الأمراض المنقولة جنسيا عبر التاريخ
مع الوقت يتبدل أبطال المسرحية
بدأت دراسة الطب منذ نَيِّفٍ وخمسين عاما توالى فيها على مسرح الأمراض المنقولة جنسيا العديد من الأمراض، يقف أحدها في مقدمة المسرح خاطفا الأبصار، تتركز عليه الأضواء حسبما له من انتشار وخطورة وقدرة على إحداث مضاعفات صحية فيصبح بؤرة اهتمام الجمهور ووسائل الإعلام والمدارس الطبية، وما أن يُكشف علاج لذلك المرض حتى يتوارى في خلفية المسرح وتنحسر عنه الأضواء المبهرة، يتوارى ولكنه لا يختفي، ومن ثم يحتل قادم جديد مكان النجم القديم ينتشر بين الناس حتى يصبح وباء يهدد البشرية فتُركَز عليه الأضواء بدوره إلى أن يكتشف العلم علاجا له فينحى منحى سابقه: يتوارى في الخلفية تاركا مكانه لقادم آخر جديد يتحدى العلم ويبقى حتى إشعار آخر.
ومنذ أن عُرفت الأمراض المنقولة جنسيا وحتى منتصف القرن العشرين كان الزهري والسيلان يشكلان الغالبية العظمى (إلى جانب مرض القرحة الرخوة الذي كان وما يزال محدود الانتشار)، وكان كل من الزهري والسيلان البطلين الواقفين في مقدمة المسرح تسلط عليهما الأضواء وعلى الأخص الزهري (الذي اشتهر آنذاك بخطورة مضاعفاته مع صعوبة وطول علاجه) وبدرجة أقل السيلان الجون وكوكي بينما تقف في الخلفية أمراض أخرى محدودة الانتشار وأقل خطورة.
لم يكن لتلك الأمراض علاج ناجع معروف حتى السنوات الأولى من القرن العشرين عندما اكتشف العالم الألماني إرليخ مركبات الزرنيخ عام 1906 وأثبتت جدواها في علاج الزهري ولكن بشكل غير كامل، حيث كان المرض ينتكس في بعض الحالات، إما بسبب عدم الفاعلية الكاملة للعقار أو بسبب انقطاع الكثير من المرضى عن العلاج نتيجة طول مدته (12 أسبوعا) أو لحدوث آثار جانبية تحتم التوقف عن استكماله.
وظل الحال على ما هو عليه منذ أن عرفت البشرية الأمراض المنقولة جنسيا في وقت من الماضي غير معروف تحديدا لكنه بالقطع منذ أن مارست البشرية الرذيلة وعرفت الفاحشة، أقول: ظل الحال على ما هو عليه حتى الأربعينيات من القرن العشرين عندما اكتشف الطب مركبات السلفا وأثرها القاتل على بعض أنواع البكتيريا وكان الجونوكوك مسبب السيلان منها. وتفاءل الأطباء بقرب السيطرة على مرض السيلان وربما أيضا القضاء النهائي عليه. لم يمكث ذلك التفاؤل طويلا إذ بدأ ظهور حالات من السيلان الجونوكوكى لا تستجيب للعلاج بالسلفا أو تختفي أعراضها لفترة وجيزة لتنتكس فور التوقف عن العلاج، وهنا بدأ الطب يعرف ظاهرة سلالات البكتيريا المقاومة للعلاج.
وكان اكتشاف البنسلين أول المضادات الحيوية نقطة فارقة في علاج الزهري فقد كان له مفعول السحر وتجلت شدة حساسية ميكروب الزهري(اللولبي) له، إذ إن الاستجابة للعلاج بالبنسلين كانت سريعة والجرعات اللازمة للعلاج قليلة ولا تستغرق وقتا طويلا مقارنة بمركبات الزرنيخ، ولحسن الحظ لم تظهر سلالات من الميكروب اللولبي تقاوم العلاج، وكان مما ساعد على سرعة السيطرة على الزهري شيوع استخدام المضادات الحيوية لعلاج الكثير من الأمراض العادية بداع وأحيانا بغير داع من باب الاحتياط مما أدى إلى نوع من العلاج الجماعي لمرض الزهري الكامن بدون قصد أو كما يقال "رمية بغير رامٍ" مما أدى إلى الحد من انتشاره وندرة وجوده، وجرى تقليص الساعات المخصصة لتدريسه في برامج التعليم الطبي إلى أقل من العشر وكاد الزهري أن ينتقل من كتب الطب إلى أسفار التاريخ. وقد أدى ذلك النجاح المدوي لإزاحة مرض الزهري عن مقدمة المسرح وانحسرت عنه الأضواء وقل الاهتمام به من العامة ووسائل الإعلام والأوساط الطبية وبقي مرض السيلان يقف في مقدمة المسرح (رغم استجابته للعلاج بالبنسلين) ويظل في بؤرة الاهتمام.
