من الناس هم من يلاحقون "نهاية قوس قزح"، فعندما نصل إلى ما نظن أنه نهاية قوس قزح، نجد أنه لا يزال بعيداً. ومشكلة الكثيرين منا هي أننا لا ندري كيف نلاحق قوس قزح. ومن يعلمون السر يعلمون أن نهاية قوس قزح يمكن بلوغها ببذل المزيد من الجهد فقط.

   في نهاية أحد أوقات الظهيرة، دخل "ويليام سي. ديورانت". وهو مؤسس شركة جنرال موتورز - إلى المصرف بعد انتهاء مواعيد العمل للجمهور وطلب خدمة يمكن أداؤها بصورة عادية في أثناء مواعيد العمل.

     وكان الرجل الذي قدم إليه الخدمة هو "كارول داونيس"، وهو موظف بسيط في المصرف. وهو لم يقم بتأدية الخدمة إلى السيد "ديورانت" بكفاءة وحسب، بل بذل المزيد من الجهد بأن كساها باللطف. وقد جعل السيد "ديورانت" مسروراً    حقاً بخدمته. وبدا هذا الحدث تافهاً، وكان قليل الأهمية في حد ذاته. ورغم هذا، لم يكن السيد "داونيس" يعلم أن هذا اللطف قُدِّرَ أن تكون له نتائج ذات طبيعة   هائلة.

     وفي اليوم التالي، طلب السيد "ديورانت" من "داونيس" أن يزوره في مكتبه. وفي هذه الزيارة عرض عليه وظيفة قبلها "داونيس". وعمل في مكتب عام حيث يعمل مائة شخص آخر تقريباً. وكان الراتب الذي يتقاضاه في البداية متواضعاً.

  وفي نهاية اليوم الأول، وعندما دق الجرس معلناً نهاية يوم العمل، لاحظ "داونيس" أن كل الموظفين يمسكون بقبعاتهم ومعاطفهم ويندفعون إلى الباب.

وظل هو في مكانه منتظراً أن يغادر الآخرون المكتب. وبعد أن غادروا، ظل في مكتبه متعجباً من كون الجميع يبدون تعجلا عظيما للرحيل في الثانية الأولى من موعد المغادرة

   وبعد خمس عشرة دقيقة، فتح السيد "ديورانت" باب مكتبه الخاص، فرأي "داونيس" لا يزال في مكتبه، فسأله إن كان يعلم أنه يتعين عليه التوقف عن العمل في الساعة الخامسة والنصف.

  وأجابه "داونيس": "آه نعم، ولكني لم أرد أن أدهس في أثناء التدافع". ثم سأل السيد "ديورانت" إن كان باستطاعته تقديم أية خدمة له، فطلب منه إحضار قلم رصاص للمحرك المغناطيسي، فأحضر القلم الرصاص، ومرره في مبراة، وأخذه إلى السيد "ديورانت"، فشكره وقال له: "طابت ليلتك".

   وفي اليوم التالي، وعند موعد المغادرة، ظل "داونيس" في مكتبه مرة أخرى بعد وقت "التدافع". وفي هذه المرة ظل في مكتبه لغاية في نفسه. وبعد وقت قصير، خرج السيد "ديورانت" من مكتبه الخاص، وسأله مرة أخرى إن كان يعي أن الساعة الخامسة والنصف هي موعد انتهاء العمل.

وقال "داونيس" مبتسما: "نعم، أعي أنه موعد المغادرة للآخرين، ولكني لم أسمع أحداً يقول إن عليَّ مغادرة مكتبي عند انتهاء يوم العمل رسمياً، لذا اخترت البقاء أملاً أن أقدم إليك خدمة ما".

  وقال "ديورانت" متعجباً: "يا له من أمل غريب من أين أتتك هذه الفكرة؟".

أجابه "داونيس": "أتتني من المشهد الذي أراه هنا عند انتهاء العمل كل يوم". رد السيد "ديورانت" بصوت خفيض لم يستطع "داونيس" سماعه بوضوح وعاد إلى مكتبه.

