الناس في متاعبهم التي تجعلهم فريسة للقلق والاكتئاب واحد من ثلاثة ...
الأول : يكون مصدر متاعبه وتعاسته لا دخل له ولا لأي أحد فيه، علی سبيل المثال ضحايا الكوارت الطبيعية كالزلال والأعاصير والفيضانات والسيول، أو الذين يعيشون في بيئة طبيعية قاسية أو قليلة الموارد، والإنسان هنا علية أن يكافح من أجل تأمين احتياجاته الضرورية، وسلامته، لكي يبقى مصدر متاعبه واضحة ومعلوما لديه يتعامل معه دون غموض .
والنوع الثاني من المتاعب التي تعرض لها الناس في أي مكان من الأرض هو تلك المشكلات التي يسببها الإنسان للإنسان، وهذه أكثر صعوبة من النوع الأول لأن العلاقات الإنسانية معقدة ومتشابكة، وقد تكون المتاعب من هذا النوع عامة وواسعة النطاق مثل الحروب، والنزاعات الطائفية والعقائدية والعرقية، والظلم والقتلى الجماعي، وانتهاك حقوق الإنسان، أو تكون خاصة يتعرض لها الفرد مثل التنافس مع الآخرين من نفس المهنة، أو تسلط الرؤساء في العمل، أو الخلافات الزوجية التي تحول المنزل إلى مصدر قلق واكتئاب، وكل هذه أمثلة لمتاعب ومشكلات يصنعها الإنسان ولا دخل فيها للظروف الطبيعية أو صعوبات البيئة.
أما النوع الثالث من الناس فإنهم يعيشون في بيئة خارجية معتادة لا تشكل مصدر إزعاج لهم، وكذلك فإن الناس من حولهم لا يمكن اعتبارهم بحال مصدرا الضغط عليهم في أي من نواحي حياتهم، فمن أين إنن تأتي القلاقل .. انها تبدا من داخل أنفسهم نتيجة للصراعات النفسية التي تؤدي إلى الاضطراب، وتلك هي أم المتاعب ( مع الاعتذار في استخدام هذا التعبير لمن اطلق على حرب الخليج عند بدايتها "أم المعارك" ).
الصراع النفسي الداخلي :
يعنى الصراع - حتى من الناحية اللغوية - وجود طرفين على الأقل يحدث بينهما التناقض، ولكننا نصف الصراع بأنه داخلی ای داخل أنفسنا فمن أين تاتی أطراف هذا الصراع ؟ هنا يجب أن نذكر سيجموند فرويد (1936 – 1856م) وهو عالم النفس المعروف الذي يرجع إلية الفضل في توضيح الكثير من المفاهيم النفسية سواء اتفقنا معه أو لم توافق على كل ما جاء به، لكنه في حقيقة الأمر كان أول من تحدث عما يعرف بالعقل الباطن وهو ذلك الجزء الذي تخزن فيه الخبرات والانفعالات والدوافع المختلفة، وهو يختلف عن العقل الواعي الذي تخضع عمليته التحكم المباشر للإنسان ويتعامل مع حقائق الحياة ومواقفها، ويفيدنا كثيرا هذا المفهوم في تفسير بعض أنماط السلوك الإنساني في حالات الصحة أو الاضطراب النفسي .
فالعقل الباطن كما يؤكد فرويد يمتلئ بكثير من الأفكار والعواطف والعقد والغرائز في صورة قوي تحمل كل منها شحنة انفعالية، وما الصراع النفسي إلا تناقض داخل نفس الإنسان، أو عقلة الباطن بين قوتين أو أكثر من مكونته ويحدث ذلك نتيجة لموقف يكون على الإنسان الاختيار بين أمرين مختلفين لكل منها أهمية بالنسبة له، ويوصف هذا الصراع بأنه داخلي لأنه يتم بين الأهداف والحاجات الخاصة بالفرد، مثل الصراع الذي يعاني منه شخص تربى على القيم الأخلاقية والدينية حين يجد نفسه في موقف يثير الرغبة الجنسية .
ألوان من الصراع والتناقض :
لا يجب أن ناخذ الصراع النفسي على أنه مصدر متاعب وشرور في كل الأحوال، فالحقيقة أن الصراع وظيفة إنسانية هامة تدفع الإنسان إلى اختيارات تحقق له التقدم والتطور، ذلك إذا تم توجيه الطاقة من خلاله لتحقيق أهداف إيجابية، ولكنه ينقلب إلى مصدر تهديد معمر ونذير متاعب للأفراد والمجتمعات إذا ما تجاهلناه وتركناه دون حل، وذلك شأن كثير من الأشياء في حياتنا، فالسلاح يمكن أن يكون مفيدا في يد رجل الشرطة لتحقيق الأمن للمجتمع بينما يمكن أن يكون مصدر خطر في يد بعض المجرمين، وكذلك السيارة التي تساعدنا في التنقل من مكان لآخر يمكن أن نعتبرها وسيلة ذات فائدة عظيمة، لكن إذا أخذنا نستخدمه بغير حكمة ونقودها بسرعة جنونية تصبح أداة تدمير وقتل، وكذلك الذرة التي أكتشف الإنسان بعض أسرارها وبدا في تطويعها واستخدامها كانت منها قنبلتا هيروشيما ونجازاكي التي تسببت في مقتل عشرات الآلاف، وكانت منها محطات الطاقة التي تساعد على تشغيل المصانع والإنتاج.
