حواديت عن الأمراض المنقولة جنسيا من ذاكرة التاريخ
- إجراء علمي (تجربة تاسكجى)
(Tuskegee study of Untreated Syphilis in the Negro Male)
- الزمان: عام 1932.
- المكان: ولاية ألاباما بالولايات المتحدة.
اقترح " الدكتور تاليا فروكلارك " مسؤول الأمراض التناسلية التابع لإدارة الخدمات الصحية الحكومية بولاية ألاباما بالولايات المتحدة، اقتراح تعديلا للسياسة البحثية الممولة من الحكومة الاتحادية عن مرض الزهري، واستبدل المشروع، الذي كان قائما وقتذاك، ومحوره اكتشاف وعلاج حالات الزهري المنتشرة بين الأمريكيين السود في الولاية علاجا جماعيا يسهم في تخفيض أعداد المرضى والحد من ظهور حالات جديدة، بمشروع آخر يهدف إلى دراسة خط سير ومصير مرضى الزهري لو تركوا بدون علاج. ومن المعروف أن ذلك المرض يمر بعدة مراحل إن لم يتلق المصاب علاجا وهي المراحل الأولى والثانية والكامنة وتنتهي بالمرحلة الثالثة وهي أخطرهم وتصيب الجهاز الدوري أو الجهاز العصبي وتنتهي بالوفاة. وكان هدف البحث دراسة تغيرات الباثولوجية التي تصاحب المرض في أطواره المختلفة وتحديدا العمر المفترض لمريض الزهري والأسباب المؤدية للوفاة وتحديد نسب حدوث المضاعفات المختلفة بدقة.
والهدف العام في حد ذاته مشروع ويلقى الضوء على جوانب من المرض ربما لم تكن معروفة ولكن الأسلوب الذي ترجمت به تلك الأهداف كي تصبح خطوات بحثية تعطى نتائج لا تحتمل اللبس أو التأويل جاء مليئا بالخسة والنذالة والجبن والإجرام من جانب فريق البحث فماذا فعلوا؟
اختاروا 399 من الزنوج الأمريكيين المصابين بالزهري في منطقة محددة من ولاية ألاباما وقالوا لهم "أنتم تعانون مرضا خطيرا وسنتولى علاجكم بالمجان "ولم يفصحوا لهم عن كونهم عينة بحثية وأن ما يُجرى عليهم مخطط له مسبقا، وطلبوا منهم التردد على الأماكن المخصصة للبحث لتلقي العلاج، وكان علاجا وهميا لا علاقة له بمرضهم ولا يشفيه (Placebo) أي أنهم حرموهم فرصة العلاج السليم. طلبوا من المرضى الحضور للمستشفى بصورة دورية لمتابعتهم والاطمئنان على صحتهم (كذا!!) وكان غرض فريق البحث من الزيارات المتكررة تدوين الملاحظات ورصد أية أعراض جديدة تظهر بين أولئك المرضى، وكان من أهم نقاط البحث أيضا إجراء الصفة التشريحية للمريض بعد وفاته لدراسة ما أحدثه المرض من تغيرات بأعضائه. وكان لابد من طريقة تشجع المرضى أن يموتوا تحت سمع وبصر مجموعة البحث، فأعلنوها أن استكمالا للعمل الخيري الذي يقومون به (كذا!!) سوف تتحمل الحكومة مصاريف الجنازة والدفن لمن توافيه المنية داخل أحد مستشفياتها؛ وهكذا نرى إصرار الباحثين على أن يظل المرضى تحت سيطرتهم الكاملة مستخدمين وسائل الخداع والكذب والإغراء. وبعد ما يزيد عل عشرين عاما من بدء التجربة، بدأ استعمال البنسلين المكتشف حديثا وتأكدت فاعليته الجبارة في علاج الزهري وبالطبع انزعج الباحثون فلو تصادف أن تناول أحدهم علاجا بالبنسلين لأي سبب كان سوف يؤثر ذلك حتما في نتائج البحث، وللتغلب على المشكلة أعدوا قائمة بأسماء المرضى وزعوها على جميع المؤسسات الصحية الحكومية وغير الحكومية في الولاية يوصون فيها بعدم معالجة هؤلاء المرضى بالبنسلين تحت أي ظرف من الظروف حتى ولو كانوا مصابين بمرض خطير آخر يستدعي استعماله (التهاب رئوي مثلا).
واستمرت التجربة (تجربة تاسكجي كما أُطلق عليها) زهاء أربعين عاما حتى طفت أخبارها على السطح ووصلت أنباؤها إلى بعض الصحف التي قامت بدرها بحملة صحفية انتهت بإيقاف التجربة من قبل وزارة الصحة الأمريكية عام 1972 وأسدل الستار على قصة مأساوية تفضح العنصرية السائدة وقتذاك وتواطؤ السلطات لحرمان طائفة من الملونين الجهلة كان كل ذنبهم أنهم وثقوا في مواطنيهم البيض المتعلمين. عندها أوقفت التجربة كان 74(13.5%) شخص لا يزالون على قيد الحياة بينما قضى الزهري المتقدم ومضاعفاته على حياة مائة إنسان عوملوا معاملة فئران التجارب. وبعدها أصدر الكونجرس ضوابط مشددة للتجارب العلمية على البشر وأصدر الرئيس بيل كلينتون اعتذارا رسميا لأسر الضحايا عما جرى.