ومنذ ذلك الحين، ظل "داونيس" يتخلف في مكتبه دائماً عن موعد انتهاء العمل إلى أن يرى السيد "ديورانت" يغادر في موعد انتهاء العمل. ولم يكن يتقاضى أجراً إضافياً، لأنه لم يطلب منه أحد فعل ذلك، ولم يعده أحد بشيء نظير بقائه، وكان كل من يراه يعلم أنه كان يضيع وقته سدى.

     وبعد عدة أشهر، تم استدعاء "داونيس" إلى مكتب "ديورانت" وقيل له إنه اختير للذهاب إلى مصنع جديد تم شراؤه مؤخراً للإشراف على تركيب الآلات. تخيل هذا! موظف مصرفي سابق سيصبح خبير آلات في بضعة أشهر.

 

عادة بذل المزيد من الجهد

وبلا نقاش، قبل "داونيس" المهمة وانطلق في مضيقه. ولم يقل: "لماذا يا سيد "ديورانت"؟ أنا لا أعلم شيئاً عن تركيب الآلات". ولم يقل: "ليست هذه وظيفتي" أو أنا لا أتقاضى راتبي نظير تركيب الآلات". لا، بل ذهب إلى العمل وقام بما طلب منه. إضافة إلى ذلك، ذهب إلى المهمة بتوجه عقلي سار.

وبعد ثلاثة أشهر، اكتملت المهمة، وأديت بإتقان لدرجة أن السيد "ديورانت" استدعى "داونيس" إلى مكتبه وسأله أين حصل على معلوماته عن الآلات، فأوضح "داونيس" قائلا: "آه، إنني لم أتعلم عنها شيئا يا سيد "ديورانت"، بل بحثت حولي ووجدت رجالا يعلمون كيف يؤدون هذا العمل بإتقان، وأوليتهم إياه، فقاموا به".

  وقال السيد "ديورانت" مندهشا : " رائع! هناك نوعان من الناس القيمين أما أحدهما فهم من يستطيعون تأدية الأمر ويؤدونه بإتقان، دون شكوى من كثرة العمل، وأما الآخر فهم من يستطيعون إحضار أشخاص آخرين لأداء الأمور بإتقان، دون شكوى. وأنت تحمل صفات النوعين معاً".

    شكره "داونيس" على هذا الثناء واستدار للخروج.

  قال له "ديورانت": "انتظر اللحظة، نسيت إخبارك بأنك أنت المدير الجديد للمصنع الذي قمت بتركيب آلاته، والراتب الذي ستتقاضاه في البداية يعادل ضعف راتبك الحالي".

  وأدرت السنوات العشر التالية التي أمضاها في العمل مع السيد "ديورانت"    عليه مالاً يتراوح ما بين عشرة ملايين دولار إلى اثني عشر مليون، وهو مبلغ هائل في ذلك الحين. وأصبح المستشار المقرب إلى ملك المحركات، فصير نفسه ثریاً نتيجة لذلك.

   ومشكلة الكثير منا الأساسية هي أننا نلتقي رجالاً حققوا النصر ونقدر قيمتهم في الساعة التي يصلون فيها إليه، دون أن نتكبد عناء استكشاف كيفية وصولهم إليه أو سبب ذلك.

   ولا شيء درامي في قصة "كارول داونيس"، فالأحداث المذكورة فيها كانت تقع في أثناء يوم العمل، دون أن يلتفت إليها الأشخاص العاديون الذين عملوا مع     "داونيس". ولا شك في أن عديداً من زملائه كانوا يحسدونه لأنهم يعتقدون أن السيد "ديورانت" يحابيه، نتيجة لأحد أشكال التفضيل أو الحظ، أو من خلال أي شيء يستخدمه من لا يحققون نجاحاً كعذر لتفسير عدم تحقيقهم لأي تقدم

     حسنا، ولنكون صرحاء، كان "داونيس" يحظى بـ "محاباة" داخلية من قبل السيد "ديورانت"

وقد صنع تلك "المحاباة" بمبادرته الشخصية.

وقد صنعها ببذل المزيد من الجهد من خلال شيء تافه مثل بري قلم رصاص في الحين الذي لم يطلب منه سوى قلم رصاص وحسب.