كانت العوامل التي ساعدت السيلان على احتلال مقدمة المسرح تنحصر في سببين أساسيين: الأول زيادة عدد الحالات المقاومة للسلفا والبنسلين مما أضعف السيطرة على انتشار المرض، وكان الثاني ظهور حالات لها نفس أعراض السيلان (نزول إفرازي صديدي من فتحة البول مع الشعور بحرقان أثناء التبول) لا يتجلى فيها ميكروب الجونوكوك عند الفحص المعملي للإفراز ولا تستجيب للمضادات الحيوية التي تعالج السيلان الجونوكوني وأطلق على تلك الحالات (السيلان غير الجونوكوني) (وسوف نرمز لتلك الحالات بالاختصار "س غ ج" لتمييزها عن السيلان الجونوكوني التقليدي "س ج"). انشغلت الأوساط العلمية خلال أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين بالبحوث المكثفة لإماطة اللثام عن كنه ذلك القادم الجديد للمسرح وتوالت النظرات عن الميكروب المسبب، وهل هو شكل جديد من ميكروب الجونوكوك أم ميكروب آخر، واستمر الجدل حتى أثبتت البحوث العلمية أن أحد أفراد عائلة ميكروب "كلاميديا " هو المتسبب. وعائلة ميكروبات الكلاميديا معروفة للطب منذ مدة كمسبب لحالات التراكوما (الرمد الحبيبي) وبعض حالات الالتهاب الرئوي، غير أن السلالة المسببة لمرض السيلان غير الجونوكوكى (س غ ج) كانت مختلفة عما كان معروفا من قبل من السلالات. كان ذلك الحسم العلمي إعلانا بظهور مرض جديد أضيف إلى قائمة الأمراض المنقولة جنسيا، وبعدها بفترة قصيرة اكتشفت طريقة علاجه واستجابته لبعض المضادات الحيوية من مجموعة التتراسيكلين ومجموعة الماكرولايد (إرثرومايسين وأزيثرومايسين).
احتل القادم الجديد (س غ ج) مقدمة المسرح وانتشر سريعا ليصبح لمرض رقم 1 في القائمة، يسبق "س ج " ويمثل المسبب الرئيسي في 60 70 % من حالات السيلان، (ونعنى هنا بكلمة سيلان الأعراض وليس الميكروب المسبب سواء كان "س ج" أو "س غ ج "
واستمر يحتل بؤرة الاهتمام ووقف في صدارة المسرح بسبب انتشاره السريع في جميع أنحاء العالم خلال فترة قصيرة نسبيا وكان من أسباب استمراره في انتشار بساطة أعراضه مما يؤدى إلى تقاعس الكثير من المرضى عن السعي للعلاج أو تأجيله وبالتالي لزيادة فرص نقل العدوى للآخرين لإضافة إلى ذلك كثرة انتكاسة المرضى بعد العلاج.
في نفس الحقبة الزمنية أضيف بعض الأمراض الأخرى لقائمة "أ.م.ج" مثل التهاب الكبدي ب والسنط التناسلي والهربس البسيط والمليساء المعدية بعد أن تبين أن الاتصال الجنسي يلعب دورا رئيسيا في انتقالها واحتلت تلك الأمراض مكانا وسطا على المسرح.
وفي نفس الحقبة التاريخية بدأت البشرية تحصد ما زرعته بحوث العلوم الأساسية ووظفته في التكنولوجيا وانطلقت المكتشفات، كل يوم يأتي بجديد. في ظل هذا الزخم الهائل المتسارع للتقدم استولى على الأنسان الاعتقاد بقرب سيطرته على أ.م.ج والقضاء النهائي عليها كما سبق له أن سيطر على أوبئة الطاعون والكوليرا والجدري. وكان مما دعم الاتجاه التفاؤلي مواصلة اكتشاف المزيد من المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات. وفي الجانب الوقائي كان التقدم في وسائل الإعلام يبشر بإمكانية التأثير في سلوكيات المجموعات البشرية الأكثر عرضة للإصابة ودفعهم إلى تبني أساليب الوقاية المرجوة وتطبيقها.
