عندما كنت طفلاً، لم تكن تعرف ولا تبالي بما يحدث في العالم من حولك. كان همك الوحيد هو سعادتك ورفاهيتك. العجز جعلك تتكل على ما يمكن أن يمنحه أو يفعله لك الآخرون. وكانت سعادتك الكبرى هي أن يتم إطعامك، وحملك، وتدليلك. وكان هدفك الرئيسي هو الحصول على أكبر قدر ممكن من الاهتمام.

وقد اكتشفت بسرعة أنك إذا بدأت في البكاء، فإنك بذلك تستطيع استدعاء شخص كبير للعناية باحتياجاتك. وحتى لو أنك شعرت بالملل فحسب، کنت تستطيع البكاء ومن ثم يظهر أحدهم عادة ليساعدك ويعمل على راحتك. والابتسام أيضاً كان يؤدي دوراً رائعاً. لذا فقد تعلمت بسرعة أن تبتسم عندما يتم حملك وتبكي عندما يتم وضعك.

هذا التمرين البسيط على المناورة والخداع وضع المعايير لبقية حياتك. لقد قضيت طفولتك كلها في تنمية المهارات التي من شأنها أن تترك انطباعاً جيداً لدى الآخرين وتؤثر فيهم بحيث يمنحونك انتباههم. وهكذا، فحتى في هذه المرحلة المبكرة من حياتك، كنت تبرمج نفسك على الاعتماد على قبول واستحسان الآخرين، وعلى الشعور بالنبذ عند رفضهم أو استنكارهم. وعندما كنت طفلاً، كان مثل هذا السلوك مبرراً ومقبولاً، ولكن کشخص كبير ناضج، يعتبر سلوكاً محبطاً للذات. فإذا كنت لا تزال تحاول خداع الآخرين لكي يقوموا بشيء تستطيع أنت القيام به بكفاءة، فإنك لا تستطيع أن تعتبر نفسك ناضجاً عاطفياً.

هناك عادة نامية في الثقافة الأمريكية حالياً وهي تقديم المزيد والمزيد للأطفال وتوقع ما هو أقل وأقل منهم. والآباء الذين يفعلون هذا يخدعون ويغشون ذريتهم بغير علم أو تعمد عن طريق السماح لهم بأن يكونوا متواكلين على غيرهم في أمور ينبغي أن يقوموا بها بأنفسهم. وعن طريق قضاء الثمانية عشر عاماً الأولى من حياتهم في الاتكال والاعتماد على الآخرين، يتقولب الأطفال في دور سجناء يتمتعون بمزايا السلوك الجيد. ومن المثير أن نعرف أن تلك ظاهرة بشرية. بعد الميلاد بقليل، تدفع جميع أنواع المخلوقات غير البشر صغارها إلى العالم الفسيح ومن ثم تتعلم الصغار الاستقلال.

إن أعظم هبة يمكن لأي والد أن يمنحها لأطفاله هي أن يساعدهم في أن يكتسبوا الثقة بالنفس عن طريق جعلهم يعتمدون على أنفسهم. يجب منح الأطفال المسئولية بالقدر الذي يستطيعون التعامل معه عند أي مستوى عمري. وفقط عن طريق الاستقلال يعرفون البهجة والمتعة والكرامة الإنسانية المتجسدة في الوقوف على أقدامهم بأنفسهم.

إحدى المسئوليات الأساسية للآباء في مساعدة أطفالهم في التحول بسلاسة من الاتكال إلى الاستقلال والاعتماد على الذات. ينبغي السماح للأطفال بارتكاب الأخطاء والتعلم منها. وما لم يحدث هذا، فليس من العجب أنهم عندما يتحتم عليهم القيام بشيء ما بأنفسهم في مرحلة لاحقة من الحياة يقولون: "لا أستطيع القيام بهذا!". وما لم يكونوا واثقين بالنتيجة، يرفضون محاولة أي شيء لأن آباءهم المفرطين في الحماية كانوا دائماً ما يمهدون لهم الطريق من قبل.