وصنعها ببقائه في مكتبه أملاً في تقديم خدمة ما إلى صاحب العمل بعد انتهاء وقت التدافع في الساعة الخامسة والنصف في كل مساء

 وصنعها باستخدامه لحقه في المبادرة الشخصية بأن عثر على رجال يعلمون كيفية تركيب الآلات بدلا من أن يسأل السيد "ديورانت" عن مكان وكيفية العثور على هؤلاء الرجال.

  ولتتعقب هذه الأحداث، خطوة خطوة، وسوف تجد أن نجاح "داونيس" مرجعه الوحيد هو مبادرته الشخصية. فضلا عن ذلك، تتألف قصته من سلسلة من المهام البسيطة المؤداة بإتقان، وبالتوجه العقلي المناسب.

وربما كان هناك مائة رجل لدى "ديورانت" يعملون مثلما يعمل "داونيس"، ولكن مشكلتهم أنهم كانوا يبحثون عن "نهاية قوس قزح" بالهرب منه في اندفاع الساعة الخامسة والنصف في كل مساء.

  وبعد سنوات طويلة، سأل أحد الأصدقاء "كارول داونيس" كيف حصل على فرصته مع السيد "ديورانت"، فأجابه ببساطة: "آه، لقد جعلت شغلي الشاغل أن أتواجد في طريقه لكي يراني. وعندما كان ينظر حوله طلبا لخدمة بسيطة ما، كان يستدعيني لأني كنت الشخص الوحيد الواقع تحت بصره. وبمرور الوقت، اكتسب عادة استدعائي".

  وها هي الفرصة! فقد اكتسب السيد "ديورانت" عادة استدعاء "داونيس". فضلا عن ذلك، اكتشف أن "داونيس" يبذل المزيد من الجهد عند تولي المسئوليات.

 ويا لها من حسرة ألا يمتلك الشعب الأمريكي كله بعضاً من روح تولي المسئوليات الأعظم تلك. ويا لها من حسرة أن كثيراً منا لا يكثرون من التحدث عن المميزات" التي نحظى بها من خلال أسلوب الحياة الأمريكي، ولا يقللون من التحدث عن قلة الفرص في أمريكا

 

 

عادة بذل المزيد من الجهد

وهل هناك أي شخص يعيش في أمريكا حالياً يمكنه إدعاء أن "كارول داونيس" كان سيصبح أفضل حالاً لو أنه انضم، وهذا حقه القانوني، إلى التدافع الجنوني وغادر عمله في الساعة الخامسة والنصف مساء؟ لو فعل ذلك، لحصل على الرواتب المادية التي تقدم نظير العمل الذي يؤديه، لا أكثر. فلماذا كان يجب أن يتلقى المزيد؟

لقد كان مصيره بين يديه، وكان مغلفاً في تلك الميزة الواحدة الوحيدة، والتي ينبغي أن تكون ميزة كل مواطن أمريكي: حق المبادرة الشخصية من خلال ممارسة حولها إلى عادة وهي بذل المزيد من الجهد دائماً. وهذا ملخص القصة كاملة. وليس هناك سر آخر وراء نجاح "داونيس". وقد أقر هو بهذا، وكل من علم ظروف تحوله من الفقر إلى الثراء يعلم هذا.

وهناك أمر واحد يبدو أن لا أحد يعلمه، وهو: لماذا هناك قلة من الرجال والسيدات، مثل "كارول داونيس"، يكتشفون القوة الكامنة في القيام بأعمال تزيد على ما يتقاضاه المرء نظيرها؟ إن هذا لأمر يحمل بداخله بذور كل الإنجازات العظيمة، وهو سر كل النجاحات البارزة، ولكن قليلاً ما يعيه أحد حتى إن معظم الناس يعدونه حيلة ماهرة يحاول بها أصحاب العمل حث موظفيهم على القيام بمزيد من العمل.

وروح اللامبالاة هذه تجاه عادة بذل المزيد من الجهد عبر عنها بصورة مذهلة أحد المغرورين"، والذي تقدم ذات مرة بطلب للعمل لدى "هنري فورد". وسأل السيد "فورد" الرجل عن خبرته، وعاداته، وبعض الشئون الروتينية الأخرى، وكان راضيا عن إجاباته.