وحتى الطب النفسي كاحد التخصصات الطبية الهامة كثيرا ما يقوم الإنسان في بعض المناسبات بإساءة استغلاله حتى تقلب فوائدة إلى شر وأذي، وهذه إحدى القضايا الأخلاقية الهامة ففي بعض النظم السياسية كان يوصم من يعارض الحاكم بالجنون ويزج به إلى المصحات العقلية كنوع من العقاب، ولماذا نذهب بعيدا فقد شاهدت أثناء ممارستي الطب النفسي في بعض المستشفيات ما يقوم به بعض المعالجين من تهديد للمرضى إذا خرج عن الهدوء والقواعد التي تفرض عليه بالإبر المخدرة المؤلمة أو جلسات الكهرباء ! ورغم أن هذه وسائل علاجية إلا أنها في هذه الحالة تتحول إلى أداة خوف ضارة .
الصراع أنواع :
يتضمن الصراع دائما تناقض بين شيئين يكون علينا الاختيار بينهما، أو فكرتين مختلفتين، ويكون على المرء في كل الحالات أن يصل إلى حل لهذا الصراع حتى يتحقق له الارتياح من حالة القلق والتوتر المصاحبة لاستمرار هذا الصراع، والحياة سلسلة متصلة من الصراع على الإنسان أن يتعامل معها حتی يتحقق التوافق .
والنوع الأول من الصراع يسمى صراع الأقدام - الأقدام وهو الاختيار بين أمرين لكل منهما مميزات وقوة جنب، ولعل الكثير منا يواجه مثل هذا النوع ف ي مواقف الحياة اليومية، مثلا حين يكون عليك أن تختار بين مشاهدة مباراة هامة في كرة القدم على القناة الأولى للتليفزيون بينما تعرض القناة الثانية أحد الأفلام المثيرة، وهذا الموقف يواجه كثير من الناس حين يتعين عليهم الاختيار بين السفر إلى مكان بعيد فيه دخل كبير وبين الاستقرار في موطنهم الأصلي، أو بالنسبة للشباب في مقتبل حياتهم حين تكون امامهم فرصة جيدة للعمل والحصول على عائد مادي وتحقيق الثروة التي يحلمون بها وبين الاستمرار في الدراسة لتحقيق مستويات علمية رفيعة، أن حل الصراع في كل هذه الحالات يكون بحسم الاختيار في اتجاه واحد حتى تنتهي حالة القلق والاكتئاب الناشئة عن الصراع.
أما النوع الثاني من الصراع هو ما يطلق عليه صراع الأحجام - الإحجام، ويتضح من هذا الوصف ابن الاختيار هنا يتم بين أمرين لا يبعث أي منهما على الرضا والقبول، فهما كما يقول الشاعر امران أحلاهمامر، وهذا الشاعر كان يتحدث عن موقف يتعين فيه الاختيار "الفرار أو الردي"، أي الهروب من ميدان القتال مع ما سوف يترتب على ذلك من وصمه بالجبن والعار، أو مواجهة الموت، ولا شك أن الموقف هنا أصعب بكثير من نوع الصراع الأول الذي يكون الاختيار فيه من أمرين كليهما جيد ومرغوب، ونفس الموقف هو الذي يعبر عنه المثل الشانع : الدفع أو الحبس"، أي دفع غرامة مالية موجعة أو دخول السجن، ولا شك أن الأمرين كليهما من البدائل السيئة لكن علينا اختيار أحدهما لحل الصراع.
وهناك نوع أخر أكثر تعقيدا تتداخل فيه الأمور حيث يكون علينا أن نقبل الأمر الذي يتضمن مزايا نرغبها وبه في الوقت نفسه عيوب لا نريدها، ويسمى هذا النوع صراع الإقدام - الإحجام، وهو يتضمن قبول الشيء بكامله وبجوانبه الإيجابية والسلبية، ومثال ذلك ما ذكره لي شاب جامعي يتردد في التقدم لخطبة إحدى زميلاته رغم ما يتمتع به من خلق وجمال لأن والدها س بق دخوله إلى السجن وأمها التي يفترض أن تكون حماته في المستقبل سيدة متسلطة !
والصراعات الحقيقية في الحياة تكون عادة متشابكة ومعقدة، وقد أطلقنا عليها هنا علم المناعب، لأنها الأصل في كثير من الاضطرابات النفسية، ولانها دائما ياتي إلينا من داخلنا فهي من الشئون الداخلية للإنسان مع نفسه وهي ذات أولوية عن أي شأن خارجي في العالم المحيط بنا، وكلنا يؤمن بحكمة القول :" ماذا يفيد الإنسان لو كسب العالم كله وخسر نفسه"، وهناك مثل إنجليزي يقول : بماذا تفيدني الدنيا الواسعة إذا كانت جذمتي ضيقة" هذا يعني أننا إذا لم نصل إلى توافق مع أنفسنا، ونتوصل إلى السلام النفسي عن طريق حل الصراعات الداخلية فإننا سوف تظل في حالة من عدم القلق والاكتئاب والاضطراب حتى لو امتدت ممتلكاتنا لتشمل العالم كله !