   في كل مرة تقوم فيها بعمل شيء ما يستطيع شخص آخر عمله بنفسه بشكل جيد، تكون كمن يسرق هذا الشخص فعلياً. وكلما زاد اهتمامك بشخص ما، كان من المحتم أن تكون أكثر يقظة وحذرة لتتأكد من أنك لا تحرم هذا الشخص من فرصة التفكير والعمل بنفسه، أيا كانت العواقب الجسدية والعاطفية. هذا لا ينطبق فحسب على علاقات الآباء والأبناء، وإنما على علاقات الزواج، والعلاقات الأسرية وجميع العلاقات الشخصية الأخرى أيضاً. إننا لا نستطيع أن نعيش حياة آخرين أو أن نحمل أعباءهم، بغض النظر عن مقدار حبنا لهم.

ينبغي قطع الحبل السري الذي يربط الآباء بأبنائهم عندما يصل الأطفال إلى بداية مرحلة المراهقة. أعتقد أنه ينبغي أن يطلب منهم البحث عن مسكن خاص بهم عند سن الثامن عشرة أو عند الانتهاء من المدرسة العليا. العديد من الآباء سيثورون على هذه الفكرة ويردون عليها بما يبدو بالنسبة لهم-أسباب منطقية. ولكن الحقيقة تظل هي أنه لا شيء يبني الاعتماد على الذات لدى الشاب اليافع أكثر من الاضطرار إلى العيش وحده.

ومن المثير للاهتمام أن جميع الأشخاص بلا استثناء تقریبأ الذين حققوا نجاحاً عظيماً في شتى المجالات، بما فيها العمل، والحكومة، والفنون، والعلوم، هم أشخاص إما انفصلوا عن آبائهم بمشقة وصعوبة وإما قرروا أن يحرروا أنفسهم من سلطة آبائهم في سنوات نضجهم المبكرة.

   إننا نسمع أعذاره مثل هذه: "إننا نرغب في مساعدتهم على إتمام دراستهم"، "سيكون من المفيد لهم مادياً أن                                           يعيشوا في البيت"، "فقط إلى أن يتمكنوا من الاعتماد على أنفسهم"، "إنهم لا يستطيعون بحال أن يتحملوا تكاليف الدراسة والسكن معاُ"، وما إلى ذلك. ظاهرياُ، قد يبدو أن الوالد يفعل هذا من أجل مصلحة ابنه، ولكن الحافز عادة ما يكون هو إشباع حاجة شخصية لديه.

والآباء الذين يتقبلون وينمون هذا الموقف الذهني لا يفعلون أكثر من تأخير يوم القرار النهائي وجعل الأمر أكثر صعوبة عندما يكون محتماً على أبنائهم مواجهة عالم الكبار بأنفسهم. ومن خلال الاستخدام الخاطئ للحب الأبوي، شجع الآباء أبناءهم على مواصلة الاتكاء والاتكال عليهم وتوقع الحصول على المساعدة والدعم من الآخرين كما لو كانوا لا يزالون أطفالاً صغاراً.

    الآن، دعوني أوضح وجهة نظري في هذا الأمر. إنني لا أقول إنه ينبغي عليك ألا تساعد أو تدعم ابنك، أو شريك حياتك، أو أسرتك. وما أقوله هو أنه ينبغي عليك أن تتيح لهم الحرية الفردية للقيام بما يشعرون أنه ينبغي عليهم القيام به لكي يكبروا وينموا ويتطوروا، ومساعدتهم هي محل دعمهم وعطائهم. أعطهم الحب، والتشجيع، والتقدير لإنجازاتهم. تلك هي العناصر الأساسية المهمة للنمو والتي لا يستطيعون توفيرها لأنفسهم. وحتى المساعدة المالية ينبغي النظر فيها بعناية. لا بأس بأن      ترغب في مساعدة الابن المالية، ولكن المساعدة المالية ينبغي تقديمها بشرط السداد. إن الأفراد الذين لم ينموا القدرة على الاعتماد على النفس ليس لديهم خيار سوى اللجوء إلى الخداع والمناورة للحصول على ما يريدون. فإذا لم تكن تعتمد على نفسك، فعليك أن تعتمد على مهارتك في التأثير على الناس لخدمتك وإشباع احتياجاتك. وإذا كنت تستخدم الآخرين بالفعل كمطية للتقدم في الحياة، فإنك لا تستطيع بحال أن تسير بسرعة أكبر أو المسافة أطول مما تستطيع إقناعهم بها، وإذا كنت والداً، فكن دائماً واعياً لأي تصرفات يمكن أن تجعل ابنك يظل عبداً لأنه سيدفع ثمناً غالياً لذلك في مرحلة لاحقة من حياته.