  ثم سأله: "كم تريد نظير خدماتك؟". وكان الرجل مراوغاً في هذه النقطة، لذا قال له السيد "فورد" في النهاية: "حسناً، لنفترض أنك بدأت العمل وأريتنا ما يمكنك فعله، ودفعنا لك كل ما تستحقه بعد أن جربناك"، فقال السيد "المغرور" متعجبا :"ولكني أحصل على مبلغ أكبر من ذلك من عملي الحالي". ولا نشك في أنه قال الحقيقة.

  وهذا يوضح بدقة سبب عدم تقدم الكثير من الناس في حياتهم، فهم يحصلون على أكثر مما يستحقون" في عملهم الحالي، ولا يتعلمون كيفية التقدم بأن يصبحوا أكثر قيمة

وهناك قصة شهيرة تسمى "رسالة إلى جارسيا" تخبرنا كيف قام الرئيس الأمريكي "ويليام ماكينلي" بتكليف جندي شاب يدعى "روان" بحمل رسالة من الحكومة الأمريكية وتسليمها إلى "جراسيا"، زعيم المتمردين خلال الحرب الإسبانية الأمريكية، والذي لم يعلم أحد أين يوجد بالتحديد.

وأخذ الجندي الشاب الرسالة، ومضى في طريقه عبر الأدغال الكوبية، وعثر في النهاية على "جراسيا"، وسلمه الخطاب. وكان هذا هو كل ما تتحدث عنه القصة، أي مجرد جندي خاص ينفذ الأوامر رغم الصعاب، وينهي مهمته دون العودة بعذر.

وقد أثارت هذه القصة التخيلات وانتشرت في كل أنحاء العالم. والفعل البسيط المتمثل في قيام المرء بما يطلب منه، وأدائه بإتقان، أصبح حدثاً ذا أهمية أولى. وتمت طباعة رسالة إلى جراسيا في صورة كتيب، وبيع منه عدد لم تشهده من قبل هذه النوعية من الكتب، والذي قدر بما يزيد على عشرة ملايين نسخة. وهذه القصة جعلت مؤلفها شهيراً، وساعدته على أن يصبح ثرياً.

ونالت القصة كل هذه الشعبية لأنها تحمل في طياتها بعضاً من القوة السحرية التي تنسب إلى شخص نادر الوجود يؤدي أمراً ما، ويؤديه بإتقان.

والعالم كله يتوق إلى هؤلاء الأشخاص النادرين. وهم مطلوبون ومرغوبون في كل مجال من مجالات الحياة. ولطالما كانت الصناعة الأمريكية تحوي أماكن عظيمة لمن باستطاعتهم تولي المسئوليات، ولمن يؤدون الأعمال بالتوجه العقلي الصحيح، ومن خلال بذل المزيد من الجهد.

    وقد أعلى "أندرو كارنيجي" شأن ما لا يقل عن أربعين رجلاً من هؤلاء   الرجال - ومن بينهم "تشارلز شواب" - من منزلة أدني كعمال بأجر يومي إلى مليونيرات. فقد أدرك قيمة من لديهم استعداد لبذل المزيد من الجهد. وأينما اكتشف أحدهم، يدخل "مكتشفه" في الدائرة الداخلية لأعماله ويمنحه فرصة الاكتساب "كل ما يستحقه".

وقد بدأ "تشارلز إم. شواب" عمله مع "كارنيجي" بقدراته البسيطة كعامل بأجر يومي. ولكن خطوة بعد خطوة، تسلق السلم الوظيفي حتى وصل إلى القمة، وأصبح أهم مساعدي "كارنيجي". ويقوم الناس بأمور أو يحجموا عن القيام بها بسبب دافع ما. وأصح دافع لعادة بذل المزيد من الجهد هو حقيقة أنها تجلب أرباحاً دائمة بطرق تفوق قدرتنا على الحصر، ولكل من يتبعونها.