استبشر الأنسان وسيطر عليه الزهو والغرور وراوده الإحساس بقدراته اللامحدودة في السيطرة على الطبيعة متى شاء، ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن أو بما لا تشتهى السفن (الملاح) في قول آخر ففي السنوات الأولى من ثمانينيات القرن العشرين رصد الأطباء حالات يتخاذل فيها جهاز المناعة عن القيام بواجباته مما يؤدى إلى الإصابة بميكروبات لم تكن لتستطيع إصابة الجسم السليم (الميكروبات الانتهازية) كما يؤدى أيضا إلى ظهور بعض أنواع الأورام الخبيثة وينتهي بالوفاة. ولما كان المستقر في المراجع الطبية آنذاك أن نقص المناعة مرض وراثي ينتج عن خلل في الجينات فقد أطلق على حالات نقص المناعة التي ظهرت حديثا اسم نقص المناعة المكتسب (أي الذي لا تسببه عوامل وراثية ولا تبدأ أعراضه بعد الولادة بفترة قصيرة). وكان من اللافت للنظر انتشار حالات نقص المناعة المكتسب في صورة وبائية بين فئات بعينها كالمثليين (الشواذ الذين يمارسون العاقات الجنسية مع مثل جنسهم) خصوصا اللوطيين ومحترفات البغاء ومدمني المخدرات ممن يتناولون العقاقير المخدرة عن طريق الحقن الوريدي وكذا المصابين بأمراض الدم الذين يعالجون بنقل الدم أو مشتقاته.
وهنا بدأت الصورة تتضح وتتبين أن مرضا جديدا لم يكن معروفا أو منتشرا من قبل دخل الساحة واحتل بدون منازع مقدمة المسرح، مرضا ينتقل أساسا عن طريق الاتصال الجنسي وعن طريق الدم أيضا وأطلقوا عليه " مرض العوز المناعي المكتسب " وأسموه اختصارا "إيدز" وهي الحروف الأولى للتسمية الإنجليزية للمرض:
(Acquired Immunodeficiency Syndrome)
واستطاع العلماء تحديد مسبب المرض بعد سنوات قليلة من رصد الوباء وذلك بفضل التقدم العلمي الحالي (قارن الزهري الذي استغرق اكتشاف سببه زهاء أربعة قرون، منذ ظهوره بصورة وبائية في القرن الخامس عشر حتى استطاع العالمان الألمانيان شاودين وهوفمان في أوائل القرن العشرين مشاهدة الميكروب اللولبي ميكروسكوبيا وإثبات انه الميكروب المسبب للزهري). واكب اكتشاف الفيروس المسبب لنقص المناعة المكتسب أو العوز المناعي المكتسب قصة تبدو مسلية تكتشف كيف تؤثر السياسة والكبرياء الوطني على العلم سوف نعود إليها تفصيلا. وهما قد احتل وباء الإيدز مقدمة المسرح بلا منازع : ينتقل للملايين يوميا وتتزايد أعداد المصابين رغم جهود منظمة الصحة العالمية والحكومات والجمعيات الأهلية المهتمة و رغم ما ينفق من بلايين الدولارات على برامج مكافحته وعلى البحوث العلمية وعلى محاولات اكتشاف طعم واق أو علاج شاف ويبقي الإيدز أشنع الأمراض المنقولة جنسيا وأشدها وطأه على الجنس البشرى منذ الخليقة، يقتل كل من يصاب به دون استثناء طالت مدته أو قصرت، لم يعرف له منشأ، ولا كيف ولا لماذا بدأ، لا يوجد له طعم واق أو علاج شاف يخلص الجسم من الفيروس المراوغ الذى يغير شكله وتراكيبه بسرعه لم يعرفها العلم إلا في فيروس الأنفلونزا لينتج أشكالا وسلالات جديدة لا تستجيب للعقاقير ولا تحمى منها الأمصال والطعوم الواقية وظني أن الإيدز سيحتل مقدمة المسرح لمدة لا يعلمها إلا الله وسيستمر في الانتشار وفي تحدى الطب والعلم حتى يقتنع الإنسان بأن الوسيلة الوحيدة للإفلات تنحصر في الاكتفاء برفيق واحد وهكذا أمرتنا جميع الأديان.
وعندما أيقن الإنسان عقب اكتشاف المضادات الحيوية والكيمائية خلال فترة الخمسينيات من القرن العشرين بقرب سيطرته سيطرة كاملة على تلك الأمراض فإذا بالقرن ينتهي وقد أضيف مرضان أحدهما شنيع وغير قابل للشفاء إلى قائمة " أم ج ".