2-تجربة علمية خرت العلم مائة سنة
منذ القرن السادس عشر وربما قبل ذلك الوقت اتضح أن الاتصال الجنسي وسيلة انتقال كل من الزهري والسيلان، وبالرغم من اختلاف أعراضهما المرضية حيث يشكو مريض السيلان من حرقان يصاحب التبول مع نزول إفراز صديدي من فتحة البول بينما يتميز الزهري بظهور قرح وطفح جلدي في مراحله الأولى فقد اعتبرهما معظم الأطباء صورتين مختلفتين لنفس المرض يسببها نفس (السم) أو نفس (الفيروس) كما كان يطلق على مسببات الأمراض المعدية آنذاك قبل اكتشاف الميكروبات ،فإذا دخل (السم) الجسم عن طريق الغشاء المخاطي تجلت أعاضه في صورة السيلان ،وإذا دخل من خلال الجلد تسبب في ظهور الزهري ،وبينما كان هذا هو الرأي السائد في الأدبيات الطبية آنذاك عارضت نسبة ضئيلة من الأطباء نظرية أحادية المسبب ودافعوا عن وجهة نظر أخرى ترى أن الزهري والسيلان مرضان مختلفان في الأسباب وإن اتفقنا في وسيلة الانتقال، واستمر الخلاف سنوات طوال دون حسم. وإبان القرن الثامن عشر ساد الأوساط العلمية الرأي بأن الحقائق العلمية لا تحسم من خلال المناقشات الفلسفية والمنطقية ولكن من خلال التجربة العلمية وهنا قرر الجراح البريطاني الشهير جون هنتر حسم الخلاف بإجراء تجربة على نفسه (وفي هذا قمة النبل العلمي مقارنة بتجربة تاسكجي الأمريكية على مرضى الزهري) بأن لقح عضوه الذكرى بإفرازات مأخوذة من عاهر مصابة بالسيلان. وأسفرت التجربة عن إصابته بأعراض السيلان بعد 48 ساعة أعقبها بأسبوعين ظهور قرحة الزهري على عضوه الذكرى. أعلن جون هنتر(1728-1793) نتائجه على الأوساط الطبية واعتبرا أن تجربته أثبتت أن الزهري والسيلان مرض واحد، وتبنى الطب لمدة تزيد على مائة عام هذا الرأي الخاطئ حتى عام 1879 حين اكتشف نايسر ميكروب السيلان ثم اكتشف شاودن وهوفمان ميكروب الزهري عام 1905، بعد استخدام الميكروسكوب. تبين فيما بعد أن المريضة التي استخدمت في التجربة كانت مصابة بكلا المرضين في نفس الوقت (ويحدث ذلك كثيرا في الفئات الأكثر عرضة للإصابة بالـ أ.م.ج مثل العاهرات) ولم يفطن الباحث أو لقارئ لذلك الاحتمال ونتج عنه تأخر الفكر الطبي مائة عام.
3-من اكتشف الفيروس؟
اختلف الفرنسيون والأمريكيون عمن كان له كان له قصب السبق في اكتشاف فيروس الإيدز وتصاعدت المشكلة حتى وصلت للقضاء وتداولتها ساحات المحاكم منذ أواسط ثمانينيات القرن العشرين حتى بدايات القرن الواحد والعشرين.
وملخص الموضوع أنه كان هناك سباق محموم في معامل الميكروبيولوجي في العالم المتقدم للوصول إلى كنه وطبيعة العامل المسبب لمرض الإيدز. وتوصل علماء معهد باستير الفرنسي إلى الفيروس المسبب للمرض وحددوا نوعه وتركيبه بدقه ومن شدة الإثارة والحماس أعلنوا الاكتشاف فورا عبر وسائل الإعلام أولا، ثم أرسلوا البحث بعد ذلك إلى الدوريات العلمية. توصل العلماء في الولايات المتحدة لنفس النتائج بعد الفرنسيين بشهور، وقاموا بنشره بسرعة في إحدى الدوريات العلمية الأمريكية فظهر قبل نشر البحث الفرنسي الذي تأخر نشره لأسباب غير معلومة وربما كان للسياسة دخل في هذا التأخير. وعلى هذا الأساس ادعى الأمريكيون سبق الاكتشاف. ومن طبائع الأمور في عصرنا هذا أن يكون السبق للولايات المتحدة في كل شيء عدلا كان أم زورا. لم يقبل العلماء الفرنسيون بالظلم ولجأوا إلى المحاكم التي تداولت القضية لعدة سنوات وحُسمت أخيرا لصالح الفرنسيين حيث أكدت توصلهم للاكتشاف قبل أقرانهم من الأمريكيين ونالوا شرف الكشف. لا يوجد مقابل مادي للاكتشافات العلمية ويكتفي العلماء بالرضاء النفسي والاعتراف بالصنيع.