 

عادة بذل المزيد من الجهد

ولا نعرف أحداً حقق نجاحاً دائماً دون القيام بأعمال تزيد على ما يتقاضاه من أجر نظيرها ، فلهذه الممارسة مقابل في قوانين الطبيعة، وتؤكد على ذلك مجموعة أدلة مثيرة للإعجاب من حيث صحتها، ويؤكد عليها من جعلوا ممارستهم هي بذل المزيد من الجهد. وهي مبنية على المنطق السليم والعدل.

وأفضل طريقة لاختبار صحة هذا المبدأ هي تفعيله في عادات المرء اليومية؛ فبعض الحقائق لا يمكن تعلمها إلا من خلال التجربة الشخصية.

وقد يقول بعض الناس: "إنني أقوم بالفعل بأعمال تزيد على ما أتقاضاه من أجر نظيرها، ولكن صاحب العمل أناني وطماع جداً لدرجة أنه لا يقدر نوع الخدمات التي أقدمها له". وجميعنا يعلم أن هناك أشخاصاً طماعين يرغبون في الحصول على خدمات أكثر مما يدفعونه نظيرها.

وأصحاب العمل الأنانيون كقطع الصلصال في أيدي صانع الفخار. فمن خلال طمعهم يمكن إغراؤهم بمكافأة الشخص الذي يقدم إليهم خدمات أكثر مما يدفعونه نظيرها.

فأصحاب العمل الطماعون لا يرغبون في خسارة الخدمات التي يقدمها من يمارس عادة بذل المزيد من الجهد، فهم يعرفون قيمة هؤلاء الموظفين. وهذه هي الرافعة ونقطة الارتكاز التي يمكن بها تخليص أصحاب العمل من طمعهم

والأشخاص الماهرون يجعلون شغلهم الشاغل هو أن يصبحوا شديدي الأهمية لصاحب العمل الطماع بأن يقوموا بأعمال أكثر وأفضل من أي موظف آخر. وأصحاب العمل الطماعون سوف يتخلصون من أنيابهم" قبل التعامل مع مثل هؤلاء الموظفين، وبهذا يصير ذلك الطمع المزعوم ممتلكاً عظيماً لمن يتبع عادة بذل المزيد من الجهد.

وقد رأينا هذا الأسلوب يطبق مئات المرات على الأقل كوسيلة لمعالجة أصحاب العمل الطماعين باستخدام نقطة ضعفهم. ولم نشهد فشله ولو لمرة واحدة!.

وفي بعض المناسبات، يفشل صاحب العمل الطماع في التحرك بالسرعة متوقعة منه، ولكن ثبت أن هذا من سوء حظه؛ لأن هذا الموظف المجد يجذب به صاحب عمل منافس والذي يضع رهاناً لخدمات الموظف ويؤمنها.

فلا سبيل لخداع من يتبعون عادة بذل المزيد من الجهد ؛ لأنهم إذا لم يحصلوا على التقدير المناسب من مصدر ما، فسوف يأتيهم طواعية من مصدر آخر. في   وقت لا يتوقعه به المرء.

ومن يبذلون المزيد من الجهد، ويبذلونه بالتوجه العقلي المناسب، لا يضيعون وقتهم أبداً في البحث عن وظيفة؛ فهم لا يضطرون إلى ذلك، لأن الوظيفة دائماً ما تبحث عنهم، فالكساد قد يأتي وينقضي، والعمل قد يكون جيداً أو سيئاً، والبلد قد يكون في حالة حرب أو سلم، ولكن من يقدمون خدمات أكثر وأفضل مما يتقاضونه عليها من أجر يصبحون لا غنى عنها، ومن ثم يقون أنفسهم خطر البطالة.

والرواتب العالية وعدم الاستغناء عن الشخص توأمان لا يفترقان، ولطالما ظلا كذلك، ولطالما سيظلان.

وبذل المزيد من الجهد لا يعد جديراً بالاهتمام على نحو شخصي وحسب، بل يدر منفعة للعمل أيضاً. وفي الحقيقة، بذل المزيد من الجهد يجعل العمل الرائع ذا معنى، كما سنرى في الجزء